إلى: القاهرة التنوع الثقافي الرافض الوصاية
الثقافة المصرية التي أنجبت طه حسين وعلي عبد الرازق وسلامة موسى وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأم كلثوم وعبد الحليم ومحمد عبد الوهاب ويوسف شاهين وعادل إمام، وكوكبة لاحصر لها من المفكرين والكتاب والفنانين والعلماء ممن انشقّ على عصا طاعة الثقافة العربية التقليدية، وفتحوا نافذة لتحديث الفكر العربي عبر طرح الأسئلة الإشكالية التي تتعلق بالعصب الانطولوجي للمجتمع العربي وثقافته، أقول هل هذه الثقافة باتت تخشى من رواية أو مجموعة قصصية لميلان كونديرا؟.
عندما تُمنَع (غراميات مرحة) في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الأخيرة، فهذه انتكاسة لا أقول للثقافة المصرية بل للعقل الديني المريض الذي بات يتسلل إلى هذه الثقافة، فهذا الكتاب قد قرأناه أيام حكم صدام حسين، ونقرأه الآن في ظل حكومة دينية. ومئات النسخ من شفرة دافنشي التي منعت في معرض القاهرة، تُعرض الآن في شارع المتنبي الشهير ببغداد، وموجودة كذلك مئات النسخ من كتاب الرصافي: الشخصية المحمدية. وقد طُبِعَ ديوان حسين مردان: قصائد عارية، طبعة جديدة من قبل مكتبة نعيم الشطري. وموجودة كتب جلال الدين السيوطي وحديثه عن فوائد النكاح، في كتابه (الوشاح في فوائد النكاح)، وفي مقاماته (رشف الزلال من السحر الحلال)، وكتب النفزاوي والتيفاشي وابن سينا التي تتحدث عن أوضاع الجماع والمداعبات الساخنة والسحاق وسوى ذلك من موضوعات الجنس الحساسة. وكل ما يعدّ محظوراً في السياسة والدين والجنس تجده يُعرض علناً في شارع المتنبي. والأسئلة التي يلزم أن تثار هنا: هل هذا يكشف عن تغلغل المدّ الإسلامي في كل مفاصل الحياة المصرية على الرغم من الصبغة اللادينية التي يصطبغ بها النظام السياسي في مصر؟. هل هي حرب بين دور النشر لاعتبارات مادية صرفة؟ أم أن المعرض لا يخضع لسياسة ثقافية مستقلة وأن المتنفذين فيه هم الممولون؟. أم ثمة عدد من المثقفين أصبح يضع قدماً مع الإسلاميين وقدماً ثانية مع الليبراليين ليحظى بالحسنيين معاً؟ ومن هنا، أصبح عطاء المعرض لا يقاس بمقاييس ثقافية بقدر ما يقاس استناداً إلى اعتبارات أخرى دعائية وسياسية وربما سياحية.
كيف يمكن للقاهرة الحاضرة في مخيال القارئ العربي عبر أغلفة روايات نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبدالله وإحسان عبد القدوس و.... أن تُنزَع عنها تلك الأغلفة/ الأثواب، وتُستَبْدَل بأثواب القرون الوسطى وسراويلها؟. أن تتعرى القاهرة من أغلفتها تلك، فهذا يعني استباحة جسدها، استباحة تلك الرهافة التي صُقِلَتْ عبر سنين من التلاقح الحضاري، وعبر مكابدة اجتماعية وثقافية تتطلع إلى التحديث. القاهرة عاصمة السينما العربية، وعاصمة البوب العربي، وعاصمة الرواية والقصة والفلسفة والعلم والرسم، هل أصبحت أسيرة بيد التطرف الثقافي ليُجْهِز شيئاً فشيئاً على الوجه الذي ظل لعقود قِبلة وقُبلة المثقف العربي من المشرق إلى المغرب؟.
