إلى: رفل ومصطفى
كيف يمكن أن أنقل صورة عن حالة اللاجئين العراقيين، تتحول فيها الكلمات إلى ما يشبه شاشة السينما ذات القدرة على تجسيم المأساة. لأنني عندما كنت ضمن مشهد المأساة في بغداد، ثم اخترت اللجوء وهربت من جحيم القتل والاغتيالات العشوائية التي تجري على الهوية، وقرأتُ ما كُتِبَ عن ذلك، آمنتُ بفرضية عجز اللغة عن الإحاطة بالصورة كاملة. أعني صورة التفاصيل الصغيرة التي تجعلنا نعيد بمرارة وغثيان تساؤل الفلاسفة الوجوديين: ما قيمة الحياة؟ الإنسان؟ الدين؟ الأخلاق؟ المُسلّمات؟ العقل؟ الثقافة؟.
قبيل ساعات من رحيلي عن بغداد المدينة التي أعشقها، وكان ذلك في صبيحة إعدام صدام حسين، أرسلت إلى كل أصدقائي مسجاً بالموبايل قلت فيه: ها أنذا أرحل عن بغداد كارهاً ومكرهاً، وكانت تلك من أقسى الكلمات التي كتبتها ولن أنساها أبداً. وحين قررت نهائياً النجاة بنفسي وبعائلتي من نزاع أزليّ لا حلّ له أبداً، شعرتُ بأن كل جمال كاذب سوى جمال الوطن، وكل حنين كاذب سوى الحنين إلى الوطن.
أقسى نظرتين، قبل أن أرحل عن البيت، كانتا: الأولى لكتبي ومكتبتي التي اخترتها مكاناً أضع فيه فراشي وأخلد إلى النوم بين كتبي وأوراقي أتنسم رائحة الكتب العتيقة، وأحفظ أماكنها عن ظهر قلب، كانت هذه هي المرة الخامسة التي أرحل عنها بين ثلاثة بلدان فتضيع وأؤسس غيرها. النظرة الثانية، عندما فتحت باب غرفة طفليَّ فوجدتهما يغفوان بثياب النوم الجديدة الخاصة بالعيد فمددت يداً مرتعشة وكنت لا أراهما بعين يسيل الدمع منها، أيقظتهما قبلتهما أرجعتهما إلى وسادتيهما وخرجت إلى حقائبي إلى الحديقة الخلفية إلى الباب الكبيرة إلى الشارع المغلق بجذوع النخل إلى سيارة صديقي.
جازف صديقي الشيعي بشجاعة لينقلني إلى المطار بسيارته السوبر صالون من بيتي الواقع في منطقة سنية مدججة بالسلاح تحسباً لوقوع اشتباكات في هذا اليوم الذي شهد إعدام صدام. كانت المساجد تتقاطع أصواتها وتختلط بخطب عيد الأضحى، ويمكنك أن تميّز الغضب في كلمات تلك الخطب، إذ اعتبر السنة أن إعدام صدام إنما هو إعدام أبدي للسلطة التي كانوا يتمتعون بها ويحكمون العراق من الشمال إلى الجنوب. مساجد تخطب، وأخرى يردد فيها المصلون الذين حضروا لأداء مراسيم العيد: لبيك اللهم لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك. وعلى طول الشوارع المغلقة بجذوع النخل، كان هنالك مسلحون مدنيون يحملون البنادق، ويتوزعون على رؤوس الشوارع. كانت المنازل البغدادية، مغبّرة الأشجار والجدران، منازل حزينة صامتة، والشوارع بلا أطفال يتراكضون ويمرحون بملابس العيد وهداياه وألعابه وضحكاته، منازل بلا أضوية، فيما النفايات تتكدس في الشوارع في واحد من أرقى أحياء العاصمة. كنت أنظر من خلال الدمع الذي تجمع في عينيّ، إلى الطرقات في هذا الحيّ الذي شهد قصة حبي الأولى. إنني أحفظ الطرقات عن ظهر قلب، طرقات أشعر أنها مقدسة بحكايات حبي الوحيد، لكنها الآن يعتدى عليها، بل تغتصب من دون أن تكون عندها القدرة على الدفاع عن نفسها.
انعطفت بنا السيارة من حيّ الحمراء الذي أسكن فيه إلى الطريق العامة التي تؤدي إلى طريق المطار، وهنا توقفت السيارة حتى تنزل زوجتي السنية وأخوها إذ رافقاني للخروج بسلامة من منطقة مدججة بالسلاح، وفي هذه الأثناء خرج من انعطافة فرعية مجموعة من الشبان الطوال القامة، يرتدون الدشاديش البيضاء واليشماغ الأحمر، عائدين من مسجد قريب، فتوقف قلبي عن النبض للحظات إذ تصورت أنهم جاءوا لاغتيالي، أو لاغتيالنا جميعاً. واتضح أنهم ليس سوى شبان عائدين إلى منازلهم من صلاة العيد، لكن الخوف أصبح موجوداً بين ضلوع كلّ عراقي يحسب أنه سيموت ميتة مجانية بلا ذنب سوى أنه من طائفة أخرى، وهذا من أهم أسباب النزوح من العراق طلباً للجوء.
