على الرغم من أن مفهوم الإصلاح يشغل حيزاً واسعاً في المعاجم والموسوعات الأجنبية، لكن يجب الاعتراف بأن هذا المفهوم يشغل حيزاً أيضاً في التراث الإسلامي، يرجع إلى بداية الإسلام عندما اختصر النبي محمد جوهر رسالته بقوله: إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق. والتتميم هنا، يشير صراحة إلى نقص يقتضي ترميماً أو إصلاحاً يشمل الذات البدوية على نحو شامل. ومنذ ذلك التاريخ ndash; أعني ظهور الإسلام - أصبح هذا الدين الجديد يشكل منظوراً إصلاحياً لكل الحركات الإسلامية في العالم العربي.
ومع أن الإصلاح أوسع من أن يختزل في الإسلام وحده، لكن يلزم أن نقول بأنه الحدث الأهم والمرجعية الكبرى للفكر الإصلاحي عبر مختلف العصور. وفي ظني، أن هذا الاختزال ساهم بشكل كبير في إعاقة تكوين منظورات أخرى للإصلاح في العالم العربي. ويمكن القول، إن بعض هذه المشاريع إنما هي (إفساد) وليست إصلاحاً، وهي المسؤولة عن تأسيس فهم اجتماعي مشوّه ومشوّش ومغلوط للإصلاح. ومن المؤسف، أن هذه المشاريع (الإصلاحية) كانت تختبئ إما خلف واقية مقدسة وهي الإسلام إطاراً للفهم والتأسيس والمراجعة والتفسير والانتقاد والمقارنة، وإما خلف واقية اجتماعية وهي التخلف المتفشي في صفوف المجتمع العربي منذ قرون، إذ يؤسس الفكر الإصلاحي منظوراته لا على أساس ما يجب أن يكون بل المحافظة على ما أنجزه العرف الاجتماعي المؤسور بقيود دينية قوية. ومن هنا فقد أصبح مفهوم الإصلاح نفسه، يدور في فلك إشكالية تحتاج إلى إصلاح.
ومما يؤسف له أيضاًً، أن يتضمن مفهوم الإصلاح بالصيغة المتداولة في الفكر العربي طرداً منتظماً لدلالة الإصلاح غير الديني، حتى أن حركات الإصلاح غير الدينية التي ظهرت في العالم العربي منذ القرن التاسع عشر نُظِرَ إليها على أنها حركات هدامة غايتها تدمير الهوية الإسلامية للمجتمع العربي. وأفضى هذا إلى فرز نوعين من المفاهيم المتصارعة: الأولى ذات مضمون معاصر، ومرجعية غربية، هدفها إيجاد رؤية أوسع من الرؤية الدينية. الثانية، ذات مضمون سلفي، ومرجعية إسلامية، هدفها إعادة إحياء وبعث مفاهيم الإسلام التي غيبتها الدولة الحديثة ذات الارتباط بالغرب.
هذه التوطئة، أراها مهمة في تصفح كتاب جدير بالقراءة صدر هذا العام في دمشق للباحث العراقي الدكتور رسول محمد رسول، حمل عنواناً رئيساً: نقد العقل الإصلاحي، وعنواناً فرعياً: قراءة في جدلية الفكر العراقي الحديث. ومؤلف الكتاب، باحث جاد مزوّد بالعدّة النظرية الكافية لمعالجة موضوعة نقد العقل الإصلاحي، فهو حائز على شهادتي الماجستير والدكتوراه في موضوعين يدوران في فلك الفكر النقدي. في العام 1994 كتب أطروحة جامعية عن: إشكالية المعرفة في فلسفة كانط، وفي العام 1997 أنجز أطروحة الدكتوراه عن: الحضور والتمركز في الفلسفة الألمانية الحديثة ـ القرن التاسع عشر. وإذا كانت الفلسفة الألمانية عموماً تنطوي على إرث نقدي كبير، فإن كانط هو أضخم عقلية نقدية أنتجها العصر الحديث. وانشغال الدكتور رسول بهذين الموضوعين من الناحية النظرية، جعله أقرب إلى فهم طبيعة الممارسة النقدية منهجياً. ومنذ معرفتي به في النصف الثاني من الثمانينيات حنى الآن، فإن رسول محمد رسول لا يكلّ ولا يخجل من السؤال عن الأفكار والنظريات الجديدة في حقول الفلسفة والأدب والتاريخ. وعرفته دائم البحث عن منافذ للنشر للتعريف بنفسه وبأفكاره، وله مراسلات كثيرة مع كتّاب ومفكرين عرب من المغرب إلى المشرق، بغية الظفر بجواب شافٍ لتساؤلاته الفكرية التي كانت لنا حوارات مشتركة حولها في مرحلة من مراحل علاقتنا. ومنذ بداية الألفية الثالثة، بعد تزايد نشاط الحركات الإسلامية وظهور التصادم السياسي بينها وبين الغرب، لَحَظْتَهُ ذا اهتمام بالعلاقة بين الإسلام والغرب في النواحي الفكرية والسياسية. وهكذا يمكن القول إن المؤلف، استثمر عدّته النظرية الأكاديمية، ومعرفته بخبايا التاريخ الفكري العربي، في أن يستجمع مادة جيدة عن الفكر الإصلاحي في العراق الذي تعرّض إلى إهمال، وتشويه أحياناً.
اتجه الكتاب إلى الكشف عن التعسف الذي مورس بحقّ الفكر العراقي الحديث، من دون الغوص في تفكيك بنية ذلك التعسف الذي مازال يزداد تمحوراً حول ذاته نتيجة لعوامل سياسية ومذهبية في المقام الأول. كل النزعات الفكرية التي ظهرت في العالم العربي سواء أكانت أصيلة أو زائفة، رافقها نوع من الترويج والتضخيم والتلميع الإعلامي، بيد أن الثقافة العراقية عموماً وقعت ضحية الإعلام العراقي الذي استحوذت عليه الدولة بوقاً سياسياً، وضحية الإعلام العربي الذي نادراً ما كان يقترب من الفكر العراقي بسبب الخصومات السياسية للقادة العراقيين مع المحيط العربي وبسبب مضامينه ذات التكوينات العرقية والمذهبية والأيديولوجية المختلفة، ولاشك في أنها مضامين محظورة ولاسيما المضامين العرقية والمذهبية في ظل أنظمة سياسية قامعة للعرق والمذهب في جميع البلدان العربية. هذا في ظني، عامل مهم من عوامل التعسف الذي مورس بحق الفكر العراقي. والكتاب خاض في تفاصيل الفكر الإصلاحي في العراق، على النحو الذي يظهر خصوصية موضوعاته ومشكلاته المعرفية وطريقته في النظر إلى الواقع السياسي والثقافي والديني.
مارس الباحث نقداً للكتابات التي أرّخت وحللت الفكر الإصلاحي ودرست رجالاته، ولاسيما أحمد أمين الذي أنجز كتاباً عن: زعماء الإصلاح في العصر الحديث. ومع أن أحمد أمين كان قريباً من مناخ الفكر العراقي الحديث، وزار العراق واطّلع على الحركة الفكرية والثقافية هناك، لكنه أهمل الحديث عن الحركة الإصلاحية في العراق، سواء الدينية منها أو غير الدينية. وكتاب الدكتور رسول يحاول أن يعالج الطريقة التي أهمل فيها أحمد أمين وغيره من الباحثين والمؤرخين دراسة الفكر الإصلاحي في العراق. لقد كان الحديث عن الدستور من قبل محمد حسين النائيني ( 1855-1936) الذي سمّي: المشروطة، عملاً في غاية الأهمية لأنه ناقش بوقت مبكر إشكالية الحكم وشرعيته الدستورية والشعبية. وهذا يعني، ظهور حاجة ماسة إلى إصلاح نظام الحكم على وفق مقتضيات عصرية في مقدمتها المرجعية الدستورية. وعلى الرغم من أن ما اصطلح عليه: الإصلاح الديني، يعدّ في ظني انكفاءة إلى الوراء؛ لأن هذا الخطاب الإصلاحي لم يقرأ الواقع قراءة دقيقة، إنما أراد أن يعالج إخفاقه في صوغ نظرية إصلاحية منتزعة من الواقع بالهرب نحو التراث الديني ومن ثم استعارة نظرية جاهزة، لكن مع ذلك أقول إن هذا الفكر على الرغم من انكفائيته استطاع ان يحرّك الحياة الفكرية للبحث عن مخرج للمشكلات الواقعية في السياسة والاقتصاد والعلم والتربية والمجتمع والثقافة. وكانت مدينة النجف واحدة من المدن الزاخرة بالمتناقضات بين خطاب ديني محافظ تقوده الحوزة العلمية، وخطاب ديني آخر يدعو إلى التحديث ولاسيما في مناهج التعليم والدعوة إلى الأخذ بأسباب العلم المعاصر ولكن بطريقة اجتزائية ويقود هذا الخطاب جماعة منتدى النشر وفي مقدمتهم الشيخ المظفّر، ثم هبة الدين الشهرستاني صاحب مجلة (العلم) التي اتجهت إلى عقد علاقة بين الدين والعلم العقلاني. وبجوار هذا الجوّ في هذه المدينة الدينية، كان هناك تيار اجتماعي يقوده سياسيو المدينة أقرب إلى طبيعة الحياة العصرية في الثقافة (الجواهري) والسياسة (صالح جبر) والعلم(الشهرستاني). ووجود قاعدة جماهيرية للحزب الشيوعي، والأحزاب القومية، والأحزاب الليبرالية الأخرى. في مقابل هذا هناك تقدم في التجارة العصرية وتوفير السلع الاستهلاكية المعاصرة، وتحديث طرز العمارة النجفية وظهور الأحياء الحديثة في أطراف النجف.