مرة تحدثتُ في معرض لايبزك للكتاب، عن حتمية وصول الإسلاميين إلى السلطة في العالمين العربي والإسلامي، قلتُ: هنالك إيقاع متصاعد لهذه الحتمية التاريخية، وهنالك سلسلة إخفاقات زاولها النظام السياسي العربي، وإخفاقات مرّ بها المجتمع العربي هيأته للتفاعل مع ذلك الإيقاع، وهذا تيار جارف لا يمكن إيقافه الآن، هنالك بنية عميقة تتحرك في الأعماق. وسوف تفضي تلك الحركة إلى قلب كل المفاهيم الثقافية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية وسواها. ولن يكون بمقدور الثقافة أن تنجو من قبضة المدّ الديني المقتحم الساحة السياسية بكل قواه وحيويته وفتوته. وفعلاً في معرض بيروت الأخير، كان هنالك توصيف لطغيان الكتاب الديني على غيره من الكتب، وتوصيف للإقبال الجماهيري على الكتاب الديني في بلد يعدّ قلعة من قلاع الحياة العربية المتفتحة والمنفتحة على عالم الموضة والحداثة ومابعدها وسلوكيات المجتمع المدني المنغمس بإيقاع الحياة العصرية ثقافة وسلوكاً. المشكلة، أن ثمة قارئاً نهماً للكتاب الديني، هذا يعني أن المجتمع العربي بات يعتقد أن الدين يوفر له حلاً لجميع مشكلاته السيكولوجية والسياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية وسواها. إخفاقات النظام السياسي العربي عملت على تفتيت الهوية العربية، وها هو المواطن العربي يهرع إلى الدين لا رغبة في التعبد والطهرانية إنما رغبة في إعادة تشكيل الهوية ثانية. الهوية التي مُسخت في ظل الحكم الدكتاتوري. لذلك أن الخطورة ليست في كثرة المعروض أو المنشور من الكتب الدينية، بل في الإقبال الجماهيري على شرائها، الذي يكشف أشياء عن طبيعة توجهات العقل الاجتماعي في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ العرب المعاصر.
وفي معرض القاهرة لهذا العام، تجاوزت القضية التوصيف الذي حدث في معرض بيروت، إلى شكوى من منع الكتب التي تبيح لنفسها الحرية في ممارسة النقد الديني او السياسي أو الحرية في الحديث عن الجنس والجسد. هذا الشطر الأول من الشكوى، يؤكد مباشرة أن أصول المنع إنما هي أصول دينية حتى لو نُسِبَتْ إلى أشخاص من ذوي التفكير الليبرالي. وإذا كان النظام السياسي العربي الشمولي قد اقتصر في توجهاته الثقافية على حظر السؤال السياسي الإشكالي، فإن النظام الديني يقلقه ويقلقله السؤال العقلاني في كل تجلياته. لذلك تجده يمطّ قائمة الحظر من كتب الدين إلى كتب الطبخ؛ لأن فقه التحريم جاهز بكل عدّته للانقضاض على كل شيء، نظير ما حدث بالعراق عندما تم قتل باعة الثلج تحت ذريعة أن النبي محمد ما كان يشرب الماء المثلج، وقتل باعة الفلافل، والمشروبات الغازية، و..... تحت الذريعة نفسها. هذا ارتداد خطير بفهم الدين عموماً، والإسلام خصوصاً.
أما الشطر الثاني من الشكوى، فقد جاء على لسان الباحث في مركز الدراسات الإستراتيجية في الأهرام نبيل عبد الفتاح الذي صرّح بأنّ: تخصيص ندوة كاملة لداعية سعودي [ يقصد الدكتور عائض القرني] في معرض الكتاب يشير إلى تجذر النفوذ السعودي الديني في مصر. وكانت هذه الشكوى تعبّر عن امتعاض من تحوّل المعرض إلى يافطة للدعاية الدينية.
طبعاً أنا من دعاة التنوع الثقافي؛ بمعنى أن التنوع يخلق باستمرار حركية وجدلية لابد منها داخل الثقافة الخلاقة، لكن المشكلة في مزاولة الاحتواء أو الإقصاء. لايحق للثقافة الإسلامية أن تحتوي المشهد الثقافي العربي غير الديني كله أو تُقصيه، كما لا يحق للثقافة الليبرالية أن تمارس إقصاء للمشهد الثقافي الإسلامي. إن الشيء غير السليم في الثقافة الإسلامية المعاصرة، هو العمل على ترويجها بوسيلتين حاضرتين باستمرار هما: المال، والقوة. وتتزامن هاتان الوسيلتان مع وسيلة أخرى قد تكون غير ظاهرة، وهي الترويج عن طريق استغلال البعد العاطفي في الفكر الديني وفي الشخصية الإسلامية في آن معاً.
إنّ سياسة المنع أو الرقابة على الكتابة والكتاب، في هذا المعرض أو غيره، إنما تكشف عن الاتجاه الذي يتجه إليه المجتمع العربي والإسلامي عموماً، وإذا سلّمنا بأن هذه حركة أو حتمية تاريخية، فليس هنالك قوة قادرة على إيقاف ذلك إلا بعد أن يمرّ المجتمع بتجربة ذلك المخاض.
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانوينة