رسالة إلى السيد حسننصر الله

أعلمُ أن سيكولوجيا القيادة تدفعك إلى ذلك الخطاب الحماسيّ، وتلك البلاغة الثورية، وبين يديك جمهور يرقص على شفرة الحرب، لكن ثمة كلمات تتلجلج في صدري، هل تنصتُ إلى تلك الكلمات؟ هل تنزع عنك جبة الحرب وعمامة البلاغة، لنشرب معاً فنجان قهوة لبنانية؟. هل من الممكن أن يتحاور كاتب ضعيف مدجج بالكلمات حسب، وقائد مدجج بالقوة والبلاغة؟.
من هو فؤاد مغنية، هذا لا يعنيني، لأنني لا أجد فرقاً بينك أنت السيد حسن نصر الله وأي لبناني آخر يتمتع بروح لبنانية حقيقية. ولعلك تتفق معي في أن هذا مبدأ إسلامي وإنساني في آن. الجريمة بشعة، بل أبشع ما في الوجود هو هذه الجرائم التي ترتكب ضد الإنسان البريء. وأنتم تزعمون أن إسرائيل وراء اغتيال فؤاد، ومن حقكم أن تتهموا أي طرف حتى لو كنتُ أنا في عزلتي هذه، لكن الرأي العام تلك القوة التي نتجاهلها دائماً لا يقتنع بهذه التهمة، ولا يحبّ التخمين، الرأي العام يريد دليلاً قوياً، والرأي العام- أعني الأجنبي عموماً ولاسيما الغربي- لا يحب القصاص على طريقتنا العربية؛ أي اللجوء إلى الثأر من دون مقاضاة أو محاكمة. وتقويةً لحجتي في ذلك، أسوق إليك هذه الحادثة: في مذكراته (حينما لا نرى الشرّ) ذكر بوب بير، مسؤول العمليات في بيروت في العام 1985: إن أحد الرجال بملابس الكاوبوي اقترب منه عارضًا عليه اغتيال مغنية مقابل 2000 دولار، لكنه رفض العرض مطالبًا بالقبض على مغنية حيًا. ويذكربوب بير قيامه بوضع 100 دولار في جيب أحد المخبرين حيث كان يقوم الرجل بجمع المعلومات عن مغنية وسؤال جيرانه ومراقبة بيته وسياراته، بينما واصل المخبر عرضه بأن يتم اغتيال مغنية بدل القبض عليه حيًا. هل لاحظت معي، أن اللبناني مستعجل جداً من أجل اغتيال لبناني آخر من بني جلدته، على حين أن الأمريكي الذي في موقع مسؤول عمليات يرفض اغتيال واحد من الشخصيات الخطرة المطلوبة للحكومة الأمركية. وللأمانة أدين بالفضل للأستاذ زياد بنيامين في حصولي على هذه المعلومة من مقال نشر في إيلاف قبل أيام.
أخلص من هذا إلى الآتي: إذا كانت إسرائيل أو أمريكا قد اعتدت عليكم، فمن حقكم المعاقبة، لكن ما طريقة أو أسلوب المعاقبة؟ هذا هو المهم. لماذا؟. أنا لا أريد أضع بين يديك قطعة إنشائية جميلة، أنا ابن تجربة تاريخ حربي نازف منذ أن كنت على مقاعد الدراسة الابتدائية حتى الآن، وابن تجربة موت مريرة، فلا يضق صدرك مني. أعود إلى تساؤلي بـ: لماذا؟. قبل أن يجتاح صدام حسين [وأنا هنا لا أقارن بينكما مطلقاً] الكويت بتلك الهمجية التي جعلتنا نشعر بالخجل إلى الأبد، اشتدت ملاسنات صدام مع أعداء وهميين أحياناً. هو يتشاجر مع الكويتيين، لكنه حشر إسرائيل في وسط العزاء وأضاع نفسه وأضاعنا والعراق معاً. جلس الرئيس ببزته العسكرية المرصعة بأرفع النياشين العسكرية والبطولية التي كان يُلبسها لنفسه بقرار منه شخصياً، وكانت تحيط به ثلة لا تجيد سوى التصفيق، والنَّعَم سيدي، وقال قولته المشهورة وهو يرفع بيده مكثفتين صغيرتين من إنتاج معامل التصنيع العسكري التي حرقت كل ثروة العراق، قال: سنحرق نصف إسرائيل، واشتعلت القاعة بالتصفيق وتجرّحت الحناجر بالهتافات. صدام سلّم أعداءه دليل إدانته بيده وبملء فمه، تلاقف الإعلام هذا التهديد الذي صدر من أعلى رمز في البلاد وأدخله إلى كل بيت من بيوت العالم، فتمكنت فكرة اعتداء صدام على إسرائيل قبل القيام بأي عمل. كسبت إسرائيل المعركة الإعلامية، وكسبت تعاطف الرأي العام، فيما خسر رئيسنا الاثنين معاً. وعندما وقعت عاصفة الصحراء، كان العالم كله يدينه لأنه غزا الكويت أولاً، وهدّد إسرائيل وضربها على الرغم من أنها ليست جزءاً من المعركة الفعلية ثانياً. خسرنا الحرب عسكرياً، وخسرنا أخلاقية الحرب كذلك.
