-1-
مفهوم خطاب المعرفة الشعرية
تطالعنا الملفوظات النقدية التي تصاحب الأدب العراقي الحديث، سواء السجالية منها أو النظرية، بخطاب معرفةٍ حول الشعر، هذا الخطاب هو الذي أسميه هنا: المعرفة الشعرية. وهو ذو وظيفة مزدوجة: تنهض بمهمات تفسيرية تارة، وتسعى إلى تأسيس مجال نظري معرفي حول بلاغة الشعر الجديد تارة أخرى، إذْ يزدهر هذا الخطاب خلال عمليات التحديث التي تجري في القصيدة الشعرية، وكانت نازك الملائكة رائدة هذا اللون من المعرفة، في محاولة منها لإنتاج خطاب يؤسس معايير جمالية يتذوقها القارئ، وتكون عتبة من عتبات فهمه للقصيدة الجديدة. وكان خطاب الدفاع هذا، جزءاً من انخراط الثقافة والحياة العامة آنذاك في عملية العصرنة، وتوقهما الدائم إلى أفق الحداثة، الذي كان المجتمع والمثقفون يتطلعون إليه بمرآة الحياة الأوربية المصقولة بالتقدم والعلم والتكنولوجيا.
بعد هذا، كان من الطبيعيّ أنْ ينظر الشعراء المنظّرون إلى هذه البلاغة الجديدة، كونها تأسيس (طريقـة تفكيرٍ حول العالم) a way of thinking about the world. وهذه الفكرة التي تسربت إلى متن الثقافة العربية والعراقية، إنما هي من مجلوبات الحداثة الغربية، وليس من صميم الثقافة العربية التي وجدت في الشعر مستودعاً ثقافياً وتاريخياً، وهذا يُظهِر لنا على نحو لا يقبل الشكّ أنّ تلك الثقافة إنما كانت تنظر إلى الشعر من منظور تاريخانيّ صرف. بمعنى آخر، أنها ترى فيه مجرد مدونة تاريخية، أو خزانة موروث وأحداث متعاقبة، ولعلّ هذه النظرة تبيّن لنا لماذا لم تحتوي الثقافة العربية على علم جمال أدبي مستقلّ، وظلت النظرات الجمالية مبثوثة في المصنفات القديمة، لا يجمعها رابط نظري شامل.
ولعلّ هذه الإشارة الأخيرة، كافية لتبيّن لنا لماذا تقولب الشعر العربي طيلة أكثر من أربعة عشر قرناً في (هيكل القصيدة العربية) في شكلها الكلاسيكي المعروف. وأنتج هذا التقولب، معياراً سياسياً في ثياب ثقافية، وهو معيار: عمود الشعر. وهو المعيار الذي تملّق به النقاد إلى (مؤسسة السلطة)، التي كانت متضامنة مع الموقف الذي يدافع عن العمود/ الهوية القومية. واستعار النقاد من (بيت الشَّـعَر) عموده الخشبي الذي يقوم عليه بشكل أساسيّ، ليصوغوا مصطلح (عمود الشِّـعْر)، الذي سيكون هذه المرة العمود الذي تقوم على القصيدة العربية، وما كسر هذا العمود في (بيت الشَّـعَر)، وفي (القصيدة)، غير إسقاطٍ لهيبة البيت والقصيدة في آنٍ. كان البيت يمثل دائماً، رمزاً للشرف العربي، وهذه الدلالة الرمزية هي التي شجعت النقاد لإيجاد نوع من المماثلة التشبيهية بين عمود البيت، وعمود القصيدة. وهكذا وجد القارئ العربي نفسه أمام سيل من الفروض التي تقاوم أية نزعة للخروج على معيار هذا العمود، أو حتى إجراء أيّ نوع من أنواع التحديث عليه. وبدلاً من أنْ يكون النقد الأدبي مشاركاً في إيجاد مخرَج جماليّ لتحديث القصيدة العربية، عبر التنبيه إلى أهمية المثاقفة، اقتصر دوره على ترسيخ قيم القصيدة العربية التقليدية. وفي ظني، أنّ هذا هو السبب الذي يودي بأية مشاريع إصلاحية في الثقافة العربية، لأن الثقافة التقليدية لها القدرة في التأثير على طبقات واسعة من الناس المثقفين وغير المثقفين، لأنها تعرف مواطن التأثير العاطفي في الشخصية العربية.
وبسبب هذه التركيبة الثقافية والاجتماعية المعقدة، ظل هذا المفهوم سائداً حتى النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، عندما تخلص الشعر من ملازمة الوظيفة التاريخية للقصيدة العربية، مؤسِّساً لوظيفة جمالية سوف تتصاعد حدتها حتى تصل إلى صورة: النصّ المفتوح. إذن، بوسعنا أنْ نجد مَخْرَجاً لهذا المأزق الذي وُضِـعَتْ فيه القصيدة العربية حينما تبنّت فرضية: (التفكير بالعالم) شعرياً، وهو أنّ الشعر العربي كان طيلة تاريخه شعراً غنائياً بخلاف الشعر الغربي الذي كان يتمتع بدرامية عالية، تجعل منه جزءاً من حركة العالم، وتأسيساً على هذه الفرضية المقارِنة فإنّ الشعر الغربي كان ابن الفلسفة الغربية المستبطِنَة والمقنِّـنَة لهذا العالم، حتى أنّ أرسطو أحال جوهر المحاكاة إلى المماثلة بين عالمين: العالم الطبيعي، والعالم الرمزي. لكن ذلك لا يعني، أنّ الشعر العربي يخلو من ستراتيجية التفكير بالعالم، إنما (خطاب المعرفة) الذي تبنيناه في صدر هذه الدراسة، والمصاحب لتاريخ التطورات الشعرية، هو الذي كان قاصراً عن تأسيس فلسفة تربط العملية الشعرية بـ (التفكير بالعالم).
وقد صاحب التحوّل في الشعرية العربية الذي حدث بالعراق في نهاية الأربعينيات كما قلنا، نمط من المعرفة الشعرية، انصبّ على إنشاء حقل تنظيريّ خالص، يؤدي وظيفة (تثقيف) القارئ الذي لم يكن بوسعه أنْ يعدّ هذا الشكل الجديد من الكتابة (شعراً)، ومثلما كانت نازك الملائكة رائدة في كتابة أوّل قصيدة على نظام التفعيلة، فإنها كانت الرائدة في هذا النوع من الكتابة المعرفية، لا بل إنها الرائدة في التأسيس لخطاب نقديّ يتجه إلى الكشف عن البنية الفنية الداخلية للقصيدة. وهكذا، كان خطاب المعرفة الذي افترضناه ndash; عند نازك وعند غيرها- مهتماً أساساً بـ (الإدراك ووصف البنى الإدراكية) وهذا الخطاب معروف في تاريخ الشعر منذ قرون عدة، بلغت ذروتها في الكتابات التي خلّفها وراءه ت. س. إليوت، مما دعا أحدهم أنْ ينعته بـ: (أحد آباء النقد الحديث)، وكان إليوت يشعر بعض الحرج من هذا النعت في محاضرة ألقاها بجامعة مينسوتا في العام 1956. [ ص138- في الشعر والشعراء ndash; ت. س. إليوت ndash; ترجمة محمد جديد- دار كنعان- دمشق- دون تاريخ] وهذا ما يجعلني أعترف بأنّ هذا الخطاب، مهم لتطور المعرفة بالشعر، لكنه لا يشكّل المعرفة كلها، بل جزءاً منها. ويمتاز بأنه خطاب على خطاب آخر، تطوّر بعد أنْ تحوّل الشاعر الحديث من مجرد مبدع، إلى مبدع ومفسّر في الوقت نفسه. وهذا الخطاب مصاحب لتاريخ الشعر، ومفسّر لحركات التطور التي جرت عليه، ونقلته من طور إلى طور آخر، إذْ وقف الشعراء المجددون في طليعة المدافعين عن شرعية مشروعهم التحديثيّ. ولعلّ هذا هو العامل الذي دفع نازك والسياب وأدونيس والبياتي ونزار قباني وآخرين، إلى إنشاء نمط من الكتابة التي هي ليست شعراً ولا نقداً، إنما هي كتابات أنشئت من داخل حرارة التجربة الشعرية، ومن داخل عالم الإحساس بها، وهو قطعاً عالم لا يحسن الوصول إليه إلا الشعراء دون غيرهم، فهم إحدى عناصر التجربة و شهود عيان عليها.
وكان هذا الخطاب أقرب إلى تاريخ الشعر، منه إلى الممارسة النقدية القائمة على ثلاثة عناصر متلازمة: التحليل، والنقد الجذريّ، والغطاء النظريّ. وبوسعنا أنْ نعدّ (النقد) الذي خلّفه ويخلّفه الشعراء وراءهم، أحد مصادر هذا الخطاب، علاوة طبعاً على (النقد) الذي أنتجه منظرو الأدب، ومؤرخوه، والنقاد المحترفون، والذي اتجه مباشرة إلى تحصيل معرفة حول طبيعة التطور في الشعر، لا القيام بإجراءات تطبيقية من داخل النصّ. هذا الخطاب، ليس خطاب تطبيق يتجه إلى النسيج النصّي وجمالياته، إنما خطاب معرفة يفسّر شرعية التحديث أو لا شرعيتها. فهو، من هذه الناحية، أقرب إلى تاريخ الشعر كما قلنا، منه إلى الممارسة النقدية التحليلية. وينطبق هذا على الشعرية العراقية والعربية، من دون تمييز، لكننا خصصنا هذه الدراسة لنقد هذا الخطاب في الشعرية العراقية، مؤجلين ذاك إلى مناسبة أخرى.
-2-
مشكلة المفاهيم
إنّ الشيء المؤسف حقاً، هو أنّ هذا الخطاب يختزل الشعر عادة في (الشكل) بوصفه ترسيمة Schematising توضع مسبقاً؛ بمعنى آخر، أنها تسبق زمنياً لحظة ولادة النصّ بشكله المنجز في قوالب اللغة. وسوف يعثر القارئ هنا، على تنظيرات لا حصر لها، لشكل القصيدة أو النصّ، قد تكون باهرة على صعيد التصور الذهني المجرّد، بيد أنها لم تكن كذلك على صعيد النصّ المنجز. وهذا ما عانيته شخصياً، وأشرت إليه في متن دراسة ألقيتْ في الملتقى الشعري الثمانينيّ الذي أقيم سنة 1992، فأنت تقرأ أفكاراً ذات مرجعية ثقافية عصرية متنوعة لهؤلاء الشعراء، لكنك عندما تكون قبالة نصوصهم الشعرية، تصاب بخيبة أمل كبرى.
وهذه مشكلة ـ أعني تنظيرات الشعراء حول الشعرـ ناتجة من تزايد اهتمام الشاعر بـ (المعرفة الشعرية)، وانتقاله من موقع (المبدع) إلى موقع (المفسّر)؛ لاعتقاده بقصور النقد الأدبي عن إيجاد تفسير معقول لكثير من الظواهر الشعرية، وهو ما أفضى إلى أنْ يقول الناقد ما لا يعرفه الشاعر، أو ما لا يرضى عنه، أو إلى أنْ يقول الشاعر ما يجده الناقد تطفلاً على مجال عمله، فيكون كمن يعوم في مكان غير صالح للعوم كالتراب مثلاً.
وفعلاً، يندر أنْ يتفق شاعر وناقد على معنى محدد، وتطور هذا إلى عدم الاتفاق على رؤية محددة للشعر، أو استجادته، أو استنباط لقوانينه، أو تقدير لقيمة جمالياته. وهذا هو سبب اللغط الذي لا ينتهي بينهما، منذ تلك المناظرة النقدية الشهيرة بين النابغة وحسان بن ثابت. وهذه كما تلاحظون مشكلة معرفية وليست إبداعية، إذْ الإبداع مستمر في سنّ قوانينه المتغيرة على الدوام، والنقد مستمر في التفسير المغاير لتفسير المبدع، استناداً إلى أسباب تتعلق في الذهنية النظرية التي تغلب على رؤية الناقد عادةً. وهنا أود أنْ أشير إلى الدعوة التي أطلقها الشاعر خزعل الماجدي إلى الشعراء، بأن ينهضوا بمهمة التنظير للشعر؛ أي أنْ يتضمن عملهم: كتابة الشعر، وكتابة النظرية الشعرية.
لاشكّ في أنّ إنتاج الشعر الخلاق، يقتضي ضرورة أنْ يتزامن وعيان هما: الوعي بكيفية نقل العالم وتمثيله في الشعر، والوعي بمقتضيات التحديث الجذريّ [ نظام القصيدة] أو الموضعيّ [ المناحي الأسلوبية]. والدليل أنّ التجارب الخلاقة، لم تفصح لنا في يوم من الأيام أنّ عملاً شعرياً خلاقاً، كان نتيجة ترسيمة معدّة سلفاً. النصّ الخلاق، نسيج متشابك من: المساهمة الخلاقة في تفسير العالم الواقعي الذي يكون الإنسان حاضراً فيه بقوة، والمساهمة في دفع عجلة التطور الشعري إلى أمام. ويضعنا هذا الافتراض أمام مسألة جديرة بالاهتمام، وهي أنّ لا أهمية لأيّ مشروع جماليّ أو تحديثيّ في الشعر، دون أنْ ينبع من ضرورة تاريخية ملحّة. وليست التاريخية هنا، سواء إدراك عميق لمشكلات الإنسان، وصراعه الأبدي مع الزمن الذي يستبدل كائناته بكائنات أخر، لها طرائقها في تحقيق وجودها في ظرفَي الزمان والمكان. وأنتجت لنا هذه الكائنات الزمانية المتحكمة بإدارة التاريخ، مفهوم السلطة الذي طبع سيرة الوجود بطابع الصراع الأزليّ بين: الإنسان، والسلطة.
وهذا الوعي، لا يمكن التحدّث عنه بتجزأته إلى عنصرَي: الشكل والدلالة، إنما القضية أعمق من ذلك بكثير، فالعمل الشعري ليس لعباً غير منضبط ينتج أشكالاً غير منضبطة، بل لحظة أزمة كيانية صارخة يتوهج فيها الشاعر كلاً متكاملاً؛ مخيلة ومعرفة ووعياً وموقفاً من العالم، والتوهج هو الكفيل بحرق الأشكال التقليدية، وإتلاف ما تبقى من الثمرات المتعفنة في سلة الشعر المبدع الخلاق، الذي أدعو أنْ يكون شرطاً للكتابة الشعرية، وشرط تفسيرها ونقدها.
ولكن ما جذور هذه المعرفة أو الوعي، بأنّ الشعر يتطلب ترسيمة مسبقة؟. نحن نعلم أنّ الحركة الشعرية التي شكلّت حضوراً متميزاً في الشعرية العربية قبل حداثة ما عُرِفَ بـ: (الشعر الحرّ)، إنما هي الشعرية الرومانسية، وقبلها كانت الشعرية الإحيائية، وهاتان الشعريتان مازالتا تتمثلان في ذلك الوقت الروح الكلاسيكية للشعر العربي القديم، وهي: أنّ الشعر طبع لا ثقافة. وأثبت فشل العقاد في كتابة قصيدة جديدة مؤثرة، أنّ الثقافة لم تكن قادرة على إنقاذ الشعر من هاوية الفشل الذريع. مما أفضى إلى تعضيد فكرة أنّ الشعر تدفق عفوي ينبع من قريحة صافية، وطبع غير متكلف. وكان ردّ الفعل القوي على هذه السكرة الرومانسية، هو التفكير الجدّي عبر الثقافة بالخروج من هذا المأزق المعرفي. ولو نظرنا بإمعان إلى بداية التحديث الحقيقي الذي جاء به الرواد، لاكتشفنا أنّ (الثقافة) كانت ظاهرة بقوة في التخطيط للتحديث، وفي نصّ القصيدة التي أنتجها هؤلاء الرواد. والقراءة الواعية لشعر الرواد سوف، تفصح لنا عن عصارة ثقافية امتصّها ذلك الشعر، وتَمَثَّـلَها في كلّ عنصر من عناصره. بيد أنّ التطور اللافت في قصيدة الرواد، تمثّل في المحافظة على تناسب مقبول بين (الطبع) و(الثقافة). ومع مرور الوقت، أخذ هذا التناسب يفقد توازنه لصالح الثقافة وعلى حساب الطبع، مما أغرق التاريخ الشعري الحديث بموجات من التجريب تحت مؤثر الثقافة.
ونتيجة لهذا النمط من المعرفة التي توهمت بأن فلسفة الحداثة، تقتضي ثقافة مسبقة وظيفتها ابتكار ترسيمة هيكلية للنصّ الشعري، كانت الشعرية العراقية عبر أكثر من ثلاثين عاماً تنطوي على قائمة طويلة من التجارب غير الفاعلة. وظلت التجارب المتميزة لا تتعدى أصابع اليد. ولعلّ فهم الرواد للتحديث الذي جرى للقصيدة العربية، هو أحد أسباب تعثر مشروع ذلك التحديث. ولكن كيف؟. إنّ الذي يقرأ الكتابات التي أسميتها بخطاب: (المعرفة الشعرية) وكان أنجزها شعراء الحداثة بالعراق، سوف يكون أمام سيل من الأفكار التي رسّخت نمطاً من الفلسفة التفسيرية لمضمون التحديث، الذي اختُزِل إلى تفكيك البنية العروضية للقصيدة العربية التقليدية. وهذه الفلسفة آمنت بها كثيراً نازك الملائكة، ودافعت عنها في كثير من تنظيراتها، وتكاد تكون قاسماً مشتركاً لدى عدد واسع من شعراء الحداثة العربية في طورها الرياديّ. ولم أعثر في تلك المرحلة على دراسة، أو وجهة نظر، تفسر الأسباب الحقيقية التي دعت إلى هذا التطور من نظام القصيدة القديمة إلى النظام الجديد. وفي ظني، أنّ هذه الأسباب تكمن في تحوّل المجتمع العربي الجديد في الأربعينيات إلى مجتمع آخذ بإدراك ذاته ثقافياً، وهو يسعى بقوة إلى تمثيلها في نظام ثقافيّ يحمل بصمته وهويته العصرية، هذا بالإضافة إلى تزايد إدراكه بـ (الوحدة العضوية) التي صار يراها في التطور المادي لحضارة القرن العشرين، وهو ما أفضى به إلى تأسيس حسّاسية جمالية تقوم على المتعة بنسيج الكلّ بدلاً من نسيج الجزء؛ أي المتعة بنسيج (النصّ) بدلاً من المتعة بنسيج (البيت الشعري). ونظراً لأنّ هذا النسيج، لا يتحقق إلا بـ (النصّ الحرّ)، فكان الاكتشاف الجماليّ الذي طربت له الثقافة العربية آنذاك، ووجدت فيه بداية الطريق للانقلاب على كلّ أنظمتها التقليدية المتحجرة. بيد أنّ هذا النسيج الذي اعتقد آباؤه أنه يستمدّ قوته من مجرد التلاعب في النظام العروضيّ، بلغ أزمة حقيقة في الستينيات، ولم ينقذه منها إلا التحوّل الثاني للحداثة العربية، التي خلّصت (الشعر) من ملازمة الشكل الموسيقيّ التقليديّ، ووسعت من مفهوم الشعر ليكون هذه المرة أكبر من الإطار الهندسيّ الموروث.
في الحداثة الأولى، كان الشكل لم يتخلص بعد تماماً من أبوّة التفعيلة، وفي الحداثة الثانية كان الشكلّ هيكلاً شاملاً يتكون من عدة عناصر لم تكن التفعيلة من بينها. وصار الشعر يساوي: الشكل مجرّداً من أيّ تقنين موسيقيّ، وزحفت فلسفة التخلص من التقنين الموروث إلى نظام الجملة اللغوية، وإلى الجملة الأسلوبية، وسائر المحددات الشكلية. وهو ما أحال الممارسة الشعرية إلى ممارسة تستمدّ شرعيتها من الاستمرار في الخروج على التقنين، ومن تحوّ الشعر إلى (شكل) قبل أنْ يكون منظوراً تفسيرياً مغيراً للواقع. ولأنّ الشكل ينتعش في التجريدات، والعالم الباطنيّ الضاج بصور وأخيلة غريبة، تحوّل النصّ إلى (تقنية صياغة)، لا إلى صياغة منظورية للعالم لم تكن لها سابقة لا من قبل ولا من بعد. الشعر هو أنْ تقبض على حركة فريدة لها جذر في الحياة، في الوقت الذي تقبض على جذر جماليّ فريد. ولذلك فقد فشلت البراعة في تشكيل لغة وأساليب وأشكال مفرّغة من حرارة الحياة، ومتعالية على الثقافة، والقارئ، والحياة نفسها. إنها يوتوبيا شكلية معلقة في السماء البعيدة، ولم يكن بمقدورها أنْ تهبط إلى الأرض قطّ.
وهنا يلزم أنْ نقول: ليس للشعر أنْ يكون خارج الثقافة، كونها نظاماً تشكّل في أوضاع تاريخية معينة، وتطور المجتمع الحديث يرفض أنْ يكون الشعر كذلك. وكلّ التيارات التي ذهبت إلى تكوين (إمارة انفصالية) للشعر خارج مملكة الثقافة، أصيبت بفشل ذريع. هذه التيارات التي نظرت إلى الشعر، كونه موهبة تتحكم فيها قوى غيبية، أو مجالاً للتجريب الشكلاني، أو خاضعاً لفلسفة تاريخية كونية كالنهضة والحداثة وما بعد الحداثة وما بعد الـ...، هذه المابعديات التي لا تنتهي، وتشكل أفقاً فلسفياً ومرجعياً يستوعب كلّ النـزعات الجديدة في الشعر. وتكمن فكرة (استقلالية) الشعر، أو محايثته، في السعي إلى ضرب المفاهيم، والأفكار، والغايات التي ينهض بها هذا اللون من الفن الإنساني. ولكي لا نقع في التجريد، أو الكلام غير الواقعي، أحاول أنْ أقدِّم مثلاً من واقع الشعر العراقي منذ السبعينيات، إذْ تمّ إقصاء الموسيقى المقننة، والجملة البلاغية، واللغة المرجعية، والتدوير، والمعنى، والإفادة من شبكة الرموز والإنجازات التي توصلت إليها القصيدة العراقية في تاريخها المعاصر.
عندما يتجاوز عدد واسع من الشعراء على اللغة كونها ذخيرة ثقافية تغذّي الذاكرة الشعرية بصور لا حصر لها، والتجاوز لا يتحدد بالانتهاك غير المنضبط لقواعدها الموروثة، أو دلالاتها الوضعية، إنما في تبديد طاقاتها في التأسيس لجملٍ شعرية مؤسْلَبَة على نحو يعزّز من الإيقاع الشامل للنصّ، فإنّ الشاعر يشكو من فقر معرفي بثقافة (تسخير) اللغة للشعر، لا (استعمالها) كما هو معتاد. ولو قمنا بدراسة دقيقة للشعر العراقي منذ سبعينيات القرن الماضي، سنحصي (استعمالاتٍ) للغة في الشعر، لا تحويلها إلى طاقة شعرية لا تنضب. وهكذا، ورّطَتْ هذه (الاستعمالية)، أغلب هؤلاء الشعراء في الإسراف في اللغة، وصار فائضها عائقاً أمام أيّ نموّ حقيقي للنصّ. إنّ بعض شعراء العقود الثلاثة الماضية، يشكو من عقدة نقص أمام اللغة، فيعتقد أنّ القضاء على هذه العقدة إنما يتمّ في عدم إقامة أيّ اعتبار ثقافي لها. وهو ما أفضى إلى اتّباع سياسة (اللعب باللغة)، لا (اللعب معها)، فثمة فرق بين منطق أنْ تلعب بالشيء، أو أنْ تلعب معه، فاللعب الأول يحوله إلى مجرد وسيلة، واللعب الثاني يحسب له حساباً، يجاريه، يفيد منه، يغالبه، وقد يقتسم معه نعمة الكينونة؛ لأنه وضعه في موضع الندّ الذي يشكل حضوره حضوراً للطرف الآخر. وأفضت سياسة (الاستعمال)، و(اللعب بـ)، إلى تكوين وعي زائف يرى أنّ الحداثة الشعرية تكمن في الاستعمال الفوضوي للغة أداةً، لا ثقافةً. وهو ما ترك وراءه في تاريخنا الشعري المعاصر، ميراثاً كبيراً من (اللغة المـُسَـنَّدَة) المفتقرة إلى الحياة، [ الخُشُبُ المسندة كما في الآية الشهيرة في القرآن الكريم، الآية الرابعة من سورة (المنافقون): قطع من الخشب مسندة إلى الحائط لا نفع فيها، والتشبيه هنا يشير إلى أنّ المنافقين إنما هم أجسام بلا أحلام ].
وهكذا فيما يخصّ المقومات الأخرى، التي بمثابة الأعمدة الأساسية التي يقوم عليها الشعر في كل مكان من العالم؛ المقومات التي تناظر مقومات الكائن الحيّ، فهو بوسعه أنْ يجري تحديثاً على مظهره وسلوكه وفكره ومعتقداته، إنما لا يستطيع أنْ يجري على تلك المقومات التي بمنزلة الضرورة أيّ تحديث، فيغيّر من طبيعتها أو وظائفها.
في معظم الأحيان، يقع قسم كبير من هؤلاء الشعراء في إشكالية عدم التفريق بين الوزن والموسيقى، ولأنهم ساووا بينهما، اعتقدوا أنّ الحداثة في الشعر تقتضي أنْ لا حاجة له بالموسيقى التي هي في نظرهم الوزن بعينه، وهذه الفكرة استحوذت على تفكير عدد واسع من شعراء العقود الثلاثة التي أشرنا إليها آنفاً. ومثلما اعتقدوا أنّ اللغة ليست سوى استعمال لإنجاز المعنى، لا المشاركة في إنتاجه وإنجابه ككائن يغتذي من ثديين أحدهما من اللغة ذاتها وثانيهما من مجموع العناصر الأخرى المكونة للنصّ، فإنهم اعتنقوا مذهب تجريد الشعر من أية إحساسات موسيقية، لا أقول بنى موسيقية ملحوظة في تركيب النصّ بالشكل التقليدي أو المطوّر. ومادام الشعر خسر حتى هذه الإحساسات، فقد بات يخسر باستمرار في نِسَب الجمهور الذي يضفي عليه المصداقية الثقافية التي لا غنى له عنها مطلقاً. بيد أنّ المدهش في الأمر، هو تبنّي نظرية الاستغناء عن الجمهور ذاته في هذا الشعر الجديد، وتحوّل استقبال الشعر وتلقيه إلى ممارسة تجري في إطار ما يُطْـلَق عليه بـ (النخبة المثقفة)، أو ما تسميه النظريات النقدية الجديدة بـ (القارئ النموذجي)؛ الخبير الذي يملك مفاتيح فكّ الشيفرة الرمزية لهذا الشعر. وهكذا تقلّص الجمهور بصورة مطّردة حتى انحصر في ذات الشاعر وحده. وقد كان الغموض غير العضوي؛ أيّ الغموض الذي لا يفضي إلى أيّ شيء يسمو بالنصّ وبأفكاره، هو إحدى نتائج هذا الوعي الزائف بالعناصر المكونة للشعر. وإذا كان ديكارت يرى في (مقال في المنهج) أنّ من سمات العبقرية: الوضوح، والتميّز، فإنّ هذه القاعدة قد عُطِّلت في مفهوم الحداثة الشعرية بالعراق منذ مطلع السبعينيات، إذْ وجدت مناخاً سياسياً ملائماً، للإكثار من الألاعيب اللغوية والشكلية لتمويه الموقف الاحتجاجي من ممارسات السلطة. بيد أنّ هذا الموقف الأخلاقي الذي تمسك به قسم كبير من هؤلاء الشعراء، لا يبرر عدم النجاح في طرح نموذج شعري يكون بمستوى الأوضاع التاريخية التي طحنت هذا البلد. وبغضّ النظر عن نموذج (قصيدة النثر)، الذي هو أصلاً نموذج القصيدة الذي طرح في بلدان عربية قبل أن يطرح بالعراق، فإنّ النموذج الشعري في هذه المرحلة ظلّ بلا هوية فنية وجمالية. وهو ما نقل (مركزية الشعرية) من هذا البلد إلى بلدان أخرى كلبنان وسوريا التي احتضنت أسماء شعراء كأدونيس وسليم بركات وآخرين كانوا بمثابة المرجعية الشعرية الجديدة للموجة الجديدة في الشعر العراقي المعاصر.
إنّ المأزق المعرفي الذي أشرت إليه، يكمن في عدم بلورة موقف فكري وجمالي وأخلاقي، من الثقافة والشعر والحياة، وكلّ ما يطبع الكتابة الشعرية عندنا هو أنها استثمار للممتلكات الثقافية التي حصل عليها الشاعر في مرحلة سابقة، وما لم يتمكن من أن تكون مواقفه الفكرية والجمالية والأخلاقية مادةً للاستثمار الثقافي، لا العكس، فلن يكون ثمة شعر، إنما ممتلكات ثقافية منثورة على ورق الكتابة.
ناقد من العراق: دكتوراه في الفكر النظري الحديث
[email protected]
التعليقات