الأمة العربية من الخليج الى المحيط غالباً تعيش في تناقض بين الرغبة في عيش حياة حديثة والتطلع للمستقبل، وبين النواح والعويل على الماضي، وبين هذا وذاك يرى علماء النفس أنَّ العيش في عباءة الماضي يُعيق التقدم نحو المستقبل، وأما الماضي بإيجابياته وسلبياته فيُكتفى منه بأخذ الدروس والعبر فقط، والوقوف عليها لبناء المستقبل، وكما يٌقال: لن تستطيع السير متلفتاً للوراء.

الإنسان الحقيقي يُقاس بما يحققه في حياته من إنجازات وأفعال، وليس بما ورثه من آبائه وأجداده، والابتعاد عن التباهي بالماضي والتركيز على بناء المستقبل بالجهد الشخصي والعمل الدؤوب، فالأمم التي اكتفت بالتغني بأمجاد الماضي دون السعي لتطوير حاضرها ومستقبلها غالباً ما تواجه التراجع والتخلف وربما الفناء، والاعتماد على الماضي وحده يجعلها تفقد القدرة على المنافسة في عالم متغير ومتطور.

الماضي مهم لتعلم الدروس واكتساب المعرفة والبصيرة والحكمة من الأحداث السابقة، لكنَّ الاعتماد على أمجاده دون العمل على بناء الحاضر والمستقبل يؤدي إلى الركود والتراجع، فالأمم والأفراد الناجحون هم من يستخدمون ماضيهم كوقود للابتكار والإنجاز لا كوسادة للراحة، كما أنَّ التباهي بماضي الأجداد أمر طبيعي ومحبب إذا كان الهدف منه الاعتزاز بالهوية الوطنية وتعزيز الانتماء واستلهام العبر والدروس، كذلك إلهام الجيل الحالي العمل على استكمال مسيرة الأجداد وربط الحاضر بالماضي في إطار من الاحترام والبناء، لكن إذا تجاوز ذلك، فإنه يتحول إلى مرض اجتماعي أو نفسي، إذ يُصبح وسيلة للهروب من الواقع وإنكار الفشل والعجز عن تحقيق إنجازات جديدة، أو لإخفاء الفشل في مواجهة تحديات الحاضر، أو يُصبح مصدراً للتباهي السلبي وللغرور، أو عذراً للتقاعس عن العمل، ويتحول إلى عائق أمام التقدم، ويؤدي إلى الركود الفكري وعدم السعي لتطوير الحاضر، كما يُغذي الشعور بالتفوق الزائف على الشعوب الأخرى دون إنجازات حقيقية، ويؤدي إلى الغرق في الماضي بدلًا من العمل على المستقبل.

التاريخ مليء بحضارات عظيمة كالرومان والفرس التي انهارت عندما توقفت عن الابتكار والعمل، وركنت إلى أمجادها السابقة، كذلك الأندلس وحضارة بابل انتهتا بسبب الترف والاعتماد على أمجاد الماضي دون مواجهة تحديات الحاضر، وشعوب وأمم كثيرة اندثرت بسبب اكتفائها بإنجازات أجدادها كالفراعنة في مصر، بالرغم من عظمة حضارتهم وإنجازاتهم العلمية والهندسية، إلا أنهم اعتمدوا بشكل كبير على مجد الماضي ولم يواكبوا التطورات أو يتصدوا للأخطار، مما أدى إلى ضعفهم أمام الغزو الأجنبي، كذلك الإغريق؛ تفوقوا في الفلسفة والعلوم، ولكن قوتهم بدأت بالتراجع عندما توقفت دولهم عن الابتكار وانشغلوا بنزاعات داخلية، مما سهّل سقوطهم على يد الرومان، والدولة العباسية في أواخر عهدها بعدما وصلت ذروة مجدها العلمي والثقافي دخلت في مرحلة من الترف والاكتفاء بالماضي، مما جعلها عرضة للضعف والغزو المغولي.

السخرية من الشعوب الأخرى بحجة امتلاك حضارة قديمة لا تعكس إلا ضعفاً في الفهم التاريخي والثقافي، والحضارات القديمة ليست ضماناً لتفوق دائم، بل مجرد مرحلة من التاريخ تنتهي بمجرد التوقف عن البناء والابتكار ومواكبة المستقبل بكل حيثياته، والشعوب التي تسخر من غيرها تغضّ الطرف عن الحاضر وتكتفي بالتركيز على الماضي دون إنجازات في الحاضر يجعل هذه السخرية بلا معنى، وكل شعب يساهم بشكل أو بآخر في إثراء التاريخ البشري، ولا توجد حضارة أفضل من أخرى إلا بإنجازاتها وتأثيرها الإيجابي على حاضرها ومستقبلها.

ضياع حضارة الأجداد على أيدي الأحفاد اعتبرها البعض درساً تاريخياً مريراً، وأبرز ما قيل في هذا الأمر: "من لم يزد شيئاً على حضارة أجداده، كان عالة عليها". هذا القول يشير إلى أهمية استمرار البناء على أمجاد الأجداد بدلاً من الاكتفاء بالتغني بها، ويقول آخر: "الأحفاد الذين لا يحافظون على إرث أجدادهم هم أول من يضيّعه"، وهذا تأكيد على مسؤولية الأجيال القادمة في صون الحضارة والعمل على تطويرها، ويتوجب على الأجيال الحالية الحفاظ على إرث الأجداد وتنميته، وفهم الماضي والتعلم منه، وعدم الاكتفاء بالتفاخر به، بل يجب دراسة إنجازاتهم وأخطائهم لاستخلاص الدروس والعبر والعمل على تطوير الحاضر واستثمار القيم والتراث لبناء مجتمع حديث قائم على العلم والعمل، وفي نفس الوقت المحافظة على الهوية الوطنية مع الانفتاح على العالم والحفاظ على العادات والتقاليد واللغة والقيم التي تمثل جوهر الإرث وتعزيز الإبداع والابتكار والارتقاء بدلاً من التوقف عند الماضي.