أثار الفيلم الهندي The Goat Life (حياة الماعز)، الذي تم إنتاجه بتمويل هندي - أميركي وعُرض في شاشات السينما العالمية، بناءً على الرواية التي حملت نفس الاسم ونُشرت في عام 2008، جدلاً واسعاً، خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، حول ظاهره وهو موضوع "حقوق الإنسان" في السعودية ودول الخليج العربي، وباطنه وهو قدرة السينما على تسويق قصة الفيلم على أنها الحقيقة المطلقة، بينما الواقع مختلف تماماً.

الفيلم، الذي استند إلى قصة حقيقية... إلا من ثلاثة أرباع الحقيقة!، قدّم فقط ربع القصة الحقيقية، وتمثل هذا الربع في قدوم عامل هندي إلى السعودية في بداية تسعينيات القرن الماضي للعمل في وظيفة "عامل"، بعد أن تعاقد مع أحد مكاتب التوظيف في بلده الهند للحصول عليها. لاحظ عزيزي القارئ أن محنة هذا العامل بدأت أساساً في بلده عبر "مكتب التوظيف" المحتال الذي سوّق له "عالماً وردياً" في انتظاره، دون مؤهلات تتيح له هذا العالم الوردي! وعندما وصل إلى السعودية، تُرك هائمًا في المطار حتى قاده القدر إلى مواطن سعودي -رحمه الله وغفر له- تلبّس دور الكفيل حين قدم نفسه للعامل في المطار، ونقله للعمل في صحراء قاحلة كراعٍ للغنم في ظروف معيشية صعبة ودون إعطائه رواتبه المستحقة لعدة سنوات. هنا انتهى ربع الحقيقة... وما خفي في ثلاثة أرباع الحقيقة التالية أعظم.

هذه الثلاثة أرباع من الحقيقة، بناءً على حديث الراوي السعودي المعروف الأستاذ عبدالرحمن الدعيلج، الذي وجدت له مقطع فيديو على منصة "اليوتيوب" مدته عشر دقائق، يعود إلى ما قبل أكثر من ثلاث سنوات، أي قبل تصوير وعرض فيلم "حياة الماعز"، حتى لا يُحسب حديث الدعيلج محاولة للتغطية على ما جاء في الفيلم. وبلهجة سعودية، يُكرم الدعيلج عن مثل هكذا نية وتصرف. حديث الدعيلج كان عبر برنامج حواري شعبي يُبث عبر قناة المجد الفضائية، وهو برنامج مشهور وله قاعدة جماهيرية كبيرة ليس في السعودية فقط، بل في الوطن العربي بأكمله وحتى في باقي دول العالم عند المهاجرين العرب. وفكرة البرنامج تتلخص في قصص يرويها الحضور الكرام بناءً على إما مشاهدة شخصية أو نقلاً عن أصحاب القصة أنفسهم أو شهود عيان. وقصة عامل "حياة الماعز" رواها الدعيلج في المقطع المذكور نقلاً عن شهود عيان، وكما ذكرت سابقًا فالمقطع يتجاوز عمر نشره على اليوتيوب أكثر من ثلاث سنوات. وسأوجزها بتصرف لا حرفيًا لدواعي عدم الإطالة وكون المقطع باللهجة السعودية.

في القصة الحقيقية التي رواها الدعيلج، لم يكن الهندي مسلمًا، ولم يكن له شريك في السفر -كما جاء في الفيلم- بل هو من تعرّف بعد ذلك على هندي مثله يعمل في مرعى للماشية يبعد عنه بضعة أميال عندما كان يرعى أغنام الكفيل. فتصدقا، وبدأ يتعلم منه اللغة العربية والألفاظ التي تساعده في مهنته، وبدأ يتعلم منه كيفية العمل. ولم يشجعه صديقه الهندي على الهرب كما جاء في الفيلم، بل أخبره فقط أن يطالب بأجره المستحق من الكفيل. وعندما بدأ يطلب مرارًا وتكرارًا من الكفيل رواتبه المستحقة، رفض الكفيل أن يعطيه إياها، فطلب العامل منه أن يتركه يذهب لحال سبيله ويعود إلى وطنه، فرفض الكفيل أيضاً. وعندها جن جنون الهندي، وفي موقف لاحق تلاقيا فيه في موقع عمل العامل، تجادلا حول متأخرات رواتب العامل ووضعه الأشبه بالاستعباد، وتدافعا بالأيدي، ليجد العامل بالقرب منه عصا من حديد التقطها وضرب بها الكفيل فقتله. فرّ العامل بعدها إلى خيمة هندي بالجوار من مكان عمله. وعندما تأخرت عودة الكفيل لأهله، جاءوا للبحث عنه ليتفاجأوا بجثته الملقاة. وعندما أبلغوا الشرطة علموا بحقيقة الجريمة وحقيقة استعباد والدهم للرجل الهندي. تم القبض على الهندي وحبسه حتى تنفيذ قصاص القتل فيه. ولكن عندما عرف أهل الحل والعقد بالبلدة ومحافظها قصة الهندي المغدور المظلوم، جمعوا له نقود الدية وقدرها 170 ألف ريال، وذهبوا لأبناء الكفيل وورثته وأخبروهم بحقيقة ظلم والدهم للرجل واستعباده له لأكثر من خمس سنوات، وأن ما أقدم عليه الهندي من قتل كان نتيجة قهره وظلمه وانتقاماً لنفسه. فتشاور أبناء القتيل وسألوا في ذلك أحد مشائخ الدين: "يا شيخ، هل على أبي دين لهذا الرجل؟"، فأجاب الشيخ: "نعم عليه الكثير". فتشاوروا وأخبروا الجمع بأنهم سامحوا الهندي لوجه الله، ولا يريدون منه ديّة والدهم المقتول، علّ ذلك يغفر لوالدهم ما فعله بالهندي. وهنا اتفق الجمع على الذهاب إلى الهندي في مكان حبسه، وهناك أخبروه بحضور مترجم، بما جرى مع أبناء الكفيل وعفوهم عنه لوجه الله، وعسى أن ينفع هذا العمل والدهم الظالم. فذُهل العامل، وفوجئ بالجمع يعطونه الدية التي جمعوها وقدرها 170 ألف ريال سعودي، وأخبروه أن بإمكانه أن يبدأ مشروعًا في بلده بهذا المبلغ. فاضطرب الرجل وسأل المترجم: "أليس الكفيل المزيف مسلمًا مثلهم؟"، فأخبروه أنه فرد وتصرفه الخاطئ لا يعبر عن الإسلام أو عن أهل البلد - وأنا أشهد! -، والإسلام هو من شرّع الدية، وشرّع العطاء للمحتاج ولو كان آثمًا. فإذا بالرجل يُسلم في الحال من داخل محبسه، ويعود بعدها إلى بلده مسلمًا غنيًّا مكرمًا يحمل اسم "نجيب محمد". لا كما أظهره الفيلم بأنه "مسلم" من البداية، بل كان عند قدومه إلى السعودية على الديانة الهندوسية. ومن هنا يكفيك فقط أن تعي بعدها أن الفيلم أنتج -دُبّر- بليل... ولست هنا في مقام الدفاع عن "الكفيل المزعوم الظالم"، فحسابه عند العادل سبحانه، ولكنني في مقام الدفاع عن شعب جُبِل على الكرم والفزعة للمظلوم، ولا ينبئك مثل خبير... والقاعدة المعروفة "الاستثناء لا تُبنى عليه قاعدة".

إقرأ أيضاً: بلاد العرب أوطاني... من الشامِ لكيب تاونِ!

قبل الختام، هذا الفيلم جاء ليحيي قديمًا متجددًا، وهو ضرورة وجود "صناعة سينما مضادة" في السعودية خاصة وفي دول الخليج عمومًا، يكون هدفها التصدي للحملات السينمائية المسيئة التي تستهدف تنميط الشخصية الخليجية بشكل سلبي، والإساءة للإسلام والمسلمين. ماذا لو أنتجت السعودية "فيلماً قصيراً" يتضمن "ثلاثة أرباع" الحقيقة المذكورة بلسان الدعيلج، وبكذا لغة، رداً على مغالطات فيلم حياة الماعز؟ نعم... فيلم قصير ينتج باحترافية ويكفي نشره بعدها على منصة اليوتيوب ليحصل على ملايين المشاهدات، ويمحو باطل فيلم حياة الماعز، ويظهر الحقيقة.

ختاماً، يقول المثل المصري: "ما لقوش في الورد عيب، قالوا يا أحمر الخدين"! ولـ"سعودة" المثل لمناسبة المقال: "ما لقوا في نخل السعودية عيب، قالوا: يا كثر عذوقها"!

اللهم كثر عذوق نخل السعودية... قولوا آمين... النهاية The End!