الطرف الآخر الذي قاتلنا، كان يملك وثائق إدانتنا لكي يكسب تعاطف الرأي العام. وعندما قمتم باختطاف الجنديين الإسرائيليين، فرحت إسرائيل أيما فرحٍ لأنها كانت تبحث عن شرعية لشن الحرب عليكم وعلى لبنان قاطبةً. إسرائيل كانت تُظهِر للعالم أن الذي lt;lt; يعتديgt;gt; عليها حزب، وليس دولة، وهكذا بالنسبة لما يجري في فلسطين، إذ تلعب إسرائيل على هذا الوتر أمام الرأي العام العالمي. وثعلبة إسرائيل ودهاؤها يتبدى في مسألة أخرى، هي أن حزب الله، وحركة حماس، والجهاد الإسلامي، وسواها، أحزاب أو حركات ذات أيديولوجية إسلامية، وأنتم تعرفون صورة الإسلام لدى الرأي العام العالمي، هي صورة: العنف المطابق للعنف التاريخي الذي اصطبغ به تاريخ الإسلام.
هذا يعني، أن الصراع الحقيقي هو الصراع على السرد السياسي، أن تكون بارعاً في السرد فهذا يعني أنك كسبت نصف المعركة. ومن هنا، وجدت إسرائيل أن ذلك خير مخرج لتبرير عدوانها، فكانت تلك الحرب الوحشية في يوليو 2006 التي كنا نتابعها بألم مابين عرب كمن يخفي الشفرة في حنجرته [لأن الحكام العرب يعتبرونكم حزباً لا دولةً، وبعضهم ينظر إليكم نظرة طائفية بعد تصاعد الخلاف على السلطة اللبنانية، فعندما تقاومون أنتم بلا هوية طائفية أنتم لبنانيون، وعندما تقتربون من السلطة فأنتم شيعة طائفيون، وربما أنتم صفويون، وعملاء و....و... والعقل العربي بارع في اختراع التهم، والتحوّل يميناً وشمالاً]، ومابين جسور تهدم وعوائل تشرد وبنية تحتية تحترق ورعب ينتشر في كل مكان. أنا أعترف ببسالتكم، وأعترف أنكم الشفرة الحقيقية في حلق إسرائيل الممتلئ بدماء العرب جميعاً، لكن نحن نتطلع إلى بسالتكم القانونية، بسالة الحجة، بسالة أن تقود جمهوراً غفيراً من الوثائق لتحاكم القتلة. تعبنا من حرب الصواريخ، نريد حرب القانون. تعبنا من قادة الحرب، نريد قادة القانون والحجة الناصعة والسلام الذي يجعلنا ننام بلا كوابيس الحرب.
عندما ترتكب إسرائيل المجازر بحق الفلسطينيين، يتشكل رأي عام مضاد نحن نحتاج إليه، ولكن في الوقت الذي ينمو ويتصاعد ذلك التأييد يردّ الفلسطينيون بتفجير انتحاري، والعالم كله ينبذ التفجير الانتحاري ولا يتعاطف معه حتى لو انطبقت السماء على الأرض، فتذهب كل حقوقنا أدراج ذلك التفجير الطائش بحق المدنيين الإسرائيليين. ولكي لا أدع فرصة لمن يصطاد في الماء العكر، فإنني أجاهر بإدانة الاعتداء على المدنيين من كل الجنسيات، ولا أستثني أحداً.
لنرجع ثانية إلى عملية الاغتيال، لقد صرحتم أن: (اختيار إسرائيل لميدان خارج الأرض اللبنانية لتنفيذ عملية الاغتيال أسقط عن الحزب كل تحفظ في استهداف أهداف اسرائيلية خارج ميدان القتال الفعلي). وهذا ما تنتظره إسرائيل وحليفتها أمريكا. هم دائماً ينتظرون من الشرق العاطفي، الحماسيّ، الثوري، أن يدخل لسانه إلى الحرب قبل بندقيته، ليظفروا بإدانة العالم له بوقت سابق لاندلاع الحرب. وهذه من خدع الحرب التي يجيدونها، وللأسف نحن لم نتمكن جيداً من ممارسة سيكولوجيا الحرب. لماذا تعجلتم في إعلان الحرب؟. لماذا فتحتم الحرب على مصراعيها؟. لماذا توجهت بلاغتكم إلى جمهوركم فخاطبتموه من حيث يريد ويرغب، لا من حيث يريد منطق الحرب، ويريد الرأي العام، لتكسبوا الجولة، لتحرجوا عدوكم، لتنتصروا عليه؟.
لماذا صدَّرتم إلى العالم جبتكم الحربية، ولم تصدّروا إليه جبة الحلم الواسع، جبة الحكمة والموعظة؟. لعلّ كلامي هذا يندرج في الفهم الكلاسيكي للحرب، ولكي نكون أكثر حداثة في فهمها، أتساءل: لماذا لم تستغلوا تسليط الإعلام عليكم في تلك اللحظة، فتعرضوا بشاعة عدوكم في مقابل جنوحكم إلى السلام. كيف يمكن أن يغيب عن بالك هذا وأنت القائد المحنك؟. لماذا لم تطالبوا بمحاكمة دولية بدلاً من إعلان الحرب المفتوحة؟.
لا أريد أن أطيل عليك اللماذا هذه، دعنا نشرب قهوتنا قبل أن تبرد، أو أنها بردت الآن حقاً، ودعني أترك على بساط ضيافتك زهرة بيضاء كتبتُ على أوراقها كلمات خرجت مني دون أن أدري: انتصِروا على إسرائيل بإعادة بناء البيت اللبناني، انتصِروا على أعدائكم المتربصين بكم طائفيةً بأن تبادروا إلى خلق السلام والحوار المقدس ما بين الكنيسة والجامع والحسينية، ما بين فيروز وأفق لبنان الملبّد بغيوم الحرب التي تنتظرها إسرائيل بفارغ صبرها، لتضحك، لتغفو ملء عيونها، ليهنأ زادها وشرابها، لترفع نخب هزيمتنا لأنفسنا بأنفسنا. حارب إسرائيل بإخراج لبنان من ورطة التمزق. إشرب قهوتك، ودعني أُلملم أوراقي وأستودعكم: في أمان الله.

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه