كم نشتاق اليوم إلى عش بيتنا القديم، وإلى أيام الطفولة الأولى والصبا، وأحلامنا الصغيرة، والحارة وأبنائها، بجانب الأهل والأصدقاء والمعارف، رغم العوز والفاقة والفقر الذي كان يفتك بنا جميعًا. نعم، كلنا، وإن كنا نعيش في بحبوحة حينها، نحن أبناء سوريا. أما اليوم، فإن أغلب أهلنا هناك يعيشون الفاقة بكل تفاصيلها. وفي أماكن اللجوء، التي وصل إليها أبناء سوريا، وإن تغير الحال كثيرًا بالنسبة لمن توجه منهم إلى أوروبا (بلاد النعيم) أو إلى الولايات المتحدة الأميركية وكندا، أستراليا، البرازيل، وإلى العالم العربي الذي استقطب هو الآخر أعدادًا كبيرة منهم.

بعد كل ما جرى ويجري اليوم على الأرض السورية، ماذا يمكن أن نقول عن مصير مئات الآلاف، بل الملايين الذين هُجّروا عنوةً؟ ومنهم من تمكن من الفرار من جلادي النظام والأسى الذي يعانون منه، والفقر المدقع الذي لمسوه بأيديهم، وقلة من فضّل البقاء في الوطن، ليس حبًا فيه وإنما بسبب الخوف والرعب من المجهول.

ندرة توافر السيولة المادية بين أيدي الناس وقفت حجر عثرة في طرق أبواب الاغتراب والهروب من وجه النظام الطاغي وزبانيته المستفيدين، جهارًا، من جيب المواطن "المعتّر". وما زالوا حتى اليوم يعبثون بخيرات البلد التي اغتنموها وعاثوا فيها فسادًا، وها هي النتيجة التي وصلوا إليها، بدءًا من غلاء المعيشة غير الطبيعي، حيث وصل سعر الدولار مقابل الليرة السورية إلى سقف 15 ألف ليرة، في حين أن سعر الدولار لم يتخطَّ حدود 50 ليرة خلال الفترة التي سبقت الأزمة التي عاشها ابن سوريا، وصولًا إلى الانهيار الاقتصادي الكلي والقهر بحقوقه.

الصورة المحزنة التي ينقلها لنا أهلنا وإخوتنا في الداخل السوري تحمل الكثير من المعاناة، ولكن ما العمل؟ فقد اعتادوا عليها، وأصبحت جزءًا من معيشتهم، وحتى أحلامهم!

لم يكن المواطن في سوريا، في يوم من الأيام، يتخيل أن يصل به الحال إلى هذه الصورة التي يعيشها اليوم ويعرفها الجميع سواء في الداخل أو الخارج، سواء كانوا مهاجرين أم متشبثين فيه! لقد صاروا جزءًا من الواقع، وها هم يتعايشون فيه رغم أنوفهم، وأغلبهم يفضل الفرار بنفسه ولكن؟ تظل هناك حواجز من الصعب تجاوزها، وبصورة خاصة بالنسبة للمتزوجين الذين لديهم أسر كبيرة، وحتى المسؤولين عن الأسر الصغيرة. فإلى من يترك هؤلاء أطفالهم وزوجاتهم ويفرّون من جحيم الفاقة والعوز الذي يعانون منه، والمطالب اليومية التي لا تنتهي؟!

إقرأ أيضاً: تراتيل من واقع يحتضر

أمثال هؤلاء، وغيرهم كثيرون، فضلوا العيش إلى جانب أسرهم، مفضلين الموت البطيء على السفر والهجرة إلى بلاد بعيدة يجهلونها لأسباب عديدة، من أهمها: من يملك القدرة على تركهم للحاق بركب الهجرة؟ وكيف سيكون مصيرهم بعد رحيلهم؟ وكيف سيعيشون؟ ومن يلبي طلباتهم؟ ومن يرأف بحالهم؟ ومن المسؤول عنهم في حال غياب الأب؟ وكيف سيتدبرون أمورهم؟

الأسئلة، لا شك، كثيرة ومرعبة، تبحث عن حلول، وصارت تهم كل مواطن سوري، ولكن؟

هذا ما دفع رب الأسرة الفقيرة، على وجه التحديد، للبقاء في بلده والعيش في خذلان، وقبول الواقع والالتزام بأي عمل مهما كان دنيئًا وبأجر بسيط لأجل خاطر عيون أطفاله. وهذا ما يحدث اليوم في سوريا التي تلاشت!

إقرأ أيضاً: تركي رمضان... وصمت الجدران

سوريا التي لم تعد كما نعرفها. ورغم كل هذا الدمار والخراب والفقر الأسود، والعيش الذليل، فإن المواطن السوري يتشبث بأرضه رغماً عنه، وليس عن طيب خاطر، بل رضا بالمقسوم.

أنقل هذا الكلام من رحم المعاناة التي يعيشها ابن سوريا، الذي تحمل، وعلى مضض، هذا الواقع المرير منذ عشرات السنين في ظل حاكم لا يعرف الرحمة، وكل همه قهر المواطن السوري وإذلاله وسحقه!

هذا هو لب المعاناة، وما تزال تزداد يومًا بعد آخر، وخاصة في الداخل السوري.. فإلى متى؟