الغربة التي كانت مجرد حلم وردي يراود أحلام الشباب في سوريا تحولت إلى واقع معاش، ولم تعد تؤرق يومهم كما يظن البعض. ولن نقول إنهم عاشوها بقسوة، لا أبداً... تلك الأيام التي قضوها، وما زالت تظلهم بناسها، كانت من أجمل الأيام التي عاشها اللاجئون السوريون وغيرهم في البلاد التي احتضنتهم، فكانت أفضل بكثير مما كان متوقعاً، ومن أجمل الأيام.

إنَّ أفضال البلاد التي أوت نزوحهم وتشردهم وغربتهم وإفلاسهم كثيرة ولا يمكن أن ينسوها أو يتناسوها يوماً. بل إنها زرعت فيهم بهجة الحياة، وقدمت - مجتمعةً - الشيء الكثير لكل من وطأت قدمه أرضها.

الخدمات كانت تفوق التصوّر، ناهيك عن الاحترام والود، وكثيراً ما كانوا يتأملون أن يتوافر ذلك للكثير من أهلنا في سوريا وشعبها الطيب البسيط الذي يُباد اليوم وبدم بارد من قبل قيادة مجرمة لا ضمير يؤنبها، ولا ضير من أن تزيد من الفتك بشعبها وتقتل ما تريد بدون أي رادع من أحد أو مخافة من الله.

فالقتل هو معيار الحياة الذي تنشده. وها هي المدن والبلدات، وحتى القرى السورية، تُدك بآلة القتل والدمار، ولم تثن أناسها على البقاء، متشبثين بأرضهم رغم مرارة الحياة وعفونتها، ما دفع أمة بكاملها إلى النزوح والغربة مرغمة.

الإجرام أماط اللثام عن أسرة حاقدة لا تعترف بالإنسان، وكل ما يهمها هو الحصاد، والفوز بأي شيء باستثناء الإبقاء على الإنسان مجرداً من إنسانيته.

في البلاد التي احتضنت شبابنا الفارّين من هول ما حدث، للأسف، وما قدمته لكل الناس الذين دفعوا الغالي والرخيص لينجوا بأرواحهم مجتازين بذلك البحر بكل جبروته، اختزل الكثير من حياة أهلنا الذين كانوا ضحايا الدوّامة التي أنهكتهم.

وأكثر ما أستغربه هو أن الكثير من المهاجرين، وبصورة خاصة ممن لجأوا إلى البلاد الأوروبية، لا حديث يراود ذاكرتهم إلا العودة إلى الوطن، والرغبة في تجسيد ذلك، متناسين الواقع المرير الذي يعيشه أهلنا هناك، وحال الحرب الدائرة التي أتت على كل شيء!

ما مبرر ذلك كله ما داموا يعرفون حقيقة ما يحدث؟

إقرأ أيضاً: الرياضة النسائية العربية.. وعودة محمودة

إنها مجرد ترّهات يُشعرنا بها ذاك الذي يكثر الحديث عن الوطن، ويذرف الدموع ويتباكى عليه. ذاك الذي أرّقت الغربة مضجعه، وأن الحياة لا يمكن لها أن تستمر بعيداً عنه! هكذا يدّعون في العلن وأمام الناس، وهم في الحقيقة بعيدون كل البعد عن اللحاق بالوطن والعودة إليه؛ لأنهم لا يملكون مقومات العودة والعيش في وطن تهاوى واندثر. وفي الوقت نفسه، لم يعد لدى الوطن ما يمكن أن يقدمه لأبنائه فلماذا إذن كل هذا العويل والصراخ الذي لا يغني ولا يسمن من جوع!

هذه النداءات التي تنطق بها الألسن قبل القلوب خاوية. إنّها مجرد أفكار ولغة ساذجة يُراد منها تظليل الآخرين واستذكار الماضي بكل آلامه ومنغصاته!

الباب لا يزال مفتوحاً لمن يرغب في العودة إلى سوريا - الوطن! فأي عودة ينشد هؤلاء المغالون في ظل واقع خدمي متردٍّ هشّ ملول، تغيب فيه مقومات العيش الكريم، فضلاً عن الفقر المدقع... وأشياء كثيرة يصعب ذكرها...

إقرأ أيضاً: الموسيقى ومعالجة مرضى الأعصاب

تفضلوا... البلد ينادي أبناءه للعيش على أرضه، وبكل حرية، في بؤر من الفساد والخيانة والكذب والحاجة، وغياب أبسط مقومات الحياة الكريمة، ناهيك عن الغلاء الفاحش، وصور مؤسية ما أنزل الله بها من سلطان. هذا هو حال البلد اليوم!

بقي أن نشير إلى أن هناك البعض ممن يدافعون عن النظام المجرم! طبيعي أن يكون لهم رأي آخر، وهذا ليس بغريب عليهم؛ لأنهم يظلون قريبين منه، ومستفيدين من عطاءاته، ومندسين بين صفوفه، وهم من المقيمين فيه أو الزائرين له، ومن المحال أن يرموا حكومتهم بحجر. إن التفاخر والتعامي عما حدث، والدفاع عنها ورمينا بأخسّ العبارات هو سلاحهم وديدنهم الوحيد، وهذا ما سنقرأه في ذيل التعقيبات التي يدونها المنتفعون من النظام القاتل، النظام الفاسد، الذي يُصرّ على الاحتفاظ بكرسيه، فإنه إلى زوال طال الزمن أم قصر!