اجتازت الهارتوب البيضاء الطريق المرعب الذي يؤدي إلى المطار والواقع تحت هجمات المسلحين بصورة مستمرة، والذي تنتشر على جانبيه السيارات والمركبات المحترقة، ومن حين لآخر ثمة سيارات تجتازنا تحمل أمتعة وأناساً هاربين باتجاه سورية طلباً للجوء. كان صديقي الذي يعمل مصمم إعلانات ضوئية، يتكلم معي بحماسة عن المعارك الطائفية التي حدثت في منطقتهم، فيما يداه واحدة تمسك مقود السيارة والأخرى تغيّر باستمرار محطات الإذاعة ليتابع التغطية الإعلامية لإعدام صدام. وبين الحين والآخر يعرض عليّ مبلغاً من المال لمساعدتي، وينتقل من حديث إلى آخر من دون أن يدع لي فرصة الحوار معه، مما جعلني أكتفي بعبارات الشكر المقتضبة. كنت شارد الذهن أفكر بمذلة اللجوء إلى دولة عربية لا تحترم الإنسان ولا حقوقه، وأثناء ذلك رنّ الموبايل بمكالمة من زوجتي التي كانت تمرّ عليها أقسى وأطول 15 دقيقة في حياتها، هي مدة المسافة من البيت إلى المطار، طمأنتها وأخبرتها باقترابنا من البوابة الرئيسية. وعندما وصلنا بوابة مطار بغداد، أوقفنا ثلاثة جنود مكلفين بحراسة المطار، هبط رأس أحدهم إلى مستوى نوافذ السيارة الأوبل الألمانية الصنع، وبدلاً من الحديث معنا في أمور تتعلق بالواجب المكلف به، سألنا سؤالاً ذا أبعادٍ طائفية: اليوم ليس عيداً؟ أليس كذلك؟. ويعني أن العيد الكبير (عيد الأضحى) الذي يختلف عادةً في تحديده السنة والشيعة، إنما هو غداً وليس اليوم، ليعبر عن مركزية كانت مفقودة في تحديد العيد، وها هو وطائفته يمتلكون الحق الرسمي في التحديد. وهو بذلك يمارس معنا عنفاً طائفياً، إذْ كان يتكلم من موقع قوة السلاح المدجج به، ويريد يفرض على الجميع مقولة أن العيد غداً. كان هذا الجندي من طائفتي، والراكبان الآخران اللذان معي في نفس السيارة من طائفة أخرى، لكن هذا السؤال الذي يعبّر عن أزمة في الهوية، جعلني أتنهد بحسرة، ولا أندم قط على قرار مغادرتي الأبدية لهذا البلد المحتلّ من قبل أبنائه قبل أن يكون محتلاً من قبل قوى خارجية. هذا هو السبب الحقيقي للاقتتال بالعراق، الذي جعل العراقيين بين لاجئ مجهول المصير، ومقتول بلا ذنب، ومقيم خائف، وفقير ومقموع.
كان موعد طائرتي الساعة العاشرة صباحاً، لكن الاقلاع تأخر إلى ما بعد الرابعة مساء، وخلال أكثر من ستّ ساعات من الانتظار في الصالة الكبيرة، كان بوسعي أن أشاهد الأعداد الكبيرة للعوائل الهاربة من الموت، أطفال يمرحون دون أن يعلموا ماذا يخبئ لهم الغد، ونساء حزينة العيون، ورجال شاردو الذهن. وبين لحظة وأخرى تهبط طائرة، فنتراكض باتجاه البوابة التي تؤدي إلى الطائرة ونقف على شكل طوابير وسط زعيق الأطفال الذين ملّوا من الانتظار، لكن بعد لحظات يخبرنا موظفو المطار بأنها ليست طائرتنا، فنعود خائبين إلى مقاعدنا، وينشغل كل اثنين أو أكثر بحديث عن العنف الطائفي، أو عن معيشة اللجوء القاسية في أي بلد من البلدان العربية.
هذه المقاعد، كانت عبارة عن حكايات مروعة لأناس أجبروا على مغادرة سكناهم، وأعمالهم ووظائفهم، ومقاعد دراستهم، بعضهم قد قُتِل عدد من أفراد عائلته، وبعضهم ترك جزءاً من عائلته، فيما البعض الآخر ترك حبيبه أو حبيبته. قلوب تنزف فوق المقاعد، وعيون تتكلم بصمت حزين. ومن حين لآخر يخبرنا موظف من المطار، بأن طائرتنا ذهبت الآن إلى مدينة أربيل الشمالية ( كان على متنها هوشيار زيباري وزير خارجية العراق الذي اخترق الصالة مع مرافقيه متجهاً إلى المدينة الآمنة في الشمال) وعندما تعود تطير بنا إلى دمشق، ثم تأتي الطائرة فيخبرنا بأنها ستطير إلى البصرة في أقصى الجنوب ( وكان على متنها هذه المرة ملتحون تابعون إلى إحدى التيارات الدينية اخترقوا الطابور باتجاه الطائرة وسط تذمر المنتظرين) وعندما تعود سوف تطير بنا، وتتأخر الطائرة فيخبرنا بأن هناك عطلاً فيها يجري إصلاحه الآن في البصرة، وهكذا دواليك حتى أصابنا اليأس واعتقد الجميع بأننا سوف نقضي ليلتنا على مقاعد صالة المطار مثلما فعل ركاب الليلة الماضية، إذ لم تأت طائرتهم وناموا على المقاعد وبوسعك أن ترى الإعياء يلعب فوق نظراتهم المنكسرة.
أكثر من 100 كلغم كان وزن حقائبي، هي وزن جزء من أرشيفي الشخصي المتكون من: مقالاتي المنشورة في الصحف والمجلات ومؤلفاتي وأوراقي التي اعتدت أن أدون فيها ملاحظاتي عن كل شيء، بالإضافة إلى كراسات يومياتي، وبعض الصور الشخصية التي أعتز بها، ووثائقي وأوراقي الشخصية، ومشاريع لكتب جديدة مخطوطة على كميات كبيرة من الورق قبل أن أطبعها في حاسوبي الشخصي، وأشياء أخرى كثيرة.
عندما أصبحنا في الجو، كنتُ أنظر إلى بغداد والعراق نظرتي الأخيرة، وبحجم الظلام الدامس كانت هناك سماء سوداء تُخلَق في روحي، وفي عينيّ تتراكض غيوم الدمع. أتذكر أنني أوشكت أن أصرخ بجنون وأكفر بهذا الدين المختبئ تحت يشماغ الملثمين أو عمامة الملتحين، لولا يد الرجل الجالس بقربي التي ربّتت على كتفي برقة بادئاً حديثاً عن نفسه باعتباره الناطق الإعلامي باسم تجمع عشائر العراق، وإنه بطريقه إلى اجتماع واسع مع الرئيس السوري بشار الأسد خلال هذا الأسبوع.
دين الملثمين والمعممين اغتال العراق والعراقيين.
هل أقول إن الإسلام الذي جاء على ظهر الخرافة وعبادة السلطة كما جاء الدكتاتور على ظهر الدبابة هو سبب مأساتنا التي لا حلّ لها؟.
بعد الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم ( 29/12/2006) هبطت الطائرة في مطار دمشق، وبعد ختم جواز السفر استأجرت تاكسي إلى منطقة السيدة زينب، بادرني سائق التاكسي بسؤال هو أشبه بنثر الملح على الجرح:
كيف هو حال بغداد بعد إعدام صدام؟.
ما رأيك يا أستاذ بإعدام صدام؟. وبدأ يلعن الأمريكان والحكومة العراقية.
في البداية تملصت من السؤال خشية أن يقودني اليوم الأول للجوئي إلى دائرة الأمن بدلاً من الفندق، لكن إلحاحه دفعني إلى القول بجرأة تعقيباً على الإعدام: قمامة ذهبت إلى قمامة. كان جوابي صادماً للسائق فسكت سكتة مطبقة فيما انفتح جرحي أو بالأحرى جرح جميع العراقيين وأخذ ينزف. الجرح ينزفُ، وسيارة الأجرة تشق الطريق المظلمة، والسائق لعبت في عاطفته موسيقى الجرح فانقلب يلعن الرئيس المعدوم وجلاوزته.
أوصلني السائق إلى أحد الفنادق، فاستأجرت غرفة من سرير واحد وحمام، ونمت عميقاً بعد رحلة مجهدة. في الصباح، خرجت إلى الأسواق المحيطة بالفندق، وكنت طيلة تجوالي أستمع إلى حوارات بين لاجئين عراقيين يتساءلون عن شقق رخيصة للإيجار أو عمل مهما كان نوعه، أو عن وسيلة لجوء إلى دولة أجنبية. وهناك قصص عن النصب والاحتيال تعرض لها اللاجئون الراغبون في الهجرة إلى البلدان الأوروبية، فقد علمت أن: سيدة في الأربعين، وهي فنانة تشكيلية وزوجها فنان تشكيلي ايضاً، فرّوا مع ولدهم الوحيد من حيّ العامرية وباعوا بيتهم وأغراضهم وأعطوا المهرّب 22 ألف دلار لكنها ضاعت عليهم في عملية نصب.
بعد أن تعبت من التجوال، دخلت إلى صالة انترنت لكي أتصفح اميلي، كانت الصالة مملوءة بلاجئين يتحدثون بالماسنجر مع ذويهم أو أصدقائهم، فكنت أستمع إلى حكايات مريرة. كان بقربي رجل في الخمسين من عمره، لا يعرف استعمال الحاسوب، فأخذ يُملي على شاب يكتب بالنيابة عنه رسالة إلى مقتدى الصدر يتوسله أن يساعده في العثور على ابنه الذي خطفته جماعة مسلحة. كانت عباراته دامية، ومؤلمة، وهو يتحدث عن تهجيره من بيته الذي قضى فيه أجمل أيام عمره.
عندما فتحتُ اميلي، تلقيت رسالة من صديق شاعر وصحفي يخبرني عن تلقي القاص والاكاديمي العراقي لؤي حمزة عباس تهديداً من جماعة تطلق على نفسها: سرايا نصرة المذهب، وكان التهديد على شكل مظروف فيه طلقة وعبارة تهديد بترك العمل والمدينة فوراً. كان لؤي يختبئ في بيوت الأصدقاء، ويبحث عن وسيلة هرب إلى الكويت. كتبتُ رسالة إلى صديقي لؤي أعلن فيها تضامني معه، وتنديدي بما فعله المجرمون.
أغلقت اميلي، وخرجت للقاء أحد الأصدقاء يعمل في مجلة تابعة لإحدى الحوزات الدينية بدمشق، وعندما التقيت به في إحدى المقاهي التي يديرها لاجئ عراقي وروادها لاجئون عراقيون، وجدته ناقماً على رجال الدين، وسرد لي حكايات عن ورعهم الزائف، وعن تخلف نظرتهم إلى كل أمور الدنيا. كان يعيش مع زوجته وثلاثة أطفال في وضع مادي سيء جداً. ثم ذهبنا إلى الحوزة، تعرفت على بعض الأشخاص العراقيين الذين يعملون فيها، وبعض طلابها الأفغان. وقد حصلت بمساعدة صديقي الصحفي على كثير من الأوراق والبيانات المهمة الخاصة بخطاب الحوزة الدينية، والتي أحتاجها في تأليف كتاب عن الخطاب الإسلامي في العراق ولاسيما الفكر السياسي ومحاولات أدلجة الدين. لقد وجدت أن المطبوعات الإسلامية الشيعية، ولاسيما الصحف والمجلات، قد تزايدت بعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وثمة دعم متزايد من قبلها لتصدير الفكر الشيعي بوجهيه العقائدي والسياسي.
كنتُ أقضي حاجياتي في الأكل والشرب وبقية الأمور الأخرى عبر الاتصال بلاجئين عراقيين، وكثيراً ما كنت أذهب إلى تلك المقهى لأحتسي الشاي العراقي وأستمع إلى قصص مؤثرة حقاً، عن البرد القارص واحتياجهم المستمر إلى الوقود المرتفع الثمن، وتفشي الأمراض وارتفاع أثمان العلاج والدواء، وندرة الحصول على العمل، وتحليلات للوضع الجاري بالعراق، وحكايات عن أصدقاء وجيران قتلوا أو هجروا من قبل متطرفين. استمعت إلى حكاية: فتاة في الثلاثينيات خريجة كلية، تعمل خادمة بالأجرة اليومية، وتسكن هي وزوجها وأهله في غرفة واحدة يقطعونها بالستائر كحواجز تستر فراش الزوجية الليلي، وكان زوجها لا يعرف أنها تعمل خادمة إنما تخرج على أساس أنها تعمل بصالون حلاقة. وحكاية طيار من أقارب زوجتي: أخذ ابنه الوحيد وفر إلى دمشق، وبقيت زوجته وبناته الأربع ببغداد، وهو يعمل في محل لبيع الخضار، لأن هنالك حملة تصفية لضباط الجيش العراقي السابق ولاسيما الطيارين، وتوجه أصابع الاتهام إلى المخابرات الإيرانية بتصفيتهم. وحكاية طبيبة: عندها خمسة أطفال، زوجها يعمل مع الشركات الجديدة في العراق وتعرض لمحاولة اغتيال، فهرب بهم الى سورية ثم عاد ثانية للعمل في العراق مخاطراً بحياته لتغطية نفقات عائلته بدمشق، تقول زوجته كلما يرن الهاتف أصرخ: قتلووووووه.
كان الوضع سيئاً للغاية، قلوب ترتجف بين صقيع الإشاعات المنتشرة في سورية حول وضع اللاجئين. وفي الوقت الذي كان هنالك قرار لترحيل اللاجئين العراقيين كانت المساجد ببغداد تدعو الشباب إلى الاستعداد لمعركة مصيرية حاسمة. كنتُ أنظر إلى الحزن في وجوه وخطوات وحركات وحوارات العراقيين، فيما اندفعت موجات جديدة نحو المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في محاولة يائسة لتوفير الحماية.
كان هنالك طفل بعمر 11 سنة يضع على أحد الأرصفة ميزاناً لقياس الوزن، وكلما أمرّ من أمامه يدعوني إلى قياس وزني، فأصعد فوق الميزان وأعطيه فوق ما يطلب، وصار يعرفني وينتظر مني أن ألبي دعوته في قياس وزني فأفعل، وأشعر بأسى عميق على حال الطفولة بالعراق. وفي شوارع دمشق والسيدة زينب، كان هناك أطفال عراقيون يتسولون، وشبان يبيعون السيجائر أو البضائع الأخرى وهم يمشون خوفاً من ملاحقة البلدية والشرطة. وهو جزء من تقسيم العمل بين أفراد العائلة لتأمين لقمة العيش أو إيجار السكن أو تأمين الحاجيات الضرورية. ولم يحظ عدد كبير من الأطفال بالحصول على فرصة الدراسة بسبب زحمة المدارس الحكومية، وارتفاع تكاليف الدراسة في المدارس الأهلية، أو بسبب خضوع الطلاب إلى امتحان يؤدي إلى إرجاعهم سنة دراسية أو أكثر نتيجة لتفاوت المناهج الدراسية بين سورية والعراق. وعندما يكمل الطالب العراقي الدراسة الثانوية في سورية لا يستطيع الدخول الى الكليات إلا بإجور تتراوح بين 6000 إلى 10000 دولار سنوياً.
gt; كان الناس هنا، تتبدل ألوان وجوههم بين لحظة وأخرى، تبعاً لنوع الإشاعة التي تتردد بين اللاجئين. ولعل أكثرها قسوة تلك التي تدور حول الترحيل إلى العراق. ويعاني المجتمع العراقي المصغّر هنا، المتكون من لاجئين يتأرجحون بين مكانين: العراق الضائع ومكان اللجوء اللامستقر، من عدة مشاكل تُضيّق الخناق عليهم ولاسيما تلك التي تتعلق بارتفاع الإيجارات وارتفاع أسعار الوقود، وعدم وجود عمل مجاز بشكل رسمي، ونفاد مدخرات اللاجئين بسبب طول الاضطراب الأمني بالعراق منذ 2003. ويعاني العراقيون هنا من تفتت أسري واضح، فالعائلة العراقية أصبحت مشطورة شطرين: واحد في العراق والآخر خارج العراق، واضطر كثير منهم إلى الزواج من غير العراقي رغبة في الحصول على الإقامة. وتحت دافع التمسك بالحياة، دفعت بعض العوائل بناتها إلى الرقص في الملاهي الليلية.
كانت الأخبار الواردة من العراق، تتحدث عن كميات كبيرة من النفط المهرّب عن طريق البصرة، واختلاس مليارات الدولارات في الفساد الاقتصادي، فيما تتضور العوائل العراقية جوعاً هنا ولا أحد يلتفت إليها. وطن كامل يتشرد بين خرائط العالم، ووطن آخر يتشرد في خريطة الإرهاب والقتل اليومي.
كانت هذه الصورة المزرية، تجعلني حينما أعود إلى غرفتي أقف أمام المرآة المعلقة على جدار قبالة سريري وأطيل النظر في وجهي، أشاهد الخراب والضياع الذي يصرخ فيه، ومن حينٍ لآخر ألعب معه، فأغيره مرة إلى وجه حيوان، ومرة إلى مجنون، ومرة إلى وجه مسكين حزين، أو وجه لا معنى له، مرة أبتسم، ومرة أزمّ على شفتيّ، مرة أبرطم، ومرة أضحك ضحكة طويلة، وأختتم ذلك بأن أغرق في النظر إلى السماء الملبدة بالغيوم من نافذة صغيرةٍ تجاور سريري.
قبيل ساعات من رحيلي عن بغداد المدينة التي أعشقها، وكان ذلك في صبيحة إعدام صدام حسين، أرسلت إلى كل أصدقائي مسجاً بالموبايل قلت فيه: ها أنذا أرحل عن بغداد كارهاً ومكرهاً، وكانت تلك من أقسى الكلمات التي كتبتها ولن أنساها أبداً. وحين قررت نهائياً النجاة بنفسي وبعائلتي من نزاع أزليّ لا حلّ له أبداً، شعرتُ بأن كل جمال كاذب سوى جمال الوطن، وكل حنين كاذب سوى الحنين إلى الوطن.
أقسى نظرتين، قبل أن أرحل عن البيت، كانتا: الأولى لكتبي ومكتبتي التي اخترتها مكاناً أضع فيه فراشي وأخلد إلى النوم بين كتبي وأوراقي أتنسم رائحة الكتب العتيقة، وأحفظ أماكنها عن ظهر قلب، كانت هذه هي المرة الخامسة التي أرحل عنها بين ثلاثة بلدان فتضيع وأؤسس غيرها. النظرة الثانية، عندما فتحت باب غرفة طفليَّ فوجدتهما يغفوان بثياب النوم الجديدة الخاصة بالعيد فمددت يداً مرتعشة وكنت لا أراهما بعين يسيل الدمع منها، أيقظتهما قبلتهما أرجعتهما إلى وسادتيهما وخرجت إلى حقائبي إلى الحديقة الخلفية إلى الباب الكبيرة إلى الشارع المغلق بجذوع النخل إلى سيارة صديقي.
جازف صديقي الشيعي بشجاعة لينقلني إلى المطار بسيارته السوبر صالون من بيتي الواقع في منطقة سنية مدججة بالسلاح تحسباً لوقوع اشتباكات في هذا اليوم الذي شهد إعدام صدام. كانت المساجد تتقاطع أصواتها وتختلط بخطب عيد الأضحى، ويمكنك أن تميّز الغضب في كلمات تلك الخطب، إذ اعتبر السنة أن إعدام صدام إنما هو إعدام أبدي للسلطة التي كانوا يتمتعون بها ويحكمون العراق من الشمال إلى الجنوب. مساجد تخطب، وأخرى يردد فيها المصلون الذين حضروا لأداء مراسيم العيد: لبيك اللهم لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك. وعلى طول الشوارع المغلقة بجذوع النخل، كان هنالك مسلحون مدنيون يحملون البنادق، ويتوزعون على رؤوس الشوارع. كانت المنازل البغدادية، مغبّرة الأشجار والجدران، منازل حزينة صامتة، والشوارع بلا أطفال يتراكضون ويمرحون بملابس العيد وهداياه وألعابه وضحكاته، منازل بلا أضوية، فيما النفايات تتكدس في الشوارع في واحد من أرقى أحياء العاصمة. كنت أنظر من خلال الدمع الذي تجمع في عينيّ، إلى الطرقات في هذا الحيّ الذي شهد قصة حبي الأولى. إنني أحفظ الطرقات عن ظهر قلب، طرقات أشعر أنها مقدسة بحكايات حبي الوحيد، لكنها الآن يعتدى عليها، بل تغتصب من دون أن تكون عندها القدرة على الدفاع عن نفسها.
انعطفت بنا السيارة من حيّ الحمراء الذي أسكن فيه إلى الطريق العامة التي تؤدي إلى طريق المطار، وهنا توقفت السيارة حتى تنزل زوجتي السنية وأخوها إذ رافقاني للخروج بسلامة من منطقة مدججة بالسلاح، وفي هذه الأثناء خرج من انعطافة فرعية مجموعة من الشبان الطوال القامة، يرتدون الدشاديش البيضاء واليشماغ الأحمر، عائدين من مسجد قريب، فتوقف قلبي عن النبض للحظات إذ تصورت أنهم جاءوا لاغتيالي، أو لاغتيالنا جميعاً. واتضح أنهم ليس سوى شبان عائدين إلى منازلهم من صلاة العيد، لكن الخوف أصبح موجوداً بين ضلوع كلّ عراقي يحسب أنه سيموت ميتة مجانية بلا ذنب سوى أنه من طائفة أخرى، وهذا من أهم أسباب النزوح من العراق طلباً للجوء.
اجتازت الهارتوب البيضاء الطريق المرعب الذي يؤدي إلى المطار والواقع تحت هجمات المسلحين بصورة مستمرة، والذي تنتشر على جانبيه السيارات والمركبات المحترقة، ومن حين لآخر ثمة سيارات تجتازنا تحمل أمتعة وأناساً هاربين باتجاه سورية طلباً للجوء. كان صديقي الذي يعمل مصمم إعلانات ضوئية، يتكلم معي بحماسة عن المعارك الطائفية التي حدثت في منطقتهم، فيما يداه واحدة تمسك مقود السيارة والأخرى تغيّر باستمرار محطات الإذاعة ليتابع التغطية الإعلامية لإعدام صدام. وبين الحين والآخر يعرض عليّ مبلغاً من المال لمساعدتي، وينتقل من حديث إلى آخر من دون أن يدع لي فرصة الحوار معه، مما جعلني أكتفي بعبارات الشكر المقتضبة. كنت شارد الذهن أفكر بمذلة اللجوء إلى دولة عربية لا تحترم الإنسان ولا حقوقه، وأثناء ذلك رنّ الموبايل بمكالمة من زوجتي التي كانت تمرّ عليها أقسى وأطول 15 دقيقة في حياتها، هي مدة المسافة من البيت إلى المطار، طمأنتها وأخبرتها باقترابنا من البوابة الرئيسية. وعندما وصلنا بوابة مطار بغداد، أوقفنا ثلاثة جنود مكلفين بحراسة المطار، هبط رأس أحدهم إلى مستوى نوافذ السيارة الأوبل الألمانية الصنع، وبدلاً من الحديث معنا في أمور تتعلق بالواجب المكلف به، سألنا سؤالاً ذا أبعادٍ طائفية: اليوم ليس عيداً؟ أليس كذلك؟. ويعني أن العيد الكبير (عيد الأضحى) الذي يختلف عادةً في تحديده السنة والشيعة، إنما هو غداً وليس اليوم، ليعبر عن مركزية كانت مفقودة في تحديد العيد، وها هو وطائفته يمتلكون الحق الرسمي في التحديد. وهو بذلك يمارس معنا عنفاً طائفياً، إذْ كان يتكلم من موقع قوة السلاح المدجج به، ويريد يفرض على الجميع مقولة أن العيد غداً. كان هذا الجندي من طائفتي، والراكبان الآخران اللذان معي في نفس السيارة من طائفة أخرى، لكن هذا السؤال الذي يعبّر عن أزمة في الهوية، جعلني أتنهد بحسرة، ولا أندم قط على قرار مغادرتي الأبدية لهذا البلد المحتلّ من قبل أبنائه قبل أن يكون محتلاً من قبل قوى خارجية. هذا هو السبب الحقيقي للاقتتال بالعراق، الذي جعل العراقيين بين لاجئ مجهول المصير، ومقتول بلا ذنب، ومقيم خائف، وفقير ومقموع.
كان موعد طائرتي الساعة العاشرة صباحاً، لكن الاقلاع تأخر إلى ما بعد الرابعة مساء، وخلال أكثر من ستّ ساعات من الانتظار في الصالة الكبيرة، كان بوسعي أن أشاهد الأعداد الكبيرة للعوائل الهاربة من الموت، أطفال يمرحون دون أن يعلموا ماذا يخبئ لهم الغد، ونساء حزينة العيون، ورجال شاردو الذهن. وبين لحظة وأخرى تهبط طائرة، فنتراكض باتجاه البوابة التي تؤدي إلى الطائرة ونقف على شكل طوابير وسط زعيق الأطفال الذين ملّوا من الانتظار، لكن بعد لحظات يخبرنا موظفو المطار بأنها ليست طائرتنا، فنعود خائبين إلى مقاعدنا، وينشغل كل اثنين أو أكثر بحديث عن العنف الطائفي، أو عن معيشة اللجوء القاسية في أي بلد من البلدان العربية.
هذه المقاعد، كانت عبارة عن حكايات مروعة لأناس أجبروا على مغادرة سكناهم، وأعمالهم ووظائفهم، ومقاعد دراستهم، بعضهم قد قُتِل عدد من أفراد عائلته، وبعضهم ترك جزءاً من عائلته، فيما البعض الآخر ترك حبيبه أو حبيبته. قلوب تنزف فوق المقاعد، وعيون تتكلم بصمت حزين. ومن حين لآخر يخبرنا موظف من المطار، بأن طائرتنا ذهبت الآن إلى مدينة أربيل الشمالية ( كان على متنها هوشيار زيباري وزير خارجية العراق الذي اخترق الصالة مع مرافقيه متجهاً إلى المدينة الآمنة في الشمال) وعندما تعود تطير بنا إلى دمشق، ثم تأتي الطائرة فيخبرنا بأنها ستطير إلى البصرة في أقصى الجنوب ( وكان على متنها هذه المرة ملتحون تابعون إلى إحدى التيارات الدينية اخترقوا الطابور باتجاه الطائرة وسط تذمر المنتظرين) وعندما تعود سوف تطير بنا، وتتأخر الطائرة فيخبرنا بأن هناك عطلاً فيها يجري إصلاحه الآن في البصرة، وهكذا دواليك حتى أصابنا اليأس واعتقد الجميع بأننا سوف نقضي ليلتنا على مقاعد صالة المطار مثلما فعل ركاب الليلة الماضية، إذ لم تأت طائرتهم وناموا على المقاعد وبوسعك أن ترى الإعياء يلعب فوق نظراتهم المنكسرة.
أكثر من 100 كلغم كان وزن حقائبي، هي وزن جزء من أرشيفي الشخصي المتكون من: مقالاتي المنشورة في الصحف والمجلات ومؤلفاتي وأوراقي التي اعتدت أن أدون فيها ملاحظاتي عن كل شيء، بالإضافة إلى كراسات يومياتي، وبعض الصور الشخصية التي أعتز بها، ووثائقي وأوراقي الشخصية، ومشاريع لكتب جديدة مخطوطة على كميات كبيرة من الورق قبل أن أطبعها في حاسوبي الشخصي، وأشياء أخرى كثيرة.
عندما أصبحنا في الجو، كنتُ أنظر إلى بغداد والعراق نظرتي الأخيرة، وبحجم الظلام الدامس كانت هناك سماء سوداء تُخلَق في روحي، وفي عينيّ تتراكض غيوم الدمع. أتذكر أنني أوشكت أن أصرخ بجنون وأكفر بهذا الدين المختبئ تحت يشماغ الملثمين أو عمامة الملتحين، لولا يد الرجل الجالس بقربي التي ربّتت على كتفي برقة بادئاً حديثاً عن نفسه باعتباره الناطق الإعلامي باسم تجمع عشائر العراق، وإنه بطريقه إلى اجتماع واسع مع الرئيس السوري بشار الأسد خلال هذا الأسبوع.
دين الملثمين والمعممين اغتال العراق والعراقيين.
هل أقول إن الإسلام الذي جاء على ظهر الخرافة وعبادة السلطة كما جاء الدكتاتور على ظهر الدبابة هو سبب مأساتنا التي لا حلّ لها؟.
بعد الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم ( 29/12/2006) هبطت الطائرة في مطار دمشق، وبعد ختم جواز السفر استأجرت تاكسي إلى منطقة السيدة زينب، بادرني سائق التاكسي بسؤال هو أشبه بنثر الملح على الجرح:
كيف هو حال بغداد بعد إعدام صدام؟.
ما رأيك يا أستاذ بإعدام صدام؟. وبدأ يلعن الأمريكان والحكومة العراقية.
في البداية تملصت من السؤال خشية أن يقودني اليوم الأول للجوئي إلى دائرة الأمن بدلاً من الفندق، لكن إلحاحه دفعني إلى القول بجرأة تعقيباً على الإعدام: قمامة ذهبت إلى قمامة. كان جوابي صادماً للسائق فسكت سكتة مطبقة فيما انفتح جرحي أو بالأحرى جرح جميع العراقيين وأخذ ينزف. الجرح ينزفُ، وسيارة الأجرة تشق الطريق المظلمة، والسائق لعبت في عاطفته موسيقى الجرح فانقلب يلعن الرئيس المعدوم وجلاوزته.
أوصلني السائق إلى أحد الفنادق، فاستأجرت غرفة من سرير واحد وحمام، ونمت عميقاً بعد رحلة مجهدة. في الصباح، خرجت إلى الأسواق المحيطة بالفندق، وكنت طيلة تجوالي أستمع إلى حوارات بين لاجئين عراقيين يتساءلون عن شقق رخيصة للإيجار أو عمل مهما كان نوعه، أو عن وسيلة لجوء إلى دولة أجنبية. وهناك قصص عن النصب والاحتيال تعرض لها اللاجئون الراغبون في الهجرة إلى البلدان الأوروبية، فقد علمت أن: سيدة في الأربعين، وهي فنانة تشكيلية وزوجها فنان تشكيلي ايضاً، فرّوا مع ولدهم الوحيد من حيّ العامرية وباعوا بيتهم وأغراضهم وأعطوا المهرّب 22 ألف دلار لكنها ضاعت عليهم في عملية نصب.
بعد أن تعبت من التجوال، دخلت إلى صالة انترنت لكي أتصفح اميلي، كانت الصالة مملوءة بلاجئين يتحدثون بالماسنجر مع ذويهم أو أصدقائهم، فكنت أستمع إلى حكايات مريرة. كان بقربي رجل في الخمسين من عمره، لا يعرف استعمال الحاسوب، فأخذ يُملي على شاب يكتب بالنيابة عنه رسالة إلى مقتدى الصدر يتوسله أن يساعده في العثور على ابنه الذي خطفته جماعة مسلحة. كانت عباراته دامية، ومؤلمة، وهو يتحدث عن تهجيره من بيته الذي قضى فيه أجمل أيام عمره.
عندما فتحتُ اميلي، تلقيت رسالة من صديق شاعر وصحفي يخبرني عن تلقي القاص والاكاديمي العراقي لؤي حمزة عباس تهديداً من جماعة تطلق على نفسها: سرايا نصرة المذهب، وكان التهديد على شكل مظروف فيه طلقة وعبارة تهديد بترك العمل والمدينة فوراً. كان لؤي يختبئ في بيوت الأصدقاء، ويبحث عن وسيلة هرب إلى الكويت. كتبتُ رسالة إلى صديقي لؤي أعلن فيها تضامني معه، وتنديدي بما فعله المجرمون.
أغلقت اميلي، وخرجت للقاء أحد الأصدقاء يعمل في مجلة تابعة لإحدى الحوزات الدينية بدمشق، وعندما التقيت به في إحدى المقاهي التي يديرها لاجئ عراقي وروادها لاجئون عراقيون، وجدته ناقماً على رجال الدين، وسرد لي حكايات عن ورعهم الزائف، وعن تخلف نظرتهم إلى كل أمور الدنيا. كان يعيش مع زوجته وثلاثة أطفال في وضع مادي سيء جداً. ثم ذهبنا إلى الحوزة، تعرفت على بعض الأشخاص العراقيين الذين يعملون فيها، وبعض طلابها الأفغان. وقد حصلت بمساعدة صديقي الصحفي على كثير من الأوراق والبيانات المهمة الخاصة بخطاب الحوزة الدينية، والتي أحتاجها في تأليف كتاب عن الخطاب الإسلامي في العراق ولاسيما الفكر السياسي ومحاولات أدلجة الدين. لقد وجدت أن المطبوعات الإسلامية الشيعية، ولاسيما الصحف والمجلات، قد تزايدت بعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وثمة دعم متزايد من قبلها لتصدير الفكر الشيعي بوجهيه العقائدي والسياسي.
