عُرِّفت الشعوبية، منذ ظهورها في نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي، بأنها نزعة عنصرية معادية للعرب كان هدفها الأساسي إعادة السلطان للعجم وضرب الإسلام وإحياء ديانات قديمة. منذ ذلك الوقت، أصبحت الشعوبية واسعة الانتشار، ودخلت في تجاذبات واتخذت صورًا وأشكالًا متعددة عبر التاريخ، وصولًا إلى وقتنا الراهن الذي اتخذت فيه صيغًا جديدة. اليوم تُعرّف الشعوبية بأنها كل دعوة تهدف إلى هدم الفكر العربي الإسلامي في أعمدته الأساسية: الإسلام، واللغة، والتاريخ، والتراث.

ما يجمع الشعوبيين قديماً وحديثاً هو العداء للعرب والإسلام. الشعوبية الجديدة لا تختلف عما كانت عليه في الماضي من حيث الهدف والأسلوب، غير أن الفارق بين الحاضر والماضي يكمن في أسلوب خطاب التضليل الذي تمارسه. لقد تمكنت الشعوبية الحديثة من إغفال جماعاتٍ وفئاتٍ من الأمة، وشراء ذمم البعض الآخر، معتمدةً في ذلك على سلطة المال والإعلام، واستغلال الدعاية السياسية، وترويج الثقافة الطائفية لضرب الدول والمجتمعات العربية والإسلامية. بالتالي، فإنَّ وجود الشعوبيين لم يقتصر على فترة زمنية معينة، بل امتد عبر مراحل زمنية مختلفة حتى وصلوا إلى وقتنا الراهن. وإذا كان الشعوبيون الأوائل من الأعاجم، فإنَّ الشعوبيين الجدد اليوم هم من أبناء الجلدة العربية. وإذا كان الأولون قد أرادوا إحياء ثقافاتٍ أخرى على حساب الثقافة العربية، فإنَّ الشعوبية الحديثة تسعى إلى استيراد ثقافاتٍ هجينة على حساب ثقافتنا العربية والإسلامية.

تتمثل أهم مظاهر هذه الشعوبية الجديدة في الدعوة إلى إحياء اللهجات العامية ونبذ اللغة الفصيحة، والمناداة بإحلال الحروف اللاتينية محل الحروف العربية، وإشاعة فكرة رفض الماضي والتراث، ورفض كل اعتزاز بمجدٍ تليدٍ بحجة التطلع إلى الأمام. كما يسعى الشعوبيون الجدد إلى ربط المبدعين العرب في شتى ألوان العلوم والفنون بغير الأصل العربي، وإنكار أي إسهامات للعرب في الحضارة، ونسبة كل خير فيهم إلى اليونان والأمم السابقة. كما يُحمل العرب مسؤولية سقوط الخلافة الإسلامية، ويتم تصويرهم كعنصر خائن. لذلك، ليس تجنياً أن نطلق على بعض الأدباء والروائيين والإعلاميين والباحثين ورجال الدين ومشاهير السوشيال ميديا وغيرهم لقب "الشعوبيين الجدد". البعض منهم أصبح أكثر شعوبية من الشعوبيين القدامى أنفسهم، بعد أن بلغ خطابهم من السقوط ما يثير السخرية والاشمئزاز، لدرجة أننا بتنا نسمع ونقرأ يوميًا من يسبّ العروبة ويشتم العرب وقيمهم الإسلامية، ويطلق أحكامًا جائرةً ضد تاريخهم وموروثهم وأعرافهم ورموزهم، بل ويستهين بهويتهم وثقافتهم وانتمائهم، وكأنهم غير مؤهلين للحياة والمستقبل. الأكثر من ذلك، أن الغلاة من هؤلاء الشعوبيين الجدد يمارسون التدليس والتشويه، بعد أن استبطنوا النفاق في قلوبهم وباعوا ضمائرهم في سبيل عرضٍ من الدنيا زائل. بدت البغضاء من أفواههم وأقلامهم المسمومة والمأجورة في طعنهم لأمتهم ودعوتهم إلى الانسلاخ عن الإسلام بحجة أنّه المسؤول عن كل ما أصابنا من مصائب.

بالعودة إلى ما يحدث اليوم وما يُمارس من خطاب إعلامي، وما يُنشر في مواقع التواصل الاجتماعي ضد علماء ودعاة وضد كتب تراثية وشخصيات تاريخية ودول، بقالب هزلي ساخر تهكمي، فإنه يُجسّد نظرة استعلائية شعوبية جديدة فاقدة لكل القيم والأخلاق. هذه النظرة تُنكر تاريخنا الحضاري، وتمجّد الآخرين وتظهرهم أمم حضارة وتقدّم وقوة، مقابل حفنة من العرب المتخلفين الجهلة الرجعيين المتشبثين بفتاوي وكتب بالية. كم شُتم العرب أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة بعد عملية "طوفان الأقصى"، وكم مُدحت إيران من قبل هؤلاء الشعوبيين الجدد الذين أعلوا من شأنها ومجّدوا موقفها من الحرب واصفين إياه بالاستقلالي والمقاوم والداعم للشعوب المضطهدة في ترديدٍ ببغاويٍ لشعاراتٍ كشف التاريخ الحديث زيفها وبراغميتها على حساب أمة العرب.

ختاماً، يمكن القول إنّ ظاهرة الشعوبيين الجدد لم تكن أبداً أمراً طارئاً ولن تكون كذلك. فهي تشكّل تيارًا واضحًا يكبر ويترعرع بيننا، ويزداد قوةً وحضورًا وتأثيرًا، له أجندته المحددة والمدعومة داخليًا وخارجيًا. يدعو هذا التيار الآخرين إلى انتزاع أنفسهم من قيمهم وأخلاقياتهم وهويتهم، ويبشّر بأمراض سيكولوجية واجتماعية، ويمثل دولاً ومؤسسات ومرجعيات وكيانات تعمل ليل نهار على تشويه منظومتنا في الحاضر والمستقبل. هذا يستوجب إعادة قراءة التاريخ العربي الإسلامي جيداً واستخلاص الدروس والعبر منه لمواجهة ما يُحاك ضد العرب والإسلام من مؤامرات تحت شعاراتٍ زائفةٍ وجوفاء يتّخذها أعداء الأمة، بمساعدة هؤلاء الشعوبيين الجدد، شمّاعةً لقطع صلة العرب بدينهم وتاريخهم وثقافتهم وتراثهم.