كيف يمكن أن يُقرأ العالم بعد حادثة 11 سبتمبر؟. أولاً، أن الحادث دمّر مع البرجين برجاً ثالثاً هو مفهوم: العالم، وأنشأ عالماً جديداً، يختلف كلياً عن ذلك العالم الذي تسيدت فيه أمريكا بعد انتهاء الحرب الباردة، وشعرت لفترة قصيرة بحلاوة السيادة من دون عدوّ يقلق أو يستنفر كل أجهزتها الأمنية والسياسية والاقتصادية. كل الاستراتيجيات الاستخباراتية احترقت مع احتراق البرجين. وكل أساليب الصراع وحيثياته تغيرت تغيراً جذرياً، بدءاً بمفهوم (العدو) وانتهاءً بطرائق مقاومته. ومن ناحية أخرى، فإن هذا الحادث سلّط الضوء بشكل كبير على ( الثقافة) ودورها في هذا الصراع الجديد الذي يخوضه العالم الآن. وطبقاً لذلك، تغيرت المنظورات الاقتصادية والعسكرية والسيكولوجية والاجتماعية.
وبصرف النظر عن وحشية هذا العمل، فإن معالجة الغرب ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية لآثار الحادث كانت معالجة تفتقر إلى التحليل الموضوعي. فقد ذهب بعض محللي الغرب ومفكريه إلى أن العنف ظاهرة متأصلة في الذات الإسلامية. بيد أنّ المشكلة، كما يبدو لي، ليست في بنية الإسلام، وقد يرتكب الغرب خطأ تاريخياً عندما ينظر إلى العنف القادم من الشرق الإسلامي على أنه جزء من تلك البنية الأساسية، إنما المشكلة في تحويل الإسلام إلى كتلة أيديولوجية تكسح كل القيم لتحل محلها باعتبارها القيمة المثلى. وهذا لا يقتصر على الإسلام وحده، بل ينطبق على كل الديانات عندما تتحول إلى أيديولوجيا.
وينبغي أن نعترف ndash; في ظل الظروف التي خلقتها هجمات 11 سبتمبر - بأن (الدين) حلّ في محلّ (الاقتصاد) في حرب الغرب والشرق منذ الحملة الكولونيالية، بعد أن كان الغزو الاستعماري مقترناً بالاستغلال الاقتصادي ونهب الثروات واحتكار التجارة، أصبح الغزو الآن مختلفاً تماماً إذ يُسَوّغ بأنه استراتيجية جديدة لمهاجمة الإرهاب خارج تلك البلدان، وهذا ما يشدد عليه القادة الأمريكان في كل مناسبة، وقد كرره الرئيس بوش في خطابه بمناسبة الذكرى السابعة لهجمات 11 سبتمبر. ولأن الصراع اتخذ طابعاً دينياً ولاسيما من قبل الجماعات الإسلامية التي تخوض الحرب مع الغرب، فهذا يعني أن المعضلة أشدّ تعقيداً من ذي قبل. ولذلك فإن اللجوء إلى استراتيجيات عسكرية من نمط: الحسم العسكري، الضربات الاستباقية، تجفيف المنابع المالية، الحصار الاقتصادي، وسوى ذلك، إنما هي إجراءات لا تعالج جوهر المشكلة بقدر ما تتجه إلى إجراءات وقتية. ذلك أن بقاء أسباب التطرف، سوف يعمل على إدامة أشكاله، وظهور جماعات متطرفة بتسميات مختلفة. ولعل هذا يفسر لنا لماذا ارتدى البعثيون في العراق بعد سقوط نظام صدام زيّ الجماعات الإسلامية، ذلك أن الدافع الذي يدفع الاثنين إلى العنف هو الدافع نفسه بكل مخرجاته الثقافية. والهدف الذي يسعى إليه الاثنان هو الهدف نفسه، إنه الوصول إلى السلطة. ومن هنا فإن (الغرب) هو العدو المشترك لدى الإسلاميين ولدى البعثيين القوميين العلمانيين.
إن الدين ndash; في منظور الجماعات الإسلامية الراديكالية- لحظة خلاص مثالية من التعقيدات الحضارية؛ تلك التعقيدات التي يلقي الإسلاميون بمسؤوليتها على عاتق الغرب الذي خلق فجوة حضارية هائلة بينه وبين الشعوب الأخرى. والدين في منظور هذه الجماعات هو المنطقة الأكثر أمناً ومثالية وطهرانيةً، بل هو وطن متخيل، تلجأ إليها النفس للهرب من الواقع/الخطيئة. هذا الاقتران الأبدي، الأسطوري، الانطولوجي، بين الإنسان والدين، لا يمكن التخلص منه وكأنه شيء زائد عن الحاجة. ومن هنا، فإنّ هذا الاقتران في منظور هذه الجماعات بات يتطلع إلى لحظة رؤية ذلك الوطن المتخيل يتحقق فوق أرض الواقع. بمعنى آخر، أنّ الجماعات الإسلامية- ولعلّي هنا أفيد من تجربة الإسلام السياسي الحديث- تريد أن تحقق الانتقال من الرياضة الروحية، إلى الرياضية المادية الواقعية، التي تؤسس كياناً جديداً للدولة على وفق مرجعيات أو أصول دينية. ويمكن لي، أن أصف ذلك بأنه لحظة انقلاب الحلم إلى حقيقة ذات أرجل تمشي على الأرض. وبعد التغيرات السياسية في الباكستان، التي أعتقد أنها سوف تسمح بتسلط الإسلاميين على مقدراتها وعلى قرارها السياسي، فإن السلطة تقترب يوماً بعد آخر من الإسلاميين الأصوليين.
ومن هنا فإن هذا الصراع يأخذ مدى سياسياً واجتماعياً وثقافياً، ضد النظام السياسي القائم الآن في البلدان العربية والإسلامية؛ لأن هذا النظام من وجهة نظر الإسلام الراديكالي صنيعة الغرب، وهو لا يتقيد بالشريعة الإسلامية. وكذلك يخوض الإسلام الراديكالي صراعاً ضد المفاهيم الغربية ذات المضمون العلماني أو الليبرالي، وضد القيم الاجتماعية ذات المرجعية الغربية، سواء أكانت قيماً مادية أو أخلاقية أو سلوكية أو ثقافية.
ومن المؤسف، أن من نتائج ردّ الفعل الأمريكي على تلك الهجمات أن ساعدت على تأسيس نظام سياسي ديني في العراق، سوف تتربى تحت عباءته الكثير من الجماعات المتطرفة، وساعد الدول المارقة على الإرادة الأمريكية في مسألة الديمقراطية أن تتخذ من العراق ساحة لخوض الصراع مع الولايات المتحدة، والعمل على إفساد مشروعها هناك. ومن ناحية أخرى، فإن الحملة الأمريكية على أفغانستان لم تقض كلياً على تنظيم القاعدة أو طالبان، وقد أشار الرئيس بوش في خطابه الأخير إلى أن القاعدة تحاول العودة مجدداً إلى أفغانستان، وهذا يعني أن الوضع الأمني في هذه الدولة لم يرتق بعد إلى الدرجة التي يمكن أن تعلن فيها الولايات المتحدة انتصارها على تنظيم القاعدة وحركة طالبان.
وفي ظل التطورات الجارية في روسيا التي تتطلع إلى إعادة بناء قوتها العسكرية مجدداً بعد اجتياح جورجيا وجسّ نبض الغرب وأمريكا معاً، وكذلك جس نبض الدول التي يمكن أن تدخل في لعبة المواجهة الجديدة التي تريد أن تخوضها روسيا، أقول في ظل هذه التطورات فإن العالم القديم يُقْدم على إحراق ما تبقى من أوراقه القديمة ليدشن سجلاً جديداً في العلاقات الدولية.
[email protected]