كنتُ أقضي حاجياتي في الأكل والشرب وبقية الأمور الأخرى عبر الاتصال بلاجئين عراقيين، وكثيراً ما كنت أذهب إلى تلك المقهى لأحتسي الشاي العراقي وأستمع إلى قصص مؤثرة حقاً، عن البرد القارص واحتياجهم المستمر إلى الوقود المرتفع الثمن، وتفشي الأمراض وارتفاع أثمان العلاج والدواء، وندرة الحصول على العمل، وتحليلات للوضع الجاري بالعراق، وحكايات عن أصدقاء وجيران قتلوا أو هجروا من قبل متطرفين. استمعت إلى حكاية: فتاة في الثلاثينيات خريجة كلية، تعمل خادمة بالأجرة اليومية، وتسكن هي وزوجها وأهله في غرفة واحدة يقطعونها بالستائر كحواجز تستر فراش الزوجية الليلي، وكان زوجها لا يعرف أنها تعمل خادمة إنما تخرج على أساس أنها تعمل بصالون حلاقة. وحكاية طيار من أقارب زوجتي: أخذ ابنه الوحيد وفر إلى دمشق، وبقيت زوجته وبناته الأربع ببغداد، وهو يعمل في محل لبيع الخضار، لأن هنالك حملة تصفية لضباط الجيش العراقي السابق ولاسيما الطيارين، وتوجه أصابع الاتهام إلى المخابرات الإيرانية بتصفيتهم. وحكاية طبيبة: عندها خمسة أطفال، زوجها يعمل مع الشركات الجديدة في العراق وتعرض لمحاولة اغتيال، فهرب بهم الى سورية ثم عاد ثانية للعمل في العراق مخاطراً بحياته لتغطية نفقات عائلته بدمشق، تقول زوجته كلما يرن الهاتف أصرخ: قتلووووووه.
كان الوضع سيئاً للغاية، قلوب ترتجف بين صقيع الإشاعات المنتشرة في سورية حول وضع اللاجئين. وفي الوقت الذي كان هنالك قرار لترحيل اللاجئين العراقيين كانت المساجد ببغداد تدعو الشباب إلى الاستعداد لمعركة مصيرية حاسمة. كنتُ أنظر إلى الحزن في وجوه وخطوات وحركات وحوارات العراقيين، فيما اندفعت موجات جديدة نحو المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في محاولة يائسة لتوفير الحماية.
كان هنالك طفل بعمر 11 سنة يضع على أحد الأرصفة ميزاناً لقياس الوزن، وكلما أمرّ من أمامه يدعوني إلى قياس وزني، فأصعد فوق الميزان وأعطيه فوق ما يطلب، وصار يعرفني وينتظر مني أن ألبي دعوته في قياس وزني فأفعل، وأشعر بأسى عميق على حال الطفولة بالعراق. وفي شوارع دمشق والسيدة زينب، كان هناك أطفال عراقيون يتسولون، وشبان يبيعون السيجائر أو البضائع الأخرى وهم يمشون خوفاً من ملاحقة البلدية والشرطة. وهو جزء من تقسيم العمل بين أفراد العائلة لتأمين لقمة العيش أو إيجار السكن أو تأمين الحاجيات الضرورية. ولم يحظ عدد كبير من الأطفال بالحصول على فرصة الدراسة بسبب زحمة المدارس الحكومية، وارتفاع تكاليف الدراسة في المدارس الأهلية، أو بسبب خضوع الطلاب إلى امتحان يؤدي إلى إرجاعهم سنة دراسية أو أكثر نتيجة لتفاوت المناهج الدراسية بين سورية والعراق. وعندما يكمل الطالب العراقي الدراسة الثانوية في سورية لا يستطيع الدخول الى الكليات إلا بإجور تتراوح بين 6000 إلى 10000 دولار سنوياً.
gt; كان الناس هنا، تتبدل ألوان وجوههم بين لحظة وأخرى، تبعاً لنوع الإشاعة التي تتردد بين اللاجئين. ولعل أكثرها قسوة تلك التي تدور حول الترحيل إلى العراق. ويعاني المجتمع العراقي المصغّر هنا، المتكون من لاجئين يتأرجحون بين مكانين: العراق الضائع ومكان اللجوء اللامستقر، من عدة مشاكل تُضيّق الخناق عليهم ولاسيما تلك التي تتعلق بارتفاع الإيجارات وارتفاع أسعار الوقود، وعدم وجود عمل مجاز بشكل رسمي، ونفاد مدخرات اللاجئين بسبب طول الاضطراب الأمني بالعراق منذ 2003. ويعاني العراقيون هنا من تفتت أسري واضح، فالعائلة العراقية أصبحت مشطورة شطرين: واحد في العراق والآخر خارج العراق، واضطر كثير منهم إلى الزواج من غير العراقي رغبة في الحصول على الإقامة. وتحت دافع التمسك بالحياة، دفعت بعض العوائل بناتها إلى الرقص في الملاهي الليلية.
كانت الأخبار الواردة من العراق، تتحدث عن كميات كبيرة من النفط المهرّب عن طريق البصرة، واختلاس مليارات الدولارات في الفساد الاقتصادي، فيما تتضور العوائل العراقية جوعاً هنا ولا أحد يلتفت إليها. وطن كامل يتشرد بين خرائط العالم، ووطن آخر يتشرد في خريطة الإرهاب والقتل اليومي.
كانت هذه الصورة المزرية، تجعلني حينما أعود إلى غرفتي أقف أمام المرآة المعلقة على جدار قبالة سريري وأطيل النظر في وجهي، أشاهد الخراب والضياع الذي يصرخ فيه، ومن حينٍ لآخر ألعب معه، فأغيره مرة إلى وجه حيوان، ومرة إلى مجنون، ومرة إلى وجه مسكين حزين، أو وجه لا معنى له، مرة أبتسم، ومرة أزمّ على شفتيّ، مرة أبرطم، ومرة أضحك ضحكة طويلة، وأختتم ذلك بأن أغرق في النظر إلى السماء الملبدة بالغيوم من نافذة صغيرةٍ تجاور سريري.
التعليقات