عندما تحوّلَ صدام إلى مذيع تلفزيوني وتحوّلَ الصحّاف إلى مراسل حربي


-1-
البلاغة الدكتاتورية بدلاً من البيانات الصحفية
لم يستغن صدام عن الكاميرا التلفزيونية حتى اللحظة الفاصلة التي قرّر فيها أن يذهب إلى حفرته، وآخر علاقة له بالمايك كانت يوم ظهر على الشاشة الصغيرة مرتدياً نظارات ذات دزاين كلاسيكي قيل إنها تعود إلى امرأة عجوز كان الرئيس يتفاءل بها. اختار صدام غرفة البث والمصور المخرج الذي يأمن جانبه، وراح الاثنان يباشران تسجيل كلمة ينتظرها العالم بفارغ الصبر. ظهر الرئيس وقال كلمته التي سنأتي عليها في السطور القادمة، وحينما فرغ من كلمته، خلع نظارة العجوز وقال للمصور المخرج: شلونها شي على شي؟ زينة مو؟، أي كيف وجدت الكلمة عموماً؟ وقبل أن يجيب المخرج المصور، أجاب صدام على سؤاله بنفسه: زينة مو؟؛ أي جيدة أليس كذلك؟. طبعاً السؤال والجواب يكشف عن خصال الديكتاتورية، فليس من المعقول أن يعطي حق الجواب لمصوره المخرج الذي هو أصلاً من أفراد حمايته الذين عادة يقومون بالتقاط الصور الفوتوغرافية له، وتسجيل نشاطاته على أشرطة فيديو تبث لاحقاً في أجهزة الإعلام العراقية التي امتازت برقابة قصوى على كل كلمة تخرج منها خوفاً من بطشة الرئيس. اختصر الرئيس كلّ المشكلة والحرب التي نشبت في كلمته، فكأن السؤال الذي سأله والجواب الذي أجاب هو ما ينتظره العالم ليفك لغز هذه الحرب مع أمريكا.


