الحلقة الأولى


منذ أن ظهر الدين على وجه البسيطة ظهرت معه السلطة الدنيوية وبدأ الصراع بينهما، من يحكم من، ومن يحكم باسم من؟، عند ذلك ظهرت عناوين الدولة الدينية والدولة العلمانية وما بينهما من صراع وتعايش أو تواجد مشترك. في العقدين الأول والثاني من القرن المنصرم، القرن العشرين، تبلورت فكرة إمكانية عودة الدولة الدينية للوجود السياسي لاسيما في دول العالم الثالث والدول الإسلامية منها على وجه الخصوص، بعد أن كانت الدولة الدينية قد أحكمت قبضتها لقرون طويلة على الحياة السياسية للعالم وقيدت الأمراء والملوك والأباطرة. من المتعارف عليه أنه كان للدين دور المهيمن والمسيطر والموجه منذ نشأة الدولة بصيغتها الحديثة فقد كان الملوك يحكمون باسم السماء وهم ظل الله على الأرض ومباركة الكنيسة. وكان ملوك إسرائيل يحكمون بتفويض مباشر من الله كما يدعون لأنهم شعب الله المختار وهو الذي منحهم حكم البشر على الأرض ثم أعقبتهم الكنائس المسيحية بمختلف طوائفها لتتحكم بالحياة السياسية للأمم في الإمبراطوريات القديمة. ولكن بعد صراع مرير نشأت الدولة ـ الأمة العلمانية الحديثة التي فصلت الدين عن الدولة وتحولت إلى دولة ميدنية ـ علمانية تعمل بموجب دساتير وضعية وقوانين مدنية وضعها البشر وخبراء القانون والتي جردت المؤسسات الدينية من امتيازاتها السياسية والسلطوية، وفي نفس الوقت منحتها الحماية، وصانت الحريات العامة، وعلى رأسها حرية التعبير، وحرية الاعتقاد، وحرية ممارسة الطقوس والشعائر الدينية وحرية التعبير عن الرأي والمعتقد كبديل عن القمع والاضطهاد والبطش والتعذيب وهي سمات ممارسات الكنيسة الكاثوليكية إبان فترة محاكم التفتيش السوداء سيئة الصيت. بيد أن الإشكالية القائمة بين الدين والدولة في العالم الإسلامي كانت وما تزال أكثر تعقيداً وحساسية. لأن الإسلام، ومنذ بداياته كان دين ودولة، عقيدة وسياسة في آن واحد، وهو عبارة عن نظام حكم يستمد شرعيته من الله استناداً إلى مقولة الحاكمية لله التي أحياها في العصر الحديث الباكستاني أبو الأعلى المودودي وتبنتها جماعة الأخوان المسلمين في مصر منذ اليوم الأول لتأسيسها على يد حسن البنا.أي العمل بكل السبل الممكنة على تطبيق شرع الله على الأرض وبالقوة إذا تطلب الأمر ذلك. والسعي بكل الطرق إلى تطبيق الشريعة الإسلامية حرفياً كما نص عليها كتاب الله القرآن وسنة نبيه محمد وتنفيذاً لحديث معروف مروياً عن النبي يقول :quot; من رأى منكم منكراً فليغيره بيد وإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستدع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان quot; وهذا يعني أن على كل مسلم لاسيما من هم في مواقع السلطة، ورجال الدين، أن يمارسوا عملية التقويم المجتمعي وتطبيق القوانين والتشريعات السماوية وفرضها على الآخرين شاءوا ذلك أم أبوا. لكن المشكلة تكمن في من الذي يحدد ما هو منكر ولماذا عُد منكراً ومن خوله بهذه المهمة ومنحه هذه السلطة والقيام بالتغيير بالوسائل المتاحة وإن كان بالقوة والعنف وتكفير الآخر؟، وهنا مكمن الخطورة لاسيما إذا كان رجال الدين هم الذين يمسكون بزمام السلطة الدينية والدنيوية في نفس الوقت. أثبتت التجارب في تاريخ البشرية أن رجال الدين إذا امتلكوا السلطة فإنهم سيطبقون رؤاهم وقوانينهم على الجميع حتى لو كان ذلك بقوة السلاح والبطش كما حدث ذلك بالأمس في أوروبا واليوم في الدول الإسلامية كأفغانستان وغيرها ويقمعون كل من يخالفهم الرأي والمعتقد أو المذهب أو يتمرد على سلطتهم ويطبقون الحدود كما وردت في النصوص الدينية بحرفيتها بدون أي اعتبار لمتطلبات المرحلة التاريخية وتطور البشرية العمراني والأخلاقي والتقني كالجلد والرجم وقطع اليد التي وردت في أدبيات التشريع الإسلامي.
ومن الشائع أن رجال الدين ماهرون في استغلال النصوص الدينية والتلاعب بها تفسيراً وتأويلاً لتخدم مآربهم وغاياتهم ويعرفون كيف يؤثرون على العقول والأذهان والأدمغة والمشاعر ويؤججون النفوس بخطبهم ومواعظهم ومحاضراتهم وكتبهم وبرامجهم التلفزيونية. لذا يتطلب التعامل معهم معرفة جذور أيديولوجيتهم وأصول معتقداتهم ومفاهيمهم والظروف التي واكبتهم منذ ظهور الرسالة المحمدية إلى يوم الناس هذا، ومعرفة ما يسكنهم من هواجس ومخاوف وشكوك تجاه الآخرين وسبر أغوار تفكيرهم تجاه خصومهم وأعدائهم. ومن المعروف أن التيار الأصولي أو السلفي، وبشكل خاص الاتجاه المتطرف منه ذو المنحى التكفيري، لا يعترف بالآخر، ولا يريد محاوراً من الطرف الآخر المغاير له بالتفكير والفهم والتفسير، وأن العالم بالنسبة له يخضع لثنوية حادة لا وسط فيها، إما الأتباع أو الأعداء.وكل ماعدا ذلك فهو غير موجود أو لا يستحق الوجود، حتى المعتدلين في معسكرهم، ممن يبحثون عن تسوية أو تفاهم أو تعايش، فهم أيضاً محكوم عليهم بالموت والفناء والتكفير والردة. وهم يتصدون للعقول النيرة والمبدعة المنفتحة التي تتوسل المنطق والحجة العقلية والمقارعة بالمثل والتعامل مع ذات النصوص المقدسة بانفتاح واعتدال وبفطنة وذكاء وحرية، ممن يعملون على إشاعة المعرفة والوعي المنفتح لأن من يملك وعياً متقدماً وفهماً معمقاً بالقرآن والسنة سيسعى حتماً إلى توعية المؤمنين بقراءات ومقاربات للنصوص أكثر حداثة وتلاؤماً مع العصر الحديث وهذا لا يناسب السلفيين والأصوليين التكفيريين المتشددين والمتجمدين لأنه يهدد سلطتهم على الشارع الإسلامي ويقلل هيبتهم ويعريهم ويكشف جهلهم وشعوذتهم لذا تراهم متوترون ويصدرون الفتاوى والأحكام القاسية والباطشة ويأمرون بارتكاب المجازر ضد المدنيين ويمارسون عمليات القتل البشع والتمثيل بالجثث والإقصاء والتهديد وممارسة العنف اليومي ضد كل من ينادي بالخروج من سطوتهم ويدعو لمقاومتهم.
هناك مفكرون مسلمون، متدينون ومطبقون لتعاليم دينهم لكنهم يقولون أنهم علمانيون استوعبوا الحداثة والعصرنة وقوانين التطور العلمي الكوني والفلكي والفيزيائي والكيمائي والبيولوجي والنفسي والاقتصادي والعمراني والفني، إلا أنهم أصبحوا أهدافاً مفضلة للتكفيريين الذين يتهمونهم بالكفر والعمالة للأجنبي، باعوا دينهم وضمائرهم للغرب المستغل والمعادي للدين.كما أنهم يمنعون عن أي كان من خارج صفوفهم أي تحليل ودراسة للعقيدة والحديث والسنة والتاريخ والسيرة وقراءة وتفسير الرسالة النبوية لأنهم اعتبروها حكراً لهم وحدهم والويل لمن يتحداهم وهذا النوع من التفكير واضح في أيديولوجية تنظيمات متطرفة وإرهابية من نوع القاعدة والطالبان والجماعات المتطرفة في الباكستان وأفغانستان والعراق.
كانت مسألة التعامل مع الدين والمذاهب الدينية في العراق من أكثر المواضيع الشائكة والخطرة التي واجهت قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني. فمنذ اللحظات الأولى للعمليات الحربية ضد العراق تساءل كثيرون حول قابلية وقدرة الأمريكيين على إعادة إعمار البلاد واحتواء أو السيطرة على التنوع الديني والمذهبي والعرقي أو القومي والإثني، أي ذلك التباين والتنوع الذي برز للسطح منذ الساعات الأولى لسقوط النظام الصدامي وبروز القوى الديني ـ السياسية، الشيعية والسنية على الساحة العراقية. ينبغي لنا القول أن الحضور العسكري الأمريكي ـ البريطاني قد زاد من حدة التمايز والتنافر والتباين الديني والطائفي والمذهبي، وقد اثبت الأمريكيون عجزهم عن إدارة تبعات وعواقب الاحتلال في العراق بالرغم من توفر فترة عام كامل قبل تنفيذ العملية العسكرية وغزو العراق للتحضير لمرحلة ما بعد الغزو ليس فقط لأنهم ليسوا مؤهلين بنيوياً للتأقلم مع هذا النوع من الاحتلال الاستعماري فحسب، بل لأنهم ارتكبوا أخطاء فادحة في حساباتهم ومقارباتهم. أول تلك الأخطاء هو اعتقاد الأمريكيين أن سقوط صدام حسين لن يؤثر على حسن سير وعمل الدولة ومؤسساتها التي ستبقى سليمة نسبياً بيد أنهم لم يستوعبوا حقيقة ما سبق أن أشار إليه الباحث الفرنسي الكبير الخبير بالشأن العراقي الصديق بيير جون لويزار في كتابه المرجعي quot; المسألة العراقيةquot; وهو أن صدام حسين وعصبته قع عملوا بالضد من الدولة وقد شلوا جهاز الدولة وقوضوها منذ سنوات طويلة وأعادوا المجتمع إلى النزعة القبلية وسيطرة العقلية العشائرية حيث بات المجتمع يُسَيٌر ويقاد وفق شبكات شخصية لتأمين الحماية البديلة في الوقت الذي يواجه فيه جهاز الدولة أزمة أو عجزاً أو غياباً تاماً quot; فالرؤية الأيديولوجية الأمريكية البحتة حيال الوضع العراقي تتمثل بمعادلة quot; الديمقراطية مقابل الاستبداد quot; وهذا هو الخطأ الفادح الثاني الذي ارتكبه الأمريكيون في العراق حسب رأي الباحث في الإسلاميات أوليفيه روا. واعتقدوا أنهم سيكونون موضع ترحيب من قبل الشعب العراقي لأنهم جاءوا إليه كمحررين وليسوا كغزاة وسيأخذهم الشعب بالأحضان عرفاناً لهم بالجميل ولم يفهموا أو يستوعبوا ردة الفعل الشعبية ضد الاحتلال ولم يفهموا ذلك حتى الآن بالرغم من مرور أربعة أعوام على احتلالهم للعراق لأنهم أهملوا عامل الشعور القومي والوطني الذي يميل للاستقلال وهو ما يشكل مفتاح الهوية العراقية.
لم يصطدم الأمريكيون في بادئ الأمر بالشعور الديني بينما يأتي عدم فهم الشعور الوطني والقومي من ثوابت الموقف والسلوك الأمريكي في هذه المنطقة.فهذا التفكير السياسي ـ الأيديولوجي يطرح مشكلة مهمة على الإدارة الأمريكية غير المبنية على معادلة المصالح الاقتصادية والنفطية فقط بل على الاعتبارات الأيديولوجية والإستراتيجية، فالأمريكيون يرغبون في الواقع بإعادة ترتيب وتنظيم ونمذجة الشرق الأوسط برمته بلعبهم ورقة الديمقراطية بوجه الأنظمة الشمولية القائمة ولأنهم يعتقدون بسذاجة أن كل بلد ديمقراطي هو بالضرورة والبديهة بلد موالي وصديق لأمريكا ويوافق على إقامة السلام مع إسرائيل وهم لا يلتفتون إلى حقيقة أو لا يرون بوضوح أنه لكي توجد الديمقراطية عليها أن تتجذر في التربة الوطنية وفي الشعور والانتماء القومي والوطني للبلد. لذلك لم يفهم الأمريكيون ردة الفعل التركية وتصويت البرلمان التركي ضد مطلب التعاون مع مشروع الاحتلال الأمريكي للعراق وتصويت البرلمان التركي لصالح عدم تقديم التسهيلات التي تحتاجها القوات الأمريكية وطلبتها رسمياً الإدارة الأمريكية من تركيا قبل الحرب بالرغم من ديمقراطية النظام التركي من وجهة النظر الأمريكية ولذلك استغرب مهندس الحرب الأمريكية على العراق وولفوفيتز من عدم تحرك الجيش التركي، الحليف الإستراتيجية والتاريخي لأمريكا، لإرغام البرلمان التركي على التصويت لصالح الطلب الأمريكي.
أما ما يتعلق بالشأن الديني فإن نظرة الأمريكيين أكثر براغماتية من نظرة الأوروبيين لأن الدين متجذر في السياسة الأمريكية ومتداخل معها أكثر من تفاعله وتواجده في السياسة الأوروبية، وبالأخص الفرنسية منها. فعودة رجال الدين الشيعة وآيات الله للاهتمام والاشتغال بالشأن السياسي لم يمثل للأمريكيين تهديداً ومقابل ذلك لم يقابلهم رجال الدين المهمون في البلاد بالعدائية في بادئ الأمر. لم يتمكن الأمريكيون من احتواء وإدارة الفوضى العارمة التي نجمت عن فراغ السلطة في بغداد وبعض المحافظات الأخرى ومع ذلك لم تقع حوادث مهمة أو صدامات في أول ممارسات طقوسية شيعية حرة وشاملة في العراق بمناسبة ذكرى حوادث ألطف في عاشوراء التي استشهد فيها الإمام الحسين حفيد النبي وأنصاره في كربلاء بعد انهيار النظام ألصدامي الذي كان يمنعها بقوة السلاح والعنف وبالتالي شعر الأمريكيون أن الشعور القومي هو الذي يشكل الصعوبة الحقيقية أما تقبل الوجود الأمريكي ـ البريطاني المحتل.
كما شعر الأمريكيون بأهمية الدور الإيراني وعلاقته العضوية مع أغلب مكونات الطرف الشيعي في العراق وبالتالي إذا أرد الأمريكيون فرض الاستقرار في العراق فعليهم أن يراعوا الجانب الإيراني ويتعاملوا معه بحذر شديد في حين أن هذا الأخير كان يبدو أنه لا يعبأ بالتهديد الأمريكي بالرغم من قربه الشديد من حدوده.وبدا أن إيران كانت مستعدة وراغبة في أن تصبح المحاور المفضل للأمريكيين في الشأن العراقي والتزام جانب الهدوء والتهدئة في العراق لو سارت الأمور كما كان ينبغي لها أن تكون لكن تراكم الأخطاء وتفاقمها في التعامل مع الملف الإيراني باللجوء إلى سياسة الإملاء والفرض والعنجهية والغطرسة دفع طهران لتغيير قواعد اللعبة في العراق فحركت إيران أعوانها وأنصارها والموالون لها من رجال دين وميليشيات لتقلب الطاولة على رأس الغزاة الأمريكيين.

د. جواد بشارة

باريس
[email protected]