أين تحضيرات أنقرة على مستوى الرأي العام التركي والإقليمي والدولي إذا كانت مبادرتها للسلام جدية؟

لم تكن مبادرة السلام والمصالحة التي طرحها زعيم حزب الحركة القومية التركية (MHP) دولت باغجلي المعروف بتشدده القومي وعدائه المعلن للشعب الكردي على قائد حزب العمال الكردستاني السابق عبد الله أوجلان فردية، بل جاءت بتنسيق مع حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان، الذي صرّح قائلاً إنه "يأمل أن تكون هذه المصالحة أبرز إنجازات مسيرته السياسية"، وقد تم التحضير لها منذ فترة.

أعتقد جازماً أن على السلطة السياسية التركية أن تستفيد من تجاربها الفاشلة السابقة، وهي بحاجة فعلية إلى مراجعة مواقفها السابقة، وإعادة صياغة مبادرتها من أجل المصالحة الحقيقية لضمان تحقيق هدفها الاستراتيجي الذي تسعى إليه (حسب ادعائها)، وألا تنسى أو تتناسى أنَّ من أولويات اهتمام الشعب الكردي في تركيا هي قضايا ما فوق تفاوضية.

وعليه، عندما تفكر السلطة بمستقبل الشعوب في تركيا وإنهاء وحل المشكلة الكردية من جذورها كما تدعي، عليها أن تعي أن الاعتراف بالهوية الكردية كهوية مستقلة ضمن تركيا، وإطلاق الحريات السياسية، وإرساء السلام الحقيقي، وأخوة الشعوب، والعدالة الحقيقية هي أول خطوة حقيقية في الاتجاه نحو هذا المستقبل.

أول خطوة قبل التفاوض مع حزب العمال الكردستاني وقادته في جبال قنديل، وليس مع المعتقل عبد الله أوجلان الذي يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة بتهمة الخيانة العظمى والسعي لتقسيم تركيا، يجب أن تكون الاعتراف بشكل علني بالحقوق القومية للأكراد، وتقديم حلول ملموسة لحل القضية الكردية داخل تركيا.

كما أن على تركيا أن تبدي اعتدالاً سياسياً تجاه السلام والمصالحة، وإطلاق سراح المعتقلات والمعتقلين السياسيين فوراً وفي مقدمتهم أوجلان، والكشف عن مصير المفقودين والمغيبين قسراً، والوقف الفوري للتعذيب، وإلغاء المحاكم الاستثنائية. ذلك لأن الشعب الكردي له الحق بالمشاركة في بناء مستقبل تركيا، هذا إن كانت تركيا جادة في ادعائها.

فليس من المنطق البدء بعملية السلام والادعاء بحل القضية الكردية حلاً جذرياً في الوقت الذي يُحتجز ويُغيب ويُعذب الآلاف من أبناء الشعب الكردي في سجون تركيا، إضافة إلى تصاعد الخطاب العدائي والعنصري تجاه الأكراد بشكل عام وحزب العمال الكردستاني بشكل خاص.

إقرأ أيضاً: فرصة تاريخية لبناء سوريا الجديدة

نعم… بدون إطلاق سراح أوجلان الذي تمارس بحقه سياسة الموت البطيء داخل زنزانته الانفرادية في سجن إمرلي في بحر مرمرة جنوب إسطنبول منذ شباط (فبراير) 1999، وخاصة بعد أن مُنع من السير ضمن باحة السجن، وبدون إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين كخطوة أولى في طريق السلام الحقيقي، وبدون تحضيرات أنقرة على مستوى الرأي العام التركي والإقليمي والدولي لإنجاح مبادرة السلام الحقيقية، لا يمكن الحديث عن البدء ببناء مستقبل جديد لتركيا، وبدء مرحلة جديدة على أساس الشراكة الحقيقية.

بكل تأكيد، فإنَّ الأحداث الحاصلة والسريعة التي تعصف بالمنطقة تحمل في طياتها تفاصيل هامة تتعلق بالصراع الذي يستنزف قدرات الدول الإقليمية ومنها تركيا سياسياً وعسكرياً وأمنياً، وبمن يتحمل المسؤولية الحقيقية تجاه قضايا الشعوب وحقوقها المشروعة. فإلقاء المسؤولية على طرف واحد فقط سيؤدي إلى صب الزيت على النار بدلاً من محاولة الوصول إلى حلول معقولة وجذرية.

إقرأ أيضاً: مرة أخرى عن فرصة تاريخية لبناء سوريا الجديدة

وللعمال الكردستاني قيادة ميدانية في جبال قنديل: على أوجلان الذي يقبع في زنزانة انفرادية مساحتها 12 متراً مربعاً منذ عام 1999، أن يتعاطى ببراغماتية عالية مع التطورات الجديدة، وأن يعلن بشكل صريح للرأي العام المحلي والعربي والدولي أنه يعيش منذ 25 عاماً في عزلة تامة، بعيداً عن الأحداث والمتغيرات السياسية والتطورات المحلية والإقليمية والدولية، والتغييرات السياسية والعسكرية والتنظيمية التي حدثت داخل صفوف حزب العمال الكردستاني.

وعليه، ليس له حق تمثيل حزب العمال الكردستاني في عملية السلام مع أنقرة التي تسخر جميع أدوات دعايتها ضد الحزب المذكور. فالحزب لديه قيادة جديدة وميدانية فعلية لها التأثير الكبير في القرار الكردي، تتمركز بمعظمها في جبال قنديل وبعض العواصم الأوروبية. وعلى أنقرة أن تسعى من خلالهم إلى إنهاء الصراع المسلح الدائر بينهم وبين الدولة التركية منذ عدة عقود.

إقرأ أيضاً: أينما حل حزب البعث حل الدمار والخراب

فهناك جهات وشخصيات كردية ذات تأثير فعلي في القرار الكردي مستعدة أن تتولى مهمة التقريب بين وجهات نظر الجانبين حتى الوصول إلى سلام شامل وكامل، يربح فيه الجميع بدون استثناء.

وأخيراً، الأسئلة التي تطرح نفسها: للحزب العمال الكردستاني قادة راديكاليون ميدانيون معروفون ومتواجدون في قنديل. لماذا تتفاوض تركيا مع زعيم الحزب السابق والمعتقل منذ شباط (فبراير) 1999، والذي لا يمتلك مفتاح الحل؟ هل دعوات الحركة القومية التركية للحوار تتسم بالجدية والنية الحسنة، أم أنها مناورة سياسية أكثر من كونها رغبة جادة وحقيقية في حل القضية الكردية حلاً سلمياً؟