لقد انتعشت إبّان التحضير للحملة الأنجلو أميركية على العراق بلاغة من نمط خاص. فإذا ما كانت البلاغة تتأسس أصلاً على أنّ المعنى يكمن خلف ستار المجاز خوفاً من سلطة معينة، فإنّ هذه البلاغة التي نتحدث عنها هنا والتي تنبثق من السلطة مباشرة، تكشف عن ارتباك في هرم السلطة ذاتها. ويبيّن ذلك قضية في غاية الخطورة، هي أنّ السلطة القامعة باستمرار، باتت تتوجس كثيراً من قمع المقموع الأزلي، فاختارت الغموض الذي لا يؤدي إلى معنى. كان صدام حسين يعتقد أنّ الحرب الجديدة هي حرب بلاغية في المقام الأول، فأعطى للصنعة الإنشائية قدراً كبيراً من العناية في خطبه وفي أحاديثه المرتجلة. وأعطى انطباعاً عن طبيعته السيكولوجية التي مازالت تهتزّ طرباً للبلاغة الحماسية في كلام العرب. وربما حفّز ذلك عنده الرغبة في حيازة لقب: الفارس البليغ، كعنترة بن شداد أو الإمام علي أو أبي محجن الثقفي، فسعى سعياً حثيثاً لامتلاك ناصية البلاغة. فدشّن أولى خطبه في هذه الحرب بأبيات من الشعر العمودي أشيع في وقتها أنها للشاعر الأردني ( حيدر محمود):
أطلقْ لها السيفَ قد جاشَ العدوّ لها أطلقْ لها السيفَ لا خوفٌ ولا وَجِلُ
وعلى الرغم من عدم قدرة صدام على (نظم الشعر)، إلا أنه استعار هذه الأبيات، التي لعبت بعقله كما تلعب الخمرة بشاربها. هو يتوهم معركة من معارك العرب الصحراوية، إذ السيف سيد السلاح، فهو يواجه ( الدبابة إبرامز) بالسيف هذه المرة، بعد أراد أن يواجهها في عاصفة الصحراء بأن يدفن الدبابات العراقية تحت رمال الصحراء وحينما تقترب منها الدبابة ابرامز تنطّ الدبابة العراقية بقدرة قادر من تحت الرمال وتدمرها شرّ تدمير ( شوف إزاي؟) كما يقول عادل إمام. ويتصور أنّ ( هَبَّة الرّجُل الواحد) تكفل له ( النصر المؤزر) في معركته الجديدة. الغريب في شخصية صدام أنّ أوهامه ليست كذلك بالنسبة له، بل هي حقيقة ويقين، ولذك ذيّل خطاب الانسحاب من الكويت الذي أدى إلى كارثة للجيش العراقي، بعبارته الشهيرة: يا محلى النصر بعون الله. إنّ استعمال صيغة التعجب: يا، تكشف عن أنّ ( الهزيمة) في اعتقاده ( نصر)، فهو يتمتع بحلاوته، ولا ريب في ذلك لأنّ النصر حالة حتمية في نظره؛ لأنّ الله تكفّل بتحقيقه، فهو قد تمّ ( بعون الله) كما يقول.
لكنّ بلاغة صدام بلاغة غريبة غرابة شخصيته، فإذا ما كانت بلاغة هؤلاء تصطفّ معهم للدفاع عن هدف اقترن بهم على نحو واضح، فإنّ بلاغة صدام حسين ليست سوى وهم، فهو يعتقد أنه يعيد ترتيب التاريخ في ذاته. واقتران البلاغة بالفروسية يغريه لإعادة التجربة مرة أخرى في الألفية الثالثة وبأدوات ووسائل القرن الأول الهجري وربما قبله بكثير. وتوهم أنّ الشطارة في البلاغة هي المخرج، فألحّ بالطلب من الصحفي الأميركي المعروف ( دان راذر) الذي أجرى معه آخر مقابلة صحفية، أنْ يقوم بإجراء مناظرة تلفزيونية بينه وبين جورج بوش. فالقضية الأساسية عند صدام حسين هي صناعة الكلمات الهائمة لا الحقائق؛ الكلمات الهائمة في بطون التاريخ المختار والمؤول منه شخصياً. كان صدام حسين مؤولاً غريباً، لا يؤول للإدراك والمعرفة، بل يؤول للتبنّي والاحتذاء. كان يشكّل مدرسة غريبة في تأويل التاريخ، لا قيمة لعنصري الزمان والمكان في نزعته التأويلية. فهو يعتقد أنّ سياسة ( هارون الرشيد) أو سياسة ( جوزيف ستالين) يمكن تطبيقها بالعراق في الوقت الحاضر. فهو شخصية تعيش في أوهام التاريخ، لا يمكن أن تدرك الطبيعة المادية للعصر. هذه هي الحرب التي اختارها صدام، فهو يريد من الجيش العراقي أن يقاتل بالمبادئ الغريبة التي كان يدعو إليها، لا بالتكنولوجيا الحديثة التي بحوزة عدوه.
لا ريب في أنّ صدام حسين يخفي رغبة هائلة في أن يسحق الأميركيين، ألدّ أعدائه، لكنه من جهة أخرى لا ينوي أنْ يكشر عن أنيابه جهراً، فاختار صورة الملاك الطاهر الذي لا يحب القتل والقتال. وقد وجد في ( البلاغة) وسيلة صالحة لإخفاء رغبته تلك، فقال في خطبة له قبل اندلاع الحرب: بغداد مصممة على أن تجعل مغول العصر ينتحرون على أسوارها. فما لم يستطع أن يحققه في ( الإبادة الجماعية) للعدو، استطاعت البلاغة أن تحقق له هذه الرغبة، فتمتع الرئيس بالرؤية الوهمية لأعدائه وهم ينتحرون على أسوار بغداد.

