إنّ نظرية الحكم على النحو الذي تتشكل فيه في الفكر السياسي الإسلامي عموماً: السنيّ والشيعيّ، هي مجموعة شروط ذات أصول إلهية وروحانية، طاردة لكل شرط يتسرّب إليها من الأصول الأخرى ولاسيما تلك الوافدة من مصادر ثقافية غير إسلامية. وهكذا وقف المشرّع الإسلامي السياسيّ بقوة في وجه نظريات الحكم الغربية ولاسيما (النظام الديمقراطي) فأفتى كثير من علماء المسلمين سنةً وشيعةً بتحريم هذا المفهوم وتكفير من يأخذ به.
على هذا الأساس، اختُزِلَ الحاكم الإسلامي في جملة من الخصائص والمكونات غير الخاضعة لشروط واقعية تنتجها حركة الإنسان وحاجته وتطلعاته، وهذا الحاكم إنما يستمدّ شروط عمله وبقائه من مصادر روحانية وميتافيزيقية، توفّر له إمكانية تمتين مركزية السلطة، ذلك أن تكوين نظرية الحكم من خلال التشريعات المقدسة يمنح الحاكم سلطات مطلقة في مجمل شؤون البلاد الإسلامية. عندئذٍ يصبح لا فرق بين الحاكم الإسلامي والدكتاتور سوى في احتيال الأول في الاختباء خلف مرجعية شرعية أغلقت الباب أمام الجماهير في حق الاختيار، فمن يخرج على هذه القاعدة إنما حكمه حكم المرتد عن ملة الإسلام.
وثمة من يستغل الخطاب الإسلامي الذي يرى في الإسلام ديناً عاماً وشاملاً ومفروضاً على كل البشرية، في النزوع إلى إخضاع الأمم الأخرى بالقوة بغية الانقياد إلى المركزية الإسلامية. ولأنه كذلك؛ مرّت هذه النظرية النمطية بأزمة معرفية تتعلق بكيفية التعامل مع التغيّرات التاريخية والاجتماعية، التي تحتّم اقتراح رؤية نظرية جديدة تستوعب هذه التغيرات بصورة لا تؤلب عليها سواد الناس الذين ينتظرون الثمرات المترتبة على تطبيق هذه النظرية من ناحية تقدم الحياة، وحلّ مشكلات الإنسان الصغرى والكبرى معاً.
وقد أثبت التاريخ فشل هذه النظرية، بسبب اعتمادها وسائل القهر أكثر من رغبتها في تلمس منطق التطور التاريخي للمجتمع الإسلامي. هذا من الناحية الفكرية، ولكن من الناحية السياسية الواقعية والعملية فنادرة هي الأمثلة في التاريخ الإسلامي، التي تخبرنا بتداول السلطة خارج نطاق منطق القوة والاستحواذ. ومن هنا، يتوجب على من يتعامل مع المفاهيم السياسية في التاريخ الإسلامي أن ينظر إلى مفهوم (الثورة) بعين الشك، فهذا المفهوم لم يعد يعني ثورة العوام للتغيير إنما محاولة للاستحواذ على السلطة التي أخذت في العصر الحديث طابع: الانقلابات العسكرية.
ومن المؤسف، أن تاريخ نظام الحكم في الدولة الإسلامية في عصورها الذهبية ساهم في تربية الوعي السياسي عند الناس من خلال تطوير النظام بالانقلاب لا بالإصلاح السلمي، وهكذا أضحى تاريخ الدولة العربية الحديثة تاريخ انقلابات عسكرية بطريقة أو بأخرى. ومفهوم (الانقلاب) بات مفهوماً اجتماعياً تسرّب إلى كل المؤسسات الاجتماعية، فلم يعد المنصب يقترن بالكفاءة بل بـ (الشطارة) في القيام بـ (الانقلاب) على صاحب المنصب السابق بسلوك طريق معين على الأغلب هو طريق محاباة السلطة واستملاقها. ثمة حادثة، من بين آلاف الحوادث طبعاً، تكشف عن الطريقة التي يتمّ بها تداول السلطة في الدولة الإسلامية قديماً وحديثاً، هذه الحادثة يرويها جلال الدين السيوطي في كتابه: تاريخ الخلفاء، نقلاً عن الذهبي، وهي أن طباطبا العلوي سأل المعزّ صاحب القاهرة عن نسب الفاطميين، فجذب المعزّ نصف سيفه من الغمد، وقال: هذا نسبي، وأخذ ينثر على الأمراء والحاضرين الذهب، وقال: هذا حَسَبي.
هذا التأسيس التاريخي لنمط الحكم الإسلامي، أخذ بعداً سوسيولوجياً فمهّد الطريق إلى تكريس الغلبة عن طريق القوة في المخيال الاجتماعي، وجعل ذلك طريقة لتداول السلطة في البلاد الإسلامية التي لا تؤمن بوجود مؤسسات المجتمع المدني المستقلة عن السلطة المركزية. كان هذا، يربّي في الشخصية الإسلامية الميل إلى البحث عن: البطل/ المخلِّص، بسبب دوامة الاستبداد الإسلامي، ثم تحول البطل/المخلِّص نفسه إلى: دكتاتور/مستبد. ويجب أن نفطن إلى مسألة مهمة جداً، وهي أن المجتمع الإسلامي حينما يبحث في دفاتر الحكم الإسلامي لم يجد في هذه المدونة الرهيبة نظرية للحكم تتحرر من عقلية استعباد الإنسان وتهميشه تماماً، بل يجد نظرية تحدد دوره في تنفيذ طاعة (الفقيه لدى الشيعة) وطاعة (شيوخ الأفتاء لدى السنة).
وعادةً، الفقيه الشيعي هو وليّ الله في تطبيق شريعته، والمفتي السني كذلك هو مصدر الإجازة ومصدر التشريع. وثمة فرق بين الاثنين لابد من الإشارة إليه، وهو أن الفقيه الشيعي تمكن من الوصول إلى السلطة في العصر الحديث ( 1979/ الجمهورية الإسلامية في إيران) وكان طيلة تاريخه على خلاف مع أنظمة الحكم غير الدينية، على حين كان زميله المفتي السني فقيهاً للسلطان يضفي الشرعية على ممارساته الاستبدادية كما هو حال مفتي الديار المصرية وعلاقته بالحكم، ومفتي الديار النجدية بالمملكة العربية السعودية. والحق، أن الاثنين: الفقيه الشيعي، والمفتي السني، كانا حجر عثرة في طريق تحديث نظام الحكم في عموم البلاد الإسلامية. وكان من أولويات الحاكم المدني أن يقرّب منه رجال الدين، ومن ثم يقوم باحتوائهم، وتتحول العملية في النهاية إلى لعبة مصالح مشتركة ما بينهما.
لكن بعد تزايد علاقة الإسلام بالغرب، وفشل أساليب الإدارة السياسية، طُرِحَتْ إشكاليات جديدة لنظرية الحكم، فما بين نظرية تستمدّ أصولها من الدين بصورة مطلقة [ لدى المسلمين] ونظرية تستمدّ أصولها من الواقع والمادة والمجتمع والعلم والمنفعة والتطور التاريخي [ لدى الغربيين] ثمة مجال واسع للمقارنة وللصدام الثقافي والسياسيّ. ونتيجة لهذا التفاوت البنيوي بين الفلسفتين: الإسلامية، والغربية، اعتقد كثير من المؤرخين أنّ الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب مرده إلى الأنماط الثقافية السائدة في أوروبا التي تختلف عن تلك التي في بلاد المسلمين. إن الاختلاف الثقافي في تكوين نظرية للحكم لا تميل إلى التصادم على نحو دائم، أو الاختلاف الثقافي الذي يغذي النزعات المتطرفة، هو جوهر الصراع بين الإسلام والغرب منذ مفتتح الألفية الثالثة. فقد فطن الغرب بعد تزايد نشاط الجماعات الإسلامية المتطرفة المعادية للغرب، إلى أهمية العمل من أجل تغيير (نظام الحكم) والعمل على تغيير المصادر الثقافية التي تغذي الإرهاب والتطرف، فاتجهت إلى خوض مباحثات شاقة بغية إجراء تعديلات على بعض المناهج الدراسية ولاسيما في المملكة العربية السعودية. واتخذت إجراءات صارمة في التضييق على حركة الأموال الإسلامية في البنوك العالمية، بغية تجفيف منابع تمويل تلك الجماعات المتطرفة.
إنّ أحدث تطوير جرى لنظام الحكم الإسلامي، هو النموذج الإيراني إذ حُوِّرت الديمقراطية فيها من ممارسة ليبرالية إلى ممارسة ترتبط بقوة بالمؤسسة الدينية فالمؤسسة هي التي تنتخب الرئيس قبل أن ينتخبه الشعب، وما تنتخبه المؤسسة بتزكيته هو من يفوز برئاسة الدولة. والرئيس لا يستمد صلاحيات عمله من الشعب، بل من رؤية تلك المؤسسة إلى القضايا الداخلية والخارجية. وهذا ما تحاول التيارات السياسية الدينية في العراق أن تطبّقه، إذ تؤثر على الناخب العراقي عن طريق المرجعية الدينية. وتحويل القضية من حق اختيار شخصي حرّ، إلى إدخالها في باب الحلال والحرام.
وفي مقابل ذلك، يقدّم الإسلام السنّي نظريتين أساسيتين: الأولى، نظرية تقليدية إذ يشترط فيها أن يكون الإمام (الرئيس، القائد،...) فقيهاً في أصول الدين وفروعه. والذي يجيز الإمام، هم ما يطلق عليهم في الفقه الإسلامي: أهل الحلّ والعقد. والثانية، نظرية سياسية أصولية، بمعنى أن القائد لا يشترط فيه الفقاهة (ابن لادن، الظواهري، الزرقاوي،....) بل أن يكون خطابه السياسي خطاباً إسلامياً راديكالياً يعوّض الشخصية الإسلامية عن الإنكسار والهزيمة؛ الهزيمة أمام الذات والهزيمة أمام الآخر. وعلى هذا الأساس، فإن فهم الإسلام الأصولي لنظرية الحكم لا ينبني على تلك الرؤية النمطية التي أنتجها الفكر الفقهي، بل يتعدى ذلك بدمج الرؤية السياسية بالرؤية الدينية. ومثلما يلعب الحاكم القومي بالشعارات القومية التي تثير عواطف الجمهور، فإن الحاكم الإسلامي يلعب بالشعارات الإسلامية للغرض نفسه. وهكذا، يتشكل الهرم السياسي الأعلى للبلاد لا على وفق ممارسة جماهيرية حرة ndash; هذا شيء محرّم لأنه ذو أصول غربية - إنما عن طريق اختيار [ بيعة ] كاريزما سياسية إسلامية يشترك في اختيارها [ مبايعتها] مجموعة قليلة من الأشخاص. والفقه السني يجيز هذا استناداً إلى حادثة بيعة أبي بكر إذ بايعه خمسة أشخاص فقط فأصبح خليفة للمسلمين، وبمفهومنا المعاصر رئيساً. وقد ابتكر أبو بكر طريقة جديدة في الحكم عندما سنّ سنة: العهد/ التوريث، إذ عهد بها من بعده إلى الخليفة الثاني. طبعاً هذه اجتهادات شخصية في فهم الحكم، بصرف النظر عن تسميته إسلامياً أو غير إسلامي، فليس ثمة نصّ مرجعي ndash; القرآن أو السنة- يجيز ما قام به الخليفة الأول. لكنه اجتهد في ظروف مضطربة كان يمرّ بها الإسلام يومئذٍ، لعله أراد أن يدرأ بها الفتنة. لكن قراءة دقيقة لتاريخ الدولة الإسلامية، تجعلنا نعتقد بأن ذلك إنما كان فتنة حقيقية، فالصراعات التي نخرت جسد الدولة الإسلامية كانت بسبب التخبّط في إيجاد مخرج لمشكلة نظام الحكم المزمنة، إذ تأسست الدولة الأموية والدولة العباسية على آلية التوريث.
وفي مقابل ذلك، فإن الفكر السياسي الشيعي إنما هو فكر توريثي أيضاً. تاريخياً، يعتقد الشيعة بتوريث النبي محمد الخلافة إلى الأمام علي. وعصرياً، تنتقل الإمامة من إمام إلى آخر، كما هو الحال في إيران وفي الحوزة العلمية في النجف.
وهكذا، فإن النظريتين: السنية والشيعية، لا تقدمان نموذجاً لنظام الحكم يشرك الناس في الحكم، ويجعل منهم عيناً تراقب أداء مؤسسات الدولة، ولها الحق في التشريع وتحديث نظام المؤسسات. وفي ظني، أن هذه المعضلة نشأت بسبب انغلاق الرؤية الإسلامية على نفسها، وإزاحة عامل الزمان والإنسان والتواصل الحضاري مع شعوب العالم. لهذا يبدو أسلوب الحكم الإسلامي أقرب إلى آلية الحكم قبل أكثر من ألف سنة، وبعيداً عن الرؤية العصرية التي يكون للإنسان والزمان والثقافة أثر فيها.
على هذا الأساس، اختُزِلَ الحاكم الإسلامي في جملة من الخصائص والمكونات غير الخاضعة لشروط واقعية تنتجها حركة الإنسان وحاجته وتطلعاته، وهذا الحاكم إنما يستمدّ شروط عمله وبقائه من مصادر روحانية وميتافيزيقية، توفّر له إمكانية تمتين مركزية السلطة، ذلك أن تكوين نظرية الحكم من خلال التشريعات المقدسة يمنح الحاكم سلطات مطلقة في مجمل شؤون البلاد الإسلامية. عندئذٍ يصبح لا فرق بين الحاكم الإسلامي والدكتاتور سوى في احتيال الأول في الاختباء خلف مرجعية شرعية أغلقت الباب أمام الجماهير في حق الاختيار، فمن يخرج على هذه القاعدة إنما حكمه حكم المرتد عن ملة الإسلام.
وثمة من يستغل الخطاب الإسلامي الذي يرى في الإسلام ديناً عاماً وشاملاً ومفروضاً على كل البشرية، في النزوع إلى إخضاع الأمم الأخرى بالقوة بغية الانقياد إلى المركزية الإسلامية. ولأنه كذلك؛ مرّت هذه النظرية النمطية بأزمة معرفية تتعلق بكيفية التعامل مع التغيّرات التاريخية والاجتماعية، التي تحتّم اقتراح رؤية نظرية جديدة تستوعب هذه التغيرات بصورة لا تؤلب عليها سواد الناس الذين ينتظرون الثمرات المترتبة على تطبيق هذه النظرية من ناحية تقدم الحياة، وحلّ مشكلات الإنسان الصغرى والكبرى معاً.
وقد أثبت التاريخ فشل هذه النظرية، بسبب اعتمادها وسائل القهر أكثر من رغبتها في تلمس منطق التطور التاريخي للمجتمع الإسلامي. هذا من الناحية الفكرية، ولكن من الناحية السياسية الواقعية والعملية فنادرة هي الأمثلة في التاريخ الإسلامي، التي تخبرنا بتداول السلطة خارج نطاق منطق القوة والاستحواذ. ومن هنا، يتوجب على من يتعامل مع المفاهيم السياسية في التاريخ الإسلامي أن ينظر إلى مفهوم (الثورة) بعين الشك، فهذا المفهوم لم يعد يعني ثورة العوام للتغيير إنما محاولة للاستحواذ على السلطة التي أخذت في العصر الحديث طابع: الانقلابات العسكرية.
ومن المؤسف، أن تاريخ نظام الحكم في الدولة الإسلامية في عصورها الذهبية ساهم في تربية الوعي السياسي عند الناس من خلال تطوير النظام بالانقلاب لا بالإصلاح السلمي، وهكذا أضحى تاريخ الدولة العربية الحديثة تاريخ انقلابات عسكرية بطريقة أو بأخرى. ومفهوم (الانقلاب) بات مفهوماً اجتماعياً تسرّب إلى كل المؤسسات الاجتماعية، فلم يعد المنصب يقترن بالكفاءة بل بـ (الشطارة) في القيام بـ (الانقلاب) على صاحب المنصب السابق بسلوك طريق معين على الأغلب هو طريق محاباة السلطة واستملاقها. ثمة حادثة، من بين آلاف الحوادث طبعاً، تكشف عن الطريقة التي يتمّ بها تداول السلطة في الدولة الإسلامية قديماً وحديثاً، هذه الحادثة يرويها جلال الدين السيوطي في كتابه: تاريخ الخلفاء، نقلاً عن الذهبي، وهي أن طباطبا العلوي سأل المعزّ صاحب القاهرة عن نسب الفاطميين، فجذب المعزّ نصف سيفه من الغمد، وقال: هذا نسبي، وأخذ ينثر على الأمراء والحاضرين الذهب، وقال: هذا حَسَبي.
هذا التأسيس التاريخي لنمط الحكم الإسلامي، أخذ بعداً سوسيولوجياً فمهّد الطريق إلى تكريس الغلبة عن طريق القوة في المخيال الاجتماعي، وجعل ذلك طريقة لتداول السلطة في البلاد الإسلامية التي لا تؤمن بوجود مؤسسات المجتمع المدني المستقلة عن السلطة المركزية. كان هذا، يربّي في الشخصية الإسلامية الميل إلى البحث عن: البطل/ المخلِّص، بسبب دوامة الاستبداد الإسلامي، ثم تحول البطل/المخلِّص نفسه إلى: دكتاتور/مستبد. ويجب أن نفطن إلى مسألة مهمة جداً، وهي أن المجتمع الإسلامي حينما يبحث في دفاتر الحكم الإسلامي لم يجد في هذه المدونة الرهيبة نظرية للحكم تتحرر من عقلية استعباد الإنسان وتهميشه تماماً، بل يجد نظرية تحدد دوره في تنفيذ طاعة (الفقيه لدى الشيعة) وطاعة (شيوخ الأفتاء لدى السنة).
وعادةً، الفقيه الشيعي هو وليّ الله في تطبيق شريعته، والمفتي السني كذلك هو مصدر الإجازة ومصدر التشريع. وثمة فرق بين الاثنين لابد من الإشارة إليه، وهو أن الفقيه الشيعي تمكن من الوصول إلى السلطة في العصر الحديث ( 1979/ الجمهورية الإسلامية في إيران) وكان طيلة تاريخه على خلاف مع أنظمة الحكم غير الدينية، على حين كان زميله المفتي السني فقيهاً للسلطان يضفي الشرعية على ممارساته الاستبدادية كما هو حال مفتي الديار المصرية وعلاقته بالحكم، ومفتي الديار النجدية بالمملكة العربية السعودية. والحق، أن الاثنين: الفقيه الشيعي، والمفتي السني، كانا حجر عثرة في طريق تحديث نظام الحكم في عموم البلاد الإسلامية. وكان من أولويات الحاكم المدني أن يقرّب منه رجال الدين، ومن ثم يقوم باحتوائهم، وتتحول العملية في النهاية إلى لعبة مصالح مشتركة ما بينهما.
لكن بعد تزايد علاقة الإسلام بالغرب، وفشل أساليب الإدارة السياسية، طُرِحَتْ إشكاليات جديدة لنظرية الحكم، فما بين نظرية تستمدّ أصولها من الدين بصورة مطلقة [ لدى المسلمين] ونظرية تستمدّ أصولها من الواقع والمادة والمجتمع والعلم والمنفعة والتطور التاريخي [ لدى الغربيين] ثمة مجال واسع للمقارنة وللصدام الثقافي والسياسيّ. ونتيجة لهذا التفاوت البنيوي بين الفلسفتين: الإسلامية، والغربية، اعتقد كثير من المؤرخين أنّ الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب مرده إلى الأنماط الثقافية السائدة في أوروبا التي تختلف عن تلك التي في بلاد المسلمين. إن الاختلاف الثقافي في تكوين نظرية للحكم لا تميل إلى التصادم على نحو دائم، أو الاختلاف الثقافي الذي يغذي النزعات المتطرفة، هو جوهر الصراع بين الإسلام والغرب منذ مفتتح الألفية الثالثة. فقد فطن الغرب بعد تزايد نشاط الجماعات الإسلامية المتطرفة المعادية للغرب، إلى أهمية العمل من أجل تغيير (نظام الحكم) والعمل على تغيير المصادر الثقافية التي تغذي الإرهاب والتطرف، فاتجهت إلى خوض مباحثات شاقة بغية إجراء تعديلات على بعض المناهج الدراسية ولاسيما في المملكة العربية السعودية. واتخذت إجراءات صارمة في التضييق على حركة الأموال الإسلامية في البنوك العالمية، بغية تجفيف منابع تمويل تلك الجماعات المتطرفة.
إنّ أحدث تطوير جرى لنظام الحكم الإسلامي، هو النموذج الإيراني إذ حُوِّرت الديمقراطية فيها من ممارسة ليبرالية إلى ممارسة ترتبط بقوة بالمؤسسة الدينية فالمؤسسة هي التي تنتخب الرئيس قبل أن ينتخبه الشعب، وما تنتخبه المؤسسة بتزكيته هو من يفوز برئاسة الدولة. والرئيس لا يستمد صلاحيات عمله من الشعب، بل من رؤية تلك المؤسسة إلى القضايا الداخلية والخارجية. وهذا ما تحاول التيارات السياسية الدينية في العراق أن تطبّقه، إذ تؤثر على الناخب العراقي عن طريق المرجعية الدينية. وتحويل القضية من حق اختيار شخصي حرّ، إلى إدخالها في باب الحلال والحرام.
وفي مقابل ذلك، يقدّم الإسلام السنّي نظريتين أساسيتين: الأولى، نظرية تقليدية إذ يشترط فيها أن يكون الإمام (الرئيس، القائد،...) فقيهاً في أصول الدين وفروعه. والذي يجيز الإمام، هم ما يطلق عليهم في الفقه الإسلامي: أهل الحلّ والعقد. والثانية، نظرية سياسية أصولية، بمعنى أن القائد لا يشترط فيه الفقاهة (ابن لادن، الظواهري، الزرقاوي،....) بل أن يكون خطابه السياسي خطاباً إسلامياً راديكالياً يعوّض الشخصية الإسلامية عن الإنكسار والهزيمة؛ الهزيمة أمام الذات والهزيمة أمام الآخر. وعلى هذا الأساس، فإن فهم الإسلام الأصولي لنظرية الحكم لا ينبني على تلك الرؤية النمطية التي أنتجها الفكر الفقهي، بل يتعدى ذلك بدمج الرؤية السياسية بالرؤية الدينية. ومثلما يلعب الحاكم القومي بالشعارات القومية التي تثير عواطف الجمهور، فإن الحاكم الإسلامي يلعب بالشعارات الإسلامية للغرض نفسه. وهكذا، يتشكل الهرم السياسي الأعلى للبلاد لا على وفق ممارسة جماهيرية حرة ndash; هذا شيء محرّم لأنه ذو أصول غربية - إنما عن طريق اختيار [ بيعة ] كاريزما سياسية إسلامية يشترك في اختيارها [ مبايعتها] مجموعة قليلة من الأشخاص. والفقه السني يجيز هذا استناداً إلى حادثة بيعة أبي بكر إذ بايعه خمسة أشخاص فقط فأصبح خليفة للمسلمين، وبمفهومنا المعاصر رئيساً. وقد ابتكر أبو بكر طريقة جديدة في الحكم عندما سنّ سنة: العهد/ التوريث، إذ عهد بها من بعده إلى الخليفة الثاني. طبعاً هذه اجتهادات شخصية في فهم الحكم، بصرف النظر عن تسميته إسلامياً أو غير إسلامي، فليس ثمة نصّ مرجعي ndash; القرآن أو السنة- يجيز ما قام به الخليفة الأول. لكنه اجتهد في ظروف مضطربة كان يمرّ بها الإسلام يومئذٍ، لعله أراد أن يدرأ بها الفتنة. لكن قراءة دقيقة لتاريخ الدولة الإسلامية، تجعلنا نعتقد بأن ذلك إنما كان فتنة حقيقية، فالصراعات التي نخرت جسد الدولة الإسلامية كانت بسبب التخبّط في إيجاد مخرج لمشكلة نظام الحكم المزمنة، إذ تأسست الدولة الأموية والدولة العباسية على آلية التوريث.
وفي مقابل ذلك، فإن الفكر السياسي الشيعي إنما هو فكر توريثي أيضاً. تاريخياً، يعتقد الشيعة بتوريث النبي محمد الخلافة إلى الأمام علي. وعصرياً، تنتقل الإمامة من إمام إلى آخر، كما هو الحال في إيران وفي الحوزة العلمية في النجف.
وهكذا، فإن النظريتين: السنية والشيعية، لا تقدمان نموذجاً لنظام الحكم يشرك الناس في الحكم، ويجعل منهم عيناً تراقب أداء مؤسسات الدولة، ولها الحق في التشريع وتحديث نظام المؤسسات. وفي ظني، أن هذه المعضلة نشأت بسبب انغلاق الرؤية الإسلامية على نفسها، وإزاحة عامل الزمان والإنسان والتواصل الحضاري مع شعوب العالم. لهذا يبدو أسلوب الحكم الإسلامي أقرب إلى آلية الحكم قبل أكثر من ألف سنة، وبعيداً عن الرؤية العصرية التي يكون للإنسان والزمان والثقافة أثر فيها.
التعليقات