عندما نتحدث عن الثقافة العراقية في ظل ظروف تاريخية معقدة، ينبغي أن نفطن إلى قضية أبعد من حدود هذه الثقافة. بمعنى أن ما نريد أن نكشفه، لا يقتصر على الصراع الذي يدور داخل بنية هذه الثقافة حسب، إنما هو صراع ثقافات حقيقي يجري في ظل هيمنة كولونيالية جديدة تريد أن تفرض نمطاً من التفكير والثقافة والسلوك السياسي من ناحية، ويجري كذلك في ظل صراع إثنيات داخل النسيج الاجتماعي العراقي تسعى بقوة إلى التعبير عن هويتها وتوكيدها من ناحية أخرى، بصرف النظر عن ما ينجم عن هذا التوكيد من تدمير هوية عامة ظل البلد محافظاً عليها طوال عقود من الزمن.
هذا يعني، أننا أمام سوسيولوجيا معقدة للثقافة العراقية، يتداخل فيها الصراع الهوياتي الداخلي مع الصراع الثقافي الكولونيالي الأمريكي الجديد. في بداية الاحتلال، أراد الجنود الأمريكيون أن ينشروا بقصد أو بغير قصد عدداً من التقاليد الأمريكية في الشارع العراقي. لكنهم بعد مدة قصيرة وجدتهم يتنازلون عن تلك النفخة الغربية ويدخلون المحلات الشعبية ليتناولوا وجبات الطعام واحتساء العصائر والمشروبات الغازية. وذات مرة، أفلح صبيان يبيعون السجائر على الرصيف المحاذي لمطار المثنى قبالة متنزه الزوراء في جعل أحد هؤلاء الجنود يخلع حذاءه الكولونيالي ويرتدي نعالاً بلدياً ويطوي بنطاله إلى منتصف ساقه، وهو يمسك خرطوماً للمياه يرشّ به الرصيف في عز القيظ، وحينما تقف الأتوبيسات ينادي ذلك الجندي- بلغة معوجّة تثير الضحك- بدلاً من السائق: بيّاع... بيّاع... بيّاع، حتى يمتلئ الأتوبيس وسط ضحكات وهمسات وابتسامات وسخرية الصبيان وشتائم بعض الركاب.
لكن من الناحية الثانية، كانت النظارات المسحوبة من الجانبين، وحلاقة الرأس المارينز أو الحفر أو الطاسة أو النمرة صفر تزداد انتشاراً بين الشبان. وانتعشت مبيعات الجينز، وعصابة الرأس، والقمصان الشبابية البدي، وأخذ بعض الشبان يضع المساحيق في الوجه والرأس، ويستمع إلى الأغاني الأمريكية من قبيل: مغني الراب المشهور ايمنيم، وجنيفر لوبيز، وبرتني سبيرز ومادونا وآخرين.
وعندما اتخذ الحاكم المدني للعراق بول بريمر، الأمر رقم (22) في 8/8/2003. بتشكيل الحرس الوطني، كان الجندي العراقي يقف لأول مرة من دون ذلك اللباس التقليدي الذي عرف به منذ تأسيسه في العام 1921. كان الزي الجديد موضع سخرية العراقيين، إذ كان لباس الجندي العراقي على غرار لباس الجندي الأمريكي، وحركاته تناظر حركاته، وتجهيزاته تناظر تجهيزاته أيضاً، من غطاء الرأس، واستعمال النظارات الشمسية، ومسك قنينة الماء أو البيبسي كولا فوق ظهر الهمر التي تجوب شوارع بغداد، وكذلك شكل البنطال والسترة والجزمة، وبقية المستلزمات. إلا أن أشدّ ما كان يضجر ويسخر منه العراقيون، هو العصابة التي يتعصب بها هؤلاء الجنود وهم يمسكون قنينة الماء أو البيبسي كولا، أو يتناولون سندويشات الهمبرغر أو الشاورما. لكن من ناحية ثانية، يتذكر هؤلاء الجنود حكايات آبائهم وأخوانهم يوم كانت وجبات الطعام ndash; أيام صدام- عبارة عن رغيف محمّض مصنوع من أردئ أنواع الدقيق ويسمى ( صمون الجيش). يتذكرون كذلك الملابس العسكرية الرديئة، وقلة المرتبات، والأماكن الرديئة المخصصة لمبيتهم أو ممارسة واجباتهم. يتذكرون الإهانات والقمع الذي يمارسه عليهم أي عسكري حتى لو كان بمرتبة متدنية لكنه ينتمي إلى عشيرة الرئيس. يتذكرون أنهم كانوا مشروع حروب لا تنتهي أبداً؛ حروب عبثية الهدف من ورائها صناعة مجد الرئيس الزائف.
على هذا الإيقاع الجديد، كان الشارع العراقي يفقد طابعه الذي اختُزِن فيه تاريخ آبائنا وأجدادنا؛ تاريخ السلوك العراقي في العمران ومزاولة العمل بأعراف خاصة، إذ يتجاور العراقيون عادة من كل صنف ولون من دون أن تنشأ أية حساسية عرقية أو طائفية من النوع الذي يجري الآن. كان ثمة تنظيم للأسواق والمحال التجارية والأرصفة ونوع المهنة وواجهات المحلات والملصقات، لكن هذه الأعراف دُمِّرت الآن في فوضى التعبير عن الهوية تارة، وضعف القانون أو عدم القدرة على تطبيقه في ظل الانهيار الأمني تارة أخرى.
كان الناس يمشون في الشوارع والأسواق والمحال التجارية ويعلقون بصوت مهموس أو مسموع، ومن تلك التعليقات عليك أن تكتب تاريخ هذا البلد الذي يمرّ بواحدة من أقسى المحن التي تعرّض لها شعب في العالم. ومن هذه التعليقات، يكون بوسعك أن تميّز الطائفة والعرق، وأحياناً حتى الموقف السياسي الأيديولوجي. هؤلاء الناس فُتحت أفواههم، وها هم يحللون ويشرحون كلّ شيء، لكنهم يتحاشون الوصول إلى الكاريزمات الدينية الجديدة. بيد أنّ هذه التعليقات، هي نموذج آخر من نماذج التعبير عن الهوية وتوكيدها.
الشارع العراقي الحامل لثقافة ماضية، بات الآن يتأسلم أحياناً، وينزلق إلى الفوضى التي لا طابع لها أحياناً أخرى. فأنت ترى هذا بوضوح عندما تتجول في الشوارع، وسوف تستمع إلى تسجيلات دينية لخطباء أو زعماء أو تسجيلات لشعائر معينة، أو تقع عيناك على صور الرموز الدينية الملصقة على الجدران وواجهات المحال، أو تستمع إلى النغمات والأغاني الخاصة بالموبايل. حتى وأنت تتنقّل في التاكسي أو الأتوبيسات سوف تلحظ هذا الهوس بالتعبير عن الهوية ولاسيما لدى الشيعة الذي تعرضوا إلى أسوأ حملات الإبادة والقمع والتنكيل وغمط الحقوق من قبل صدام حسين منذ 1979 حتى 2003.
وكان هذا من الخطوات الأولى، باتجاه التمهيد لصراع طائفي مدمر. الإسراف في التعبير عن الهوية، كان يؤدي إلى نتائج عكسية، تدفع الطرف الآخر إلى المغالاة التي وصلت إلى محاربة كل وسيلة دالة على الهوية. وهكذا ولد العنف الطائفي في العراق.
كان السنة يتخبطون في التعبير عن هويتهم، إذ ثمة أزمة رمزية لديهم، فضلاً عن أنهم وقعوا أسرى بيد القاعدة والبعثيين الذين تحالفوا معها، فهم تارة يلصقون صور أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، وتارة يكتفون بتعليق قصار السور القرآنية، وتارة يبثون الأغاني والأهازيج ذات اللكنة الخاصة بفلكلور المنطقة الغربية، وهي أغاني حماسية تعبر عن مقاومة أهالي المنطقة الغربية للاحتلال لأنه انتزع منهم السلطة التي ظلت بأيديهم طوال قرون من الزمن. وأحيانا يحملون صور صدام حسين أو يكتبون على الحيطان عبارات تمجده، أو يتظاهرون في قسم من المناطق السنية المغلقة حاملين صوره مرددين الأهازيج بحقه، تلك الأهازيج التي كانت في يوم من الأيام تصدح عنوة في كل أرجاء العراق.
لكنك أحياناً، تستمع إلى تلاوات قرآنية بصوت قراء سعوديين، من أمثال: العجمي، والعفاسي، وعبد الرحمن السديس، وسعود شريم، وآخرين، وبعضهم كان يختتم القراءة الباكية الشجية بدعاء ثوري يتضرع إلى الله بنصرة المسلمين في بقاع الأرض على اليهود والأمريكان، وهو ما ينسجم مع الخطاب الإسلامي السني في العراق.
المهم في ذلك كله، هو أن الشارع العراقي ولاسيما في بغداد لم يكن شارعاً حيادياً، بل إنك تلحظ بوضوح مظاهر التعبير عن الهوية المأزومة بأكثر من طريقة. ونظراً لزحمة وسائل التعبير عن الهوية، فإنك منخرط لا محالة في جدل حول الوضع في العراق، أنت منخرط في تحليل كل شيء من السياسة، إلى أزمة النفط والبنزين والغاز التي تضرب بلد البترول. حتى أن العراقيين باتوا يتندرون بإحدى النكات التي تستثمر أسلمة الثقافة العراقية، ونصها: إياكم والإسراف بثلاث: النفط، الغاز، البنزين، رواه مسلم ميّت من البرد. ومسلم هذا، كما هو معروف، أحد أصحاب الكتب الصحاح التي تجمع بين دفتيها الأحاديث المروية عن النبي محمد.
وأفرزت ظاهرة الأزمة المستمرة للوقود، عدداً من المصطلحات المتداولة المستحدثة بعد الاحتلال، وتُسْمَع في الشارع بكثرة، وفي مقدمة هذه المصطلحات مصطلح: البحّارة. وهؤلاء هم أصحاب السيارات العتيقة ممن يتسللون إلى طابور الانتظار الطويل أمام محطات الوقود بالعنترة أو بغضّ الطرف من قبل الشرطة المشرفين على تنظيم الطابور.
وفي الوقت الذي يجري فيه التعبير المسرف عن الهوية البشرية المذهبية أو العرقية، كان تدمير هوية الشارع العراقي العمرانية والحرفية يجري في وضح النهار، ففقدت كثير من الشوارع ذات الطابع الحديث أو الطابع التراثي، خصوصيتها التي تنفرد فيها عن مثيلاتها من حيث الطراز والحِرَف ونوع الرواد ونمط الثقافة والسلوك، بالإضافة إلى طابع الحركة الاقتصادية في هذا الشارع أو ذاك.
لقد امتلأ شارع الرشيد وهو أحد أعرق الشوارع البغدادية، بالنفايات والتجاوزات العمرانية وتغيير الخريطة المهنية، فهجر كثير من أصحاب الحِرَف التي كانت تمنحه طابعه الخاص، وهكذا تحولت إلى أماكن لبيع المعدات الثقيلة، أو إلى مخازن تتكدس فيها البضائع بصورة عشوائية. ومن المؤسف، أنّ واحدة من أقدم دور السينما في العراق وهي سينما الزوراء التي تزيّن واجهتها النقوش البغدادية في مطلع القرن الماضي، قد تحولت إلى مخزن محشو بالكراتين والبضائع التجارية. وأغلقت إلى الأبد، شركة جقماقجي للتسجيلات الصوتية، التي تعد من أقدم شركات الاسطوانات، بعد أن لحقتها أضرار جراء انفجار، وبعد أن تحول الشارع إلى مكان لعصابات الإجرام. ومن المدهش، أن سلسلة من المحلات الراقية لبيع الملابس في هذا الشارع التراثي، تحولت إلى محلات للسمكرة أمام مرأى أمانة بغداد، التي وقفت عاجزة عن اتخاذ القرار اللازم بإبعادهم إلى المدن الصناعية الخاصة بهذه المهن.
وبمحاذاته، تحول شارع النهر الذي يقع على نهر دجلة، إلى شارع مهمل يغزوه أصحاب النعمة الحديثة، فيغيرون الطبيعة الجمالية للشارع بمهن لم يصلح لها قط. فهو بعد أن كان يزخر بآخر صيحات الموضة في الأزياء والذهب، وتموج فيه النساء الجميلات من كل صنف ولون، صار الآن خالياً إلا من عربات الحمل الدفع، أو البضائع المرمية على الأرصفة. لكن هذا الشارع السياحي، الذي تقع عند أقدامه بناية المستنصرية الأثرية التي يعود تاريخ بنائها إلى 631 هجرية في عهد الخليفة العباسي المستنصر بالله، ويقع في خاصرته أحد الخانات الشهيرة وهو خان مرجان الذي شيد في العام 1358م حيث كانت تصدح فيه حفلات المقام العراقي، ويحاذي جسده من الغرب نهر دجلة بأسماكه وزوارقه، قد أُهمِل شأنه شأن بقية الشوارع الأخرى، ولم تراع قيمته التراثية، ولا قيمته الاقتصادية للبلد، إذ هجره التجار الكبار بسبب تربص عصابات الخطف والابتزاز.
وهذا الشارع، عبارة عن سوق لبيع الانتيكات من كل صنف ونوع، يأتي إليه السواح الأجانب، ليقتنوا التحف والهدايا، فتنتشر الثقافة الشعبية في كل بقاع العالم عن طريق هؤلاء السواح؛ أو السفراء المجهولين. وفيه ينتشر عدد من المقاهي، وفي مقدمتها مقهى شط العرب الشهيرة، التي أُعْدِمَ صاحبها عبد العزيز من قبل مخابرات صدام بعد أن أرادوه يعمل جاسوساً على رواد المقهى فرفض فكان جزاؤه التغييب في المقابر الجماعية، لكن الوضع الجديد قام بإعدام المقهى نفسها بوصفها مكاناً تراثياً، ترصعت جدرانها بحكايات البغداديين طوال عقود من الزمن.
إن القضاء على المقهى البغدادي، هو جريمة ثقافية، ذلك أن هذه المقاهي بخلاف مقاهي البلدان العربية ظلت محافظة على ديكورها التقليدي الذي يعود إلى بدايات القرن الماضي، وربما قبل ذلك. ولم تخل مقهى من رواد مثقفين؛ من الكتّاب والأدباء والفنانين. وقد منحها ذلك خصوصية ثقافية، هي أنها أصبحت مكاناً للتخيل والكتابة والإبداع، وصالوناً للحوار الثقافي الحيّ. وفي هذه المقاهي، انبثقت جماعات أدبية وفنية، كان لها أثر بالغ في تطور الحركة الثقافية، وتنويع نشاطاتها. من ناحية ثانية، تعد المقهى البغدادية، ذاكرة وطنية عامة، إذ تزدان جدرانها بصور الشخصيات العراقية من سياسيين ومثقفين وعلماء، وكذلك تزدان بصور تدون حركة الناس ولباسهم ومهنهم وعمارتهم وعاداتهم الشعبية، بالإضافة إلى اللوحات التي تهدى من الفنانين الرواد إلى صاحب المقهى ليعلقها على أحد الجدران. وقد طال التفجير الانتحاري عدداً من المقاهي، على حين أغلق بعضها بسبب التهديد من إسلاميين متطرفين، مثل مقهى الشابندر في شارع المتنبي التي أغلقت عدة مرات.
من ناحية أخرى، تحولت ضفاف نهر دجلة إلى مكبّ للنفايات، ومات المقام العراقي، وغاب السواح والنساء الجميلات، وأحيطت المستنصرية التي تعد مَعْلماً أثرياً إنسانياً وعراقياً وإسلامياً، بالنفايات المحترقة من ثلاثة جوانب. ولعل وضع بناية المستنصرية التي تعد من أقدم الجامعات في العالم، ينبئك عن الوضع المتردي للجامعة والتعليم في العراق.
لم يكن هذا بسبب فقدان الأمن حسب، بل ثمة رغبة لتدمير الهوية الثقافية لمدينة بغداد، فالأماكن التي عليها مسحة ثقافية سنية لا تحظى برعاية المجالس البلدية ذات التكوين الشيعي، وهكذا بالنسبة للأماكن ذات المسحة الثقافية الشيعية في الأماكن السنية. فهذا عمل إرادي مقصود، يستند إلى ذهنية دينية تنحّي جانباً كل مكون ثقافي سواء أكان دينياً من مذهب آخر، أو دنيوياً يطلق عليه عادة علمانياً، وحينئذ يوضع في خانة الحرام والتكفير والتبعية إلى الغرب.