ناظم عودة: لا يمكن فهم محاولات تأسيس مرجعيات نظرية للثقافة العربية في العصر الحديث، من دون دراسة ذلك ضمن منظور تكوين التاريخ العربي الحديث. ذلك التكوين الذي أراد أن يظفر بأسباب التمدن الأوروبي، ويكشف عن نمط التفكير والثقافة التي أنتجت هذا التمدن. ماذا يعني هذا بالنسبة لموضوعنا: تأسيس النظرية في الفكر العربي الحديث؟.
لاشك في أنّ بداية النقد في هذا العصر، كانت تتطلع إلى الاتصال بمرجعية معرفية جديدة تنقلها إلى العالم الجديد، تتمثل في الأخذ من مصدر آخر غير الثقافة العربية التقليدية ذلك هو الثقافة الأوروبية، التي كانت مدار إعجاب الطلائع الأولى من المثقفين العرب ممن تسنى لهم الإطلاع على التغيرات والدساتير السياسية فيها، وعلى علومها ومعارفها منذ مطلع القرن التاسع عشر.
وفي طليعة ذلك، كانت الثورة الفرنسية 1789 التي أثّرت في الفكر العربي تأثيراً واسعاً، إذ استلهم المفكرون من مبادئها القدرة على ممارسة النقد السياسي للحكم المطلق الذي قامت عليه الدولة العثمانية. وكان أمين الريحاني (1876-1940) من بين أهم المفكرين ممن تأثروا بالفكر الذي انطوت عليه تلك المبادئ، فوضع كتاباً عن تلك الثورة: موجز تاريخ الثورة الفرنسية، واستلهم مبادئها ونمط الفكر الذي صاحبها فكشفت كتاباته عن ذهنية نقدية جذرية في ميادين السياسة والاجتماع والفكر والأدب. وربط بين تقدّم الأمم ونيل حقوق الإنسان، قال في الريحانيات:
وأول حقوق الإنسان: الحرية، حرية الفكر وحرية القول وحرية العمل... وأول أسباب الرقي في الأمم: الحرية الاجتماعية والحرية السياسية والحرية الدينية. وأول دلائل الحياة الحرة الراقية أن يتمتع أفراد الأمة على السواء بهذه الحقوق الطبيعية.
ولعلّ مفهوم الحرية الذي انتقل إلى الفكر الغربي من مبادئ الثورة الفرنسية، كان يهيئ العقل العربي لإجراء حلحلة للجمود الفكري والثقافي والاجتماعي والسياسي. وكان من نتائج تداول الحرية في الكتابات العربية، أن اتجه التفكير جدياً إلى تجديد الأدب العربي، وتجديد مفاهيم قراءته. وفي ضوء هذه الجدلية، يمكن تفسير محاولة أمين الريحاني في كتابة: الشعر المنثور، والتنظير لهذا الجنس الشعري الجديد منذ العام 1910، أو حديث جرجي زيدان عنه في العام 1905، وهي أقدم إشارة عن هذا اللون من الشعر.
مطلب الحرية هذا، كان مطلباً انطولوجياً للفكر العربي الذي وجد نفسه ينازع: الاستبداد العثماني، ونمط الحكم المطلق، وانسحاق الإرادة الشعبية ومطالب حقوق الإنسان بالتضييق على الحريات الاجتماعية والسياسية والفكرية من لدن السلطة العثمانية. وقد تعرّف العرب على مبادئ الثورة الفرنسية، من خلال كتاب: محاكمة مدحت باشا، الذي عرّبه يوسف كمال حتاتة وصدر هذا التعريب بمصر. وانطوى على حديث مسهب عن مطلب الحرية، من قبيل: الحرية تحدد للإنسان حدوده، وتعرفه موقفه من الهيئة الاجتماعية... وهي التي أوصلت الحكومات المتمدنة إلى درجة الرقي. وانطوت كذلك على نقد الحكم الأوتوقراطي العثماني، الذي استغلّ الدين شعاراً للاستبداد.
إن أهم نتائج تداول مبادئ الثورة الفرنسية والفكر المصاحب لها، هو يقظة المفكرين العرب إلى وجوب (تعريب) و (أسلمة) تلك المبادئ، وكان هذا مطلباً من مطالب الوعي بـ: الهوية. وفي طليعة الداعين إلى التوفيق بين تلك المبادئ ومبادئ الإسلام، جمال الدين الأفغاني (1839- 1897)، الذي اطلع على الثورة الفرنسية ومبادئها كما يقول رئيف خوري (1913- 1967) من خلال انضمامه إلى: الحركة الماسونية في مصر أيام الخديوي توفيق، والتحق بالمحفل الاسكتلندي ظناً منه أن الماسونية حركة تحريرية، ولا يزال هناك اعتقاد إلى اليوم بأن الماسونية لها يد قوية في كل الثورات، ومنها الثورة الفرنسية.
هذه القضية، بحثها في وقت متأخر جرجي زيدان (1871-1914) في كتابه: الماسونية، في فصل خاص تحت عنوان: الماسونية والثورة الفرنسية.
ومهّد لهؤلاء في أواخر القرن السابع عشر وبدايات الثامن عشر، الإرساليات الأجنبية التي فتحت لها مدارس خاصة، تُدَرَّس فيها العلوم الحديثة على الطراز الغربي. ويرجع نشاط هذه الإرساليات إلى مطلع القرن السابع عشر، واقتصر في البداية على: إنشاء عدد قليل من المدارس والمعاهد في أماكن متفرقة، ونشر كتب العبادات. وكانت هذه البعثات كلها كاثوليكية، ومعظمها فرنسية، وتنتسب إلى اليسوعيين أو الكبوشيين أو الكرمليين. ولكن بعد سنة 1834، تم إنشاء كلية خاصة بالذكور في عين طورة(عنطورة)، ونقلت مطبعة البعثة التبشيرية الأمريكية من مالطة إلى بيروت، وأقدمت زوجة المبشر إيلي سميث (1801- 1857)
على تأسيس مدرسة للإناث في بيروت، وقام إبراهيم باشا (1790-1848) بتطبيق برنامج واسع للتعليم الابتدائي للذكور على نمط النظام الذي أقرّه أبوه في مصر.
وتعدّ كلية عين ورقة، من المراكز العلمية التي عنيت بـ: تشجيع دراسة الأدب العربي، وقد تلقى العلم منها أكثر البارزين من الأدباء والأساتذة العلماء الذين ظهروا في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
ومن يقلّب صفحات تاريخ حركة الإصلاح، سيجد فيها ميلاً يكاد يكون متطرفاً لاستلهام قيم الغرب المادية والفكرية لدى طبقة واسعة من الشباب العربي. وعُدَّ هذا العصر منذ 1850 إلى 1930 عصر الليبرالية العربية، الذي أراد العرب فيه محاكاة النهضة الغربية في الجوانب المادية والثقافية. لكن صدمة المرحلة الاستعمارية، وما رافقها من محاولة محق الهوية العربية، خيّب ظن الانتلجنسيا العربية (طبقة المثقفين العرب) في الاعتماد على أفكار ونظريات الغرب في السياسة والثقافة والاجتماع.

[email protected]