وعلى الرغم من أن الكتاب لا يمضي قدماً في تقليب أوراق الحركة الإصلاحية خارج إطار الدين، لكن يجب الاعتراف بأنه نجح في تسليط الضوء على المشكلات الحقيقية التي تعترض الفكر الإصلاحي أو التحديث عموماً سواء أكان ذلك تحت غطاء الدين أو أي غطاء وضعيّ آخر. ومن الناحية المنهجية، اختار المؤلف أن ينظر إلى موضوعه من ثلاث زوايا: الزاوية النظرية التي عالج فيها مفهوم الإصلاح وما يقترن به من مفاهيم فرعية أو لصيقة، وزاوية تحليلية نقدية ndash; وإن كان توفيقياً أحياناً- مارس خلالها نقداً لطبيعة الخطاب الإصلاحي، وزاوية تطبيقية اختار فيها ثلاثة نماذج إصلاحية في العراق توزعت ما بين الإصلاح الديني ( الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والسيد محمد باقر الصدر، والشيخ عبد العزيز البدري) والإصلاح الاجتماعي (علي الوردي).
ينطوي كتاب الدكتور رسول، على أهمية توليفية تضع القارئ أمام منافذ الخطاب الإصلاحي التي تبناها العنوان الرئيس (نقد العقل الإصلاحي). وفي زحمة هذا التوليف والعرض الفكري الذي يقترب منهجياً من المزاولة التاريخية لا المزاولة النقدية، ينزلق الكاتب أحياناً إلى تلقي الأفكار الإصلاحية في ذلك الخطاب على أنها مسلّمات من دون أن يمارس عليها نقداً جذرياً من منظور تاريخي يقارن بين طوباوية الفكر الإصلاحي والواقع الاجتماعي والسياسي والعلمي والتربوي والفكري. أنا أتفق تماماً مع الباحث على أن الدراسة التاريخية تنشغل بالسرد والتوصيف، لكن عنوان الكتاب ومقدمته حاولتا أن ترسما نهجاً نقدياً لكلا الخطابين: الخطاب الإصلاحي، والخطاب الميتاإصلاحي. أي نقد فكر الإصلاح، ونقد الدراسات التي تناولت الفكر الإصلاحي. وفي ظني أن هذا الفكر لم تنطو أطروحاته على رؤية تحليلية للواقع، إنما كانت مجرد تهويمات طوباوية، لم تسفر عن نتائج عملية يمكن توظيفها في إيجاد مخرج للمشكلات الحقيقية التي تضرب البنى الأساسية للمجتمع العربي. وبسبب تحول الإصلاح إلى عقيدة، وارتباطه بالأفكار، فقد غاب عنه التخطيط المركزي المستقل الذي تشترك فيه مؤسسات ذات صبغة مدنية، تقدِّم أفكاراً عملية لإصلاح حال المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ونظراً لهذا الارتباط، فقد اختلفت هذه الحركة في البلاد العربية، عن نظيراتها في العالم الغربي، ففي الوقت الذي كانت فيه تلك الحركة تنحو صوب إصلاح ذاتها، كانت هذه الحركة عندنا تنحو صوب إصلاح ( نظام الحكم) وإصلاح ( العلاقة مع الغرب حضارياً وثقافياً) وإصلاح (التجربة الإسلامية للمجتمع). وكانت حركة الإصلاح الديني لدى الأوروبيين قد تمخضت عن تشخيص فساد كبير في التجربة الدينية، اشترك في الكشف عنه عدد من رجال الدين المتنورين من أمثال مارتن لوثر، وأفضى إلى فصل الدين عن الدولة، ونشوء نظام حكم مستقر، ذي خصائص واضحة ومقبولة لدى عامة الناس، يفضلونها على نظام الحكم الديني أو ما كان يعرف بسلطة الكنيسة.
أعتقد أن هذا يمكن أن يكون مدخلاً مهماً لنقد الفكر الإصلاحي الإسلامي عموماً، وهو ما يقتضي دراسة موسعة تعمل على الخطاب نفسه من الداخل، بمعنى تفكيك الإصلاح باعتباره بنية دينية محضة. وعلى الرغم من ذلك، فإن الباحث استثمر ذخيرته النظرية لمعالجة موضوعة الإصلاح معالجة تفتح آفاقاً لمعالجات أخرى، وبثّ الباحث خلال ذلك موقفه من الطريقة التي درست فيها هذه الموضوعة، ومارس نقداً شفيفاً عبر مقدمته النظرية التي حدّد فيها دلالة المفاهيم الإصلاحية، وعبر مزاولته التي جمعت بين الممارسة النقدية والمعالجة التاريخية.
ومن بعد تلك المقدمة النظرية، انتقل الكاتب إلى التوقف أولاً أمام الدراسات التي تناولت الخطاب الإصلاحي، ثم انتقل إلى دراسة الخطاب الإصلاحي لدى الدكتور علي الوردي، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والسيد محمد باقر الصدر، والشيخ عبد العزيز البدري. ويلاحظ القارئ، أن جهد الباحث انصب بشكل رئيس على الفكر الإصلاحي الديني وكسر هذه القاعدة مرة واحدة عندما ادرج فكر عالم الاجتماع العراقي علي الوردي ضمن الفكر الإصلاحي. وعبر هذه الفصول الأربعة، نجح الباحث في إبراز طبيعة الخطاب الإصلاحي في العراق، ومزايا اختلافه عن الحركة الإصلاحية في العالم العربي، وأظهر بشكل جليّ الاختلاف الفكري في واحدة من حواضر العالم الإسلامي المقدسة وهي مدينة النجف. ذلك أن الحركة الفكرية في هذه المدينة لا يمكن تنميطها في قالب فكري واحد، وهو توقف عنده الباحث في إشارات متفرقة، ولاسيما في المقارنة بين التيارات المحافظة التي يمثلها السيد كاظم اليزدي في موقفه من قضية المشروطة، أو فكر النائيني الأكثر انفتاحاً على الثقافة المعاصرة والأكثر تفهماً للحاجة إلى الدستور. وينطبق هذا على محاولات المظفر لتحديث مناهج التربية والتعليم، ومحاولة السيد هبة الدين الشهرستاني لنشر الثقافة العلمية من خلال مجلة (العلم) النجفية. ومن ثم التوقف عند خطاب السيد محمد باقر الصدر، الذي يعد من أكثر علماء النجف توقفاً عند الفكر الغربي والعلماني، ومن أكثرهم مقدرة على صوغ النظريات ذات الطابع الإسلامي في الاقتصاد والسياسة والفكر.
ومع أن الإصلاح أوسع من أن يختزل في الإسلام وحده، لكن يلزم أن نقول بأنه الحدث الأهم والمرجعية الكبرى للفكر الإصلاحي عبر مختلف العصور. وفي ظني، أن هذا الاختزال ساهم بشكل كبير في إعاقة تكوين منظورات أخرى للإصلاح في العالم العربي. ويمكن القول، إن بعض هذه المشاريع إنما هي (إفساد) وليست إصلاحاً، وهي المسؤولة عن تأسيس فهم اجتماعي مشوّه ومشوّش ومغلوط للإصلاح. ومن المؤسف، أن هذه المشاريع (الإصلاحية) كانت تختبئ إما خلف واقية مقدسة وهي الإسلام إطاراً للفهم والتأسيس والمراجعة والتفسير والانتقاد والمقارنة، وإما خلف واقية اجتماعية وهي التخلف المتفشي في صفوف المجتمع العربي منذ قرون، إذ يؤسس الفكر الإصلاحي منظوراته لا على أساس ما يجب أن يكون بل المحافظة على ما أنجزه العرف الاجتماعي المؤسور بقيود دينية قوية. ومن هنا فقد أصبح مفهوم الإصلاح نفسه، يدور في فلك إشكالية تحتاج إلى إصلاح.
ومما يؤسف له أيضاًً، أن يتضمن مفهوم الإصلاح بالصيغة المتداولة في الفكر العربي طرداً منتظماً لدلالة الإصلاح غير الديني، حتى أن حركات الإصلاح غير الدينية التي ظهرت في العالم العربي منذ القرن التاسع عشر نُظِرَ إليها على أنها حركات هدامة غايتها تدمير الهوية الإسلامية للمجتمع العربي. وأفضى هذا إلى فرز نوعين من المفاهيم المتصارعة: الأولى ذات مضمون معاصر، ومرجعية غربية، هدفها إيجاد رؤية أوسع من الرؤية الدينية. الثانية، ذات مضمون سلفي، ومرجعية إسلامية، هدفها إعادة إحياء وبعث مفاهيم الإسلام التي غيبتها الدولة الحديثة ذات الارتباط بالغرب.
هذه التوطئة، أراها مهمة في تصفح كتاب جدير بالقراءة صدر هذا العام في دمشق للباحث العراقي الدكتور رسول محمد رسول، حمل عنواناً رئيساً: نقد العقل الإصلاحي، وعنواناً فرعياً: قراءة في جدلية الفكر العراقي الحديث. ومؤلف الكتاب، باحث جاد مزوّد بالعدّة النظرية الكافية لمعالجة موضوعة نقد العقل الإصلاحي، فهو حائز على شهادتي الماجستير والدكتوراه في موضوعين يدوران في فلك الفكر النقدي. في العام 1994 كتب أطروحة جامعية عن: إشكالية المعرفة في فلسفة كانط، وفي العام 1997 أنجز أطروحة الدكتوراه عن: الحضور والتمركز في الفلسفة الألمانية الحديثة ـ القرن التاسع عشر. وإذا كانت الفلسفة الألمانية عموماً تنطوي على إرث نقدي كبير، فإن كانط هو أضخم عقلية نقدية أنتجها العصر الحديث. وانشغال الدكتور رسول بهذين الموضوعين من الناحية النظرية، جعله أقرب إلى فهم طبيعة الممارسة النقدية منهجياً. ومنذ معرفتي به في النصف الثاني من الثمانينيات حنى الآن، فإن رسول محمد رسول لا يكلّ ولا يخجل من السؤال عن الأفكار والنظريات الجديدة في حقول الفلسفة والأدب والتاريخ. وعرفته دائم البحث عن منافذ للنشر للتعريف بنفسه وبأفكاره، وله مراسلات كثيرة مع كتّاب ومفكرين عرب من المغرب إلى المشرق، بغية الظفر بجواب شافٍ لتساؤلاته الفكرية التي كانت لنا حوارات مشتركة حولها في مرحلة من مراحل علاقتنا. ومنذ بداية الألفية الثالثة، بعد تزايد نشاط الحركات الإسلامية وظهور التصادم السياسي بينها وبين الغرب، لَحَظْتَهُ ذا اهتمام بالعلاقة بين الإسلام والغرب في النواحي الفكرية والسياسية. وهكذا يمكن القول إن المؤلف، استثمر عدّته النظرية الأكاديمية، ومعرفته بخبايا التاريخ الفكري العربي، في أن يستجمع مادة جيدة عن الفكر الإصلاحي في العراق الذي تعرّض إلى إهمال، وتشويه أحياناً.
اتجه الكتاب إلى الكشف