أعتقد، والله أعلم، أنَّ تركيا قد قررت أخيراً القضاء على حزب العمال الكردستاني التركي (ب ك ك). كما أعتقد أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والساسة الأتراك قد توصلوا أخيراً إلى قناعة قاطعة مفادها أن هذا الحزب بكل مشتقاته أصبح "خارج التغطية" إلى حد كبير، ولا بد من التخلص منه بشكل نهائي، وليس فقط الحد من نشاطه أو إضعافه كما جرت العادة.
ليلة خطف عبد الله أوجلان والقبض عليه من قبل الاستخبارات التركية في 15 شباط (فبراير) عام 1999، جنَّ جنون بولند أجويد، رئيس الوزراء التركي حينها. السياسي المحنك كان غاضباً من عملية القبض الناجحة التي أقدم عليها جهاز الأمن التركي "ميت" دون علمه. بولند أجويد، لمن لا يعرفه، ينتمي إلى الحقبة التركية الأكثر عنصرية على الإطلاق، والتي قامت على الإنكار الكلي للوجود الكردي على الأراضي التركية، واعتبار أكراد تركيا أتراك جبال. كما شهدت تلك الحقبة سياسة تمييزية بشعة بحق المناطق الشرقية والجنوب الشرقية التي يسكنها الأكراد، مثل ضعف التنمية وسوء التعليم وانتشار الجهل والتخلف.
هذه الحقبة بدأت بظهور الجمهورية التركية واستمرت حتى قدوم توركوت أوزال، رئيس الوزراء التركي الأسبق، الذي اعترف بوجود مشكلة كردية ولو في الخفاء وعلى استحياء. لكن انتهاء هذه الحقبة كان على يد رجب طيب أردوغان، حيث اعترف الرجل في العلن وبشجاعة فائقة بأن تركيا لكل أهلها، للتركي والكردي والعلوي ولكل الملل والطوائف. كما وضع حداً للسياسات التمييزية بحق الأكراد.
قد يسأل سائل: لماذا غضب بولند أجويد بقيام "الميت" التركي بعملية الخطف وجلب أوجلان إلى تركيا؟ الجواب باختصار: كان الرجل يعتقد أن وجود عبد الله أوجلان خارج البلاد أو داخلها أمر غير مهم على الإطلاق ولا يشكل فارقاً، كون المعارك العسكرية التي أطلقها أوجلان في آب (أغسطس) 1984 بدعم من حافظ الأسد كانت تجري حصراً في المناطق الكردية. كانت معارك شبه داخلية كردية - كردية، أهدافها ووقودها من الأكراد، وساحاتها كانت المدن والقرى الكردية. وخصم كردي مثل عبد الله أوجلان أفضل بكثير من خصم آخر أكثر ذكاءً ومسؤولية وحرصاً على مصالح قومه.
ولكن لو كان أجويد حياً اليوم، لأدرك أنه كان على خطأ، وأن عملية القبض على أوجلان وزجه وراء القضبان كانت نعمة على تركيا وليست نقمة. فمنذ اللحظات الأولى، استسلم أوجلان وانهار كلياً، واليوم الرجل على أهبة الاستعداد لارتداء ما سيتم تفصيله وحياكته في أنقرة بدون تردد. وعما قريب، سيُطلق سراحه ليعلن توبته، ويقر بخطئه، وسيصدر أوامره لأتباعه بترك السلاح، وإعلان توبتهم والعمل على وحدة تركيا وشعبها.
أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء التركي الأسبق، كان في ضيافة مسعود البارزاني في أربيل أواخر شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وصرح قائلاً: "تركيا غير قابلة للقسمة. يجب أن نثق بأنفسنا في تركيا. الاعتراف بالتعدد الإثني والطائفي يقوي تركيا ولا يضعفها. دولة تثق بنفسها لا تخاف من تعدد اللغات والأعراق".
أما مسعود البارزاني فقد خطب في المؤتمر العام لأطباء الأكراد الذي أقيم في أربيل أواخر شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أيضاً، قائلاً: "من حاول من الأكراد أن يفرض أهدافه وأجنداته خلال العقود الطويلة الماضية عن طريق القوة والسلاح، قد فشل. ومن حاول القضاء على الأكراد وفرض أهدافه وأجنداته بالقوة والسلاح، أيضاً قد فشل. يجب علينا التحاور ونهج السلم، وأنا ضد الإرهاب".
إقرأ أيضاً: سورية جميلة وعطرة كالياسمين
وقبلهم بشهر، أطلق رئيس حزب الحركة القومية اليميني المتشدد، دولت بهجلي، قنبلة غير متوقعة من العيار الثقيل داخل البرلمان التركي، وبالتأكيد بعد استشارة حليفه أردوغان، وعلى الأرجح بنصيحة وطلب منه. قال بهجلي: "فليأتِ أوجلان إلى البرلمان التركي، وليقل ما لديه من على هذا المنبر".
أعتقد، والله أعلم، أن قرار التخلص من حزب العمال الكردستاني أمر حكيم ولمصلحة الجميع. الأشهر القليلة المقبلة ستشهد تركيا تحولات هامة وجذرية، وكذلك الجارة السورية ستنحو المنحى نفسه. وأعتقد، والله أعلم، أن تركيا ستعترف دستورياً بتعدد الإثنيات ووجود الأكراد في البلاد. لهم ما للتركي من حقوق، وعليهم ما على التركي من واجبات. وربما الدستور الجديد القادم سيمنح الرئيس القوي أردوغان فترة رئاسية أخرى.
القرار بالقضاء على العمال الكردستاني قد اتُّخذ وبدأ العمل به، والعديد من الأطراف ستشارك في تنفيذه: عبد الله أوجلان، الحكومة التركية، حزب الحركة القومية الحليف، إقليم كردستان العراق بقيادة مسعود البارزاني، حزب الشعوب الديمقراطي التركي، وأطراف أخرى عديدة. الجميع سيعمل على تنفيذ هذا القرار. هل سينجحون في مسعاهم؟ أتمنى ذلك.
التعليقات