خلال الأعوام الستة الماضية، لم أتابع نشرة أخبار واحدة، وقاطعت كل منتج سياسي، الموالي منه والمعادي، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم أتواصل معها ولا من خلالها. الكتابة... لم أعد أكتب، وأصبحت جزءًا من الماضي. كنت طريح الخيبة والكآبة، محبطًا يائسًا وفاقدًا للأمل، ولم أتصور للحظة واحدة خلال كل هذه الأعوام أن يسقط بشار الأسد ويُهزم.

صباح يوم التاسع من كانون الأول (ديسمبر)، قال لي أحدهم: مبروك لقد سقط الأسد! دخلت على الفور صفحة أخبار البلد، وأول خبر قرأته كان عن هروب الولد. قلت لنفسي: وأخيرًا فرّ الطاغية، وبفراره انتهى وانتهت معه حقبة أبيه الباغية، ونصف قرن أو أكثر ساد فيه الظلم والظلام على البلاد وأهل البلاد من العباد.

عدت إلى التلفاز، قناة "العربية" طبعًا، فهي تبث من دمشق المحررة. ولأكن على بيّنة بالشأن الكردي السوري، اخترت قناة روداو الكردية العراقية.

مساء أمس، كنت أتابع بعض اللقاءات التي أجرتها قناة روداو مع العديد من كرد الشام. الكل عبّر عن فرحته بسقوط الأسد وزوال نظامه، وهذا بحد ذاته أمر أكثر من طبيعي. فالسياسة العنصرية لنظام عائلة الأسد، سواء الأب أو الابن، تجاه كرد سورية كانت مؤلمة طويلة وقاسية.

الأمر الآخر الطبيعي في خطاب الشارع الكردي، ودائمًا على التلفاز ومن العاصمة دمشق، واقعيته ومرونته. خطاب الشريك الوطني الكردي المهتم بالوطن السوري في نفس الوقت الذي يؤكد فيه على هويته الكردية. قال أحدهم: نريد مدارس تدرس اللغة الكردية وجامعات كذلك.

وقال آخر: نحن الأكراد نريد أن يكون لنا وزراء في الحكومة الجديدة.

خبر آخر وعلى نفس القناة، لكنه خبر غير طبيعي هذه المرة، وغير عادي على الإطلاق. خروج مسيرة جماهيرية في مدينة كوباني (عين العرب)، الواقعة على مرمى حجر من تركيا، وتخضع لسيطرة قوات "قسد"، تندد هذه المسيرة بالحكومة التركية وترفع أعلامًا وصورًا لا تعد ولا تحصى لزعيم حزب العمال الكردستاني التركي، وتطالب بالإفراج عنه.

حين أقول مشهداً غير طبيعي، لا أقصد ندرة حدوث مثل هذا الحدث، لا أبدًا. فحزب العمال الكردستاني التركي، ومنذ بدايات الثورة السورية، وباتفاق مع الفار بشار الأسد، قام ببسط سيطرته على المناطق الكردية السورية، لا بل أكثر من ذلك توسّع ليسيطر على مدن عربية سورية كالرقة ودير الزور. ولم يترك حزب العمال الكردستاني التركي هذا فرصة إلا وأعلن عن عدائه للحكومة التركية وللرئيس رجب طيب أردوغان.

لكن أن يخرج الناس إلى شوارع مدينة كوباني في مثل هذا اليوم ليعلنوا عن تبعيتهم بهذا الشكل الفاضح لحزب العمال الكردستاني التركي، وفي هذه الظروف الحساسة للغاية، وبعد الانقلاب الذي حدث في موازين القوة وسقوط الأسد وتحرير سورية بدعم معلن لا محدود من تركيا ومن رئيسها، فهو حقًا أمر غير طبيعي.

مشهد آخر غريب وعجيب ودائمًا على شاشة قناة روداو الكردية العراقية. الشيخ د. مرشد الخزنوي، نجل الشهيد معشوق الخزنوي رحمه الله، والذي اغتاله المطلوب للعدالة والفار بشار الأسد، يخرج على الهواء من النرويج، غاضبًا حانقًا على القيادات السياسية المتصدرة للمشهد الكردي، "قسد" و"أنكسة"، ويدعوها للوحدة والتعاضد والتعاون مع هولير وقنديل.

يسأله المذيع: متى تعود حضرة الشيخ؟ يرد الشيخ: لن أعود ما دام الكرد غير موحدين.

لكن بعد مضي 24 ساعة فقط لا غير، يظهر الشيخ مرشد الخزنوي، ليس على الهواء هذه المرة، بل على الأرض في استوديو روداو في هولير، عاصمة كردستان العراق.

المشكلة أنَّ الشيخ وغالبية "البسطاء" من الكرد السوريين، إذا ما اعتبرنا الأمر صادرًا عن طيب نية، لا يدركون في الحقيقة أن وحدة الساحات إنما هي مصيبة ووبال وداء ليس له دواء. الكردي السوري انتماؤه اليوم ومصلحته ومصيره ومستقبله مرتبط ومتعلق بمصلحة ومصير العربي والعلوي والدرزي والمسيحي السوري، أكثر منه إلى الكردي العراقي أو الكردي التركي أو الكردي الإيراني. والعراقي الكردي هو أقرب لبغداد منه إلى القامشلي، وهلمّ جرّا.

لا لوحدة الساحات سيدنا الشيخ، وليتركونا وشأننا نحل قضايانا بأنفسنا. لا للتدخل في الشأن الكردي السوري من أي جهة كردية أخرى غير سورية. ولكم في منطق وحدة الساحات، ومحور المقاومة والهلال الشيعي، الذي سقط لتوه، خير شاهد والعياذ بالله.

مبروك لكل أهل سورية سقوط وزوال الأسد وأعوانه ومن والاه. شكرًا لمن قام بإسقاطه، وشكرًا لكل من عمل وخطط ودعم هذا السقوط. شكرًا لمن حقق لنا حلمنا وأعادنا للكتاب والكتابة. لا تخذلونا رجاءً، ومن الله التوفيق، وتصبحون دومًا على سورية حرة لكل أهلها، سورية جميلة وعطرة كالياسمين.