-2-
الصحاف وإعلام مابعد الحداثة

بيد أن التقنيات التي يستعملها محمد سعيد الصحاف، أكثر تطوراً من ( البلاغة العتيقة) التي استعملها صدام في خطبه كافة. بلاغة الصحاف أكثر اقتراباً من تقنيات الثورة الإعلامية لأنها أكثر عصرية، وصاحبها منفتح على الأسلوبين الانجليزي والعربي معاً، ويظهر هذا التباين في أسلوب الرجلين أن عقلية صدام عقلية ذات أفق تاريخي مغلق، على حين أن عقلية الصحاف ذات أفق مابعد حداثوي، فهو يشرّع سنة في الخطاب السياسي الجديد: الساخر، السوقي، غير الدبلوماسي، والكذاب أيضاً، وللكذب هنا وظائف متعددة، منها: النجاة بجلده في اللحظة الأخيرة من بطشة صدام، ومنها التمتع ولو إلى حين بتقمص دور صدام في مركزية الكلام، ومنها تحقيق نجومية إعلامية عندما أصبح الرجل صدر الخبر الأول في أهم حرب جرت في هذا مفتتح الألفية الثالثة، ولعلّ الرجل أراد أن يحقق الحكمة العربية: كل شيء زاد عن حده انقلب إلى ضده، فأكثر من الكذب في الانتصار لكي يؤكد الهزيمة التي لا يقدر أن يفصح عنها خوفاً من بطشة اللحظات الأخيرة لقائد منهك بغبار الهزيمة.
بلاغة صدام، من الطراز العتيق المتجهم الحزين، تميل إلى استثمار الهزة الصوتية ndash; التطريب العالي- في اللغة العربية، ولذلك هو شغوف بتضمين كلامه نصوصاً تراثية ذات وقع صوتي في المقام الأول، لكن وزيره كان أشطر منه في اللعبة البلاغية، كان الصحاف يمسرح كلامه وأسلوبه ويضخه بدفقة دراماتيكية بشكل دائم، فيُضحِك المراسلين الإعلاميين وعندما يَضحَك المراسلون فمن المؤكد أن المشاهدين أو المستمعين سوف يضحكون وعندئذ يخبط الصحاف خبطته النجومية، وهذا ما حصل فعلاً، إذ استحدثت كثير من مواقع الانترنت باسمه فوراً، وظهرت تعليقات وكاريكاتير ودعايات وإعلانات تجارية استغلت صورته المنطبعة في إذهان جمهور عريض من المتابعين لمسرحياته التي حوّل فيها الإعلام إلى مسرحية سياسية تجري على الهواء مباشرة.
وكان الصحاف يستعير من الفنون كافة، التقنيات التي تمكنه من أداء مهمته، فإذا ما كانت السينما تستعمل الحركة البطيئة كمؤثر أسلوبي، فإنه يستعيض عن ذلك باستعمال ( تكرار) جمل وكلمات بعينها للغرض نفسه، كما هو احال في تكراره الشهير لعبارة: سنستمر نمطّ الأفعى ndash; يقصد توغل اجيش الأمريكي على طويل الأراضي العراقية- أو تكراره الأشهر لكلمة: العلوج. وفي الوقت الذي تعتمد فيه السينما على عنصر الإدهاش بشكل أساسي، فإن الصحاف يستعمل تلك التقنية أيضاً عبر استعماله بعض الألفاظ غير المألوفة في التداول الدبلوماسي من قبيل: الطراطير، الجحوشة، العكاريت، بوش الحمار. واعتمد الأداء البلاغي لديه على الحبكة المسرحية بشكل واسع، إذ كان في مؤتمراته الصحفية يفتش للحظات - وبارتباك مسرحي- بين أوراقه عن ورقة مجهولة، وعندما كان يتلو بياناته العسكرية كان دائماً يفتش عن هذه الورقة المجهولة التي تنطوي على السرّ الاعظم للحرب السرية على بجهة القتال الطويلة العريضة، لكي يوهم المستمعين والمشاهدين بحقيقة الأرقام والبيانات التي يكتبها بنفسه ويتلوها على الإعلاميين المتجمهرين أمامه كانهم جمهور مسرحي شغوف إلى الضحك لا إلى مضمون المسرحية. وقد كشف الصحاف عن موهبة مسرحية، عندما كان يسفه خصومه على نحو مضحك، كما كان يقول عن جيفري هون وزير الدفاع البريطاني: ما ممشط شعره، لكي يمعن في السخرية من أقوال هذا الوزير، ويشكك في أدائه العقلي، ويفند كل ما يقوله للمشاهد أو المستمع أو القارئ العربي.


-3-
الاستعارة الكذابة

يقول علماء البلاغة العرب إن الاستعارة ببساطة طبعاً هي: تصور شيء معين من خلال شيء آخر، ويبدو أن هذا التوصيف قد منح الصحاف مراده في إحدى استعاراته الشهيرة، وأعني استعارة مطّ الأفعى، فهو يقصد من خلال ذلك تحقيق معنى لا يرغب في الجهر به. ولا يمكن تفسير هذا النمط من المعالجة الإعلامية عند الصحاف، سوى القول إنها بلاغة نهاية الحكم، أو بلاغة انتحارية يائسة، ومن هنا كانت استعارة مطّ الأفعى تحقق للصحاف رغبته في:
1- المماثلة بين أمريكا والأفعى، من ناحية إمكانية الاثنين على القتل أو الفتك بالإنسان.
2- القدرة على مواجهة هذه الأفعى، ومن ثم القضاء عليها قضاء مبرماً [ إمعان الصحاف في تكرار فعل المطّ بين لحظة وأخرى أثناء مسرحياته الإعلامية].
3- الإشارة إلى أن قتل الأفعى لا يتمّ بطريقة اعتباطية، وإنما بطريقة مدروسة تدلّ على الحنكة العسكرية في إدارة الحرب.
وعلى الرغم من كلّ تاكيدات الصحاف، إلا أن الأفعى استمرت تمطّ في نفسها وحدها حتى بلغت رقبة الصحاف في 9/4/2003 فما كان منه ومن مرافقه إلا أن يولوا مدبرين. ولم تنفعه استعاراته الهازلة والمبالغ فيها كثيراً حدّ الكذب، في النجاة من الهزيمة. كان يخاطب الصحفيين:
1- نحن حبسناهم داخل دباباتهم.
2- جرعناهم السمّ والعلقم ليلة أمس في بغداد.
3- اليوم ذبحناهم في المطار، سحقنا كل القوة التي تجرأت فكانت على مدارج المطار [ قال ذلك في ليلة استيلاء الأمريكان على مطار صدام].
4- أستطيع أن أقول وسجلوها عني، بدأوا ينتحرون على أسوار بغداد، وسنشجعهم على الانتحار بقوة [ قال ذلك أمام فندق فلسطين في يوم 9/4/2003].

5- آخر ما قاله: سنضربهم بالقنادر.
وعلى الرغم من هذه الجعجعة الفارغة، إلا أن هذا الوزير ظل حتى الساعات الأخيرة التي اختفت فيها القيادة العراقية، يردد العبارة الشهيرة التي تقيم علاقة تناصية ndash; أي علاقة تداخل تضميني- مع قول شهير لرئيسه: أستطيع أن أقول وسجلوها عني، بدأوا ينتحرون على أسوار بغداد، وسنشجعهم على الانتحار بقوة. وربما كان الصحاف كالمتنبي في مدائحه لكافور الإخشيدي، يقول شيئاً ويعني شيئاً آخر، وبما أنه كان ساخراً من الجميع، فلبرما كان يسخر من رئيسه ومن نفسه أيضاً، والمية تكذب الغطاس كما يقول المثل الذي طالما استمعنا إليه في الأفلام المصرية.

ناظم عودة

[email protected]