في خطوة تحمل أبعاداً سياسية وقانونية أكثر منها إنسانية، أثار قرار روسيا منح بشار الأسد وعائلته بعد هروبهم من دمشق في 8 كانون الأول (ديسمبر) الجاري لجوءاً إنسانياً بدلاً من اللجوء السياسي، الكثير من التساؤلات والنقاشات حول الدوافع الحقيقية لهذا القرار وغاياته، وخصوصاً أن توصيف اللجوء الإنساني يثير تساؤلات حول مدى ملائمته لرئيس دولة متهم بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان.
ففي الوقت الذي رأى فيه البعض أن منح الأسد اللجوء الإنساني بدلاً من اللجوء السياسي يعكس محاولة روسيا لتجنب التداعيات القانونية والسياسية التي قد تنجم عن استضافة الأسد كلاجئ سياسي، رأى البعض الآخر أنّ هذا القرار يعكس محاولة روسيا لإعادة تموضعها الاستراتيجي في سورية لإعادة ترتيب أوراقها بما يتناسب مع مصالحها بعد هروب الأسد. واعتبروا أنّ هذا القرار مجرد غطاء يُخفي ترتيبات أعمق تُبرم خلف الكواليس.
في ظل هذه التساؤلات والنقاشات، تُظهر القراءات أنّ قرار منح روسيا حق اللجوء الإنساني لبشار الأسد وعائلته يستند إلى اعتبارات سياسية بحتة، بالرغم من أنّه لا ينسجم مع المعايير القانونية الدولية، لا سيما اتفاقية اللاجئين لعام 1951 التي تستثني من الحماية الأفراد المتّهمين بارتكاب جرائم كبرى، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
وبالتالي، فإنَّ سرعة إعلان روسيا منح اللجوء الإنساني للأسد، بقرار مباشر من الرئيس فلاديمير بوتين، وليس من الجهات المختصة بطلبات اللجوء، يؤكد طابعه السياسي. كما أنّ استخدام روسيا توصيف اللجوء الإنساني بدلاً من اللجوء السياسي يعني أنّها تريد أن تتعاطى مع الملف بشكل يجنّبها العديد من التبعات السياسية والقانونية التي قد تترتب على منحه اللجوء السياسي، لا سيما أنَّ هناك فارقاً قانونياً كبيراً بين اللجوء الإنساني واللجوء السياسي. فاللجوء السياسي يُمنح عادةً للأشخاص الذين يتعرّضون للاضطهاد أو الملاحقة بسبب مواقفهم السياسية أو انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو نشاطاتهم المعارضة للنظام الحاكم، ويكون هذا اللجوء في أغلب الأحوال دائماً ويفرض التزاماً قانونياً صارماً على دولة اللجوء بحمايتهم من التسليم والمحاكمة مهما صدرت بحقهم أحكام تدينهم.
إقرأ أيضاً: محددات الرد الإيراني على إسرائيل
أمَّا في حالة اللجوء الإنساني، الذي يُمنح عادةً للأشخاص الفارين من بلادهم بسبب الخطر المباشر على حياتهم أو سلامتهم أو كونهم من المتضررين من الأوضاع الإنسانية الصعبة والكوارث الطبيعية والحروب، فيكون مؤقتاً لحين تحسّن الظروف في بلدهم الأصلي ليتمكّنوا من العودة إليه. لكن في حالة صدور أحكام قضائية تدينهم في جرائم يعاقب عليها القانون، فالدولة التي لجأوا إليها مطالبة بتسليمهم تنفيذاً لتلك الأحكام.
وبالتالي، فإنَّ اللجوء الإنساني لا يحمي طالب اللجوء من المثول أمام المحاكم الدولية مستقبلاً، وعلى دولة اللجوء تسليمه للمحكمة. في حين أنَّ اللجوء السياسي يختلف تماماً بحيث لا يمكن لدولة اللجوء تسليم اللاجئ السياسي إلى أيّ دولة أخرى أو جهة إلا بموافقة اللاجئ نفسه، وهذا ما ينص عليه القانون الدولي الخاص بالجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.
لهذا، فإنَّ الروس بمنحهم اللجوء الإنساني لبشار الأسد كاستجابة لمتطلبات إنسانية بحتة - حسب قولهم - يسعون إلى تجنّب أي تداعيات قانونية وسياسية مرتبطة باستقبال رئيس دولة متهم بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بصفته لاجئاً سياسياً.
إقرأ أيضاً: الشُعوبيون الجُدد
يُضاف إلى ذلك أنَّ منح روسيا اللجوء الإنساني لبشار الأسد بدلاً من اللجوء السياسي يمنح روسيا مساحة قانونية أوسع للتحرك والمناورة، ويجنبها التورط المباشر في تحمل مسؤولية أفعال الأسد أمام المجتمع الدولي. كما يمنحها في نفس الوقت ورقة تفاوضية مهمة قد تستخدمها لتحقيق مكاسب سياسية على حسابه إذا ما اقتضت مصالحها ذلك. لهذا من المتوقع أن يبقى قرار استرداد الأسد وتقديمه للمحكمة خاضعاً للاعتبارات السياسية الروسية.
روسيا قد تلجأ إلى استخدام نفوذها، خاصة حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لحماية الأسد من الملاحقات القانونية ومنع إحالته للمحكمة الجنائية الدولية. كما أنَّ المحكمة لا تملك سلطة قضائية إلا على الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي، الذي اعتمد عام 1998 واعتبر بمثابة المعاهدة الدولية المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية. وروسيا غير موقعة على هذا النظام، وقد يكون إبقاء الأسد تحت مظلتها الإنسانية مجرد ورقة ضغط قابلة للاستخدام في أي وقت دون الالتزام بحمايته إلى الأبد.
إقرأ أيضاً: ما يعنيه لإيران إسقاط الأسد
ختاماً، يمكن القول إنَّ منح روسيا لجوءاً إنسانياً لبشار الأسد بدلاً من اللجوء السياسي، لم يكن مجرد إجراء شكلي، بل يُمثل خطوة مدروسة بعناية توازن بين التزامها الظاهري بحماية حليفها السابق، وبين ترك الباب مفتوحاً أمام احتمالات التخلي عنه إذا اقتضت مصالحها الاستراتيجية ذلك. وهنا يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستتمكن روسيا من الحفاظ على هذا التوازن الدقيق بين حماية الأسد واستثماره لتحقيق مكاسب سياسية؟ أم أنَّ هذا القرار سيصبح مقدمة لتغيير جذري في موقفها من الأسد إذا ما تعارض وجوده مع أولوياتها الاستراتيجية؟ الأيام القادمة وحدها ستكشف الإجابة على هذا التساؤل المحوري.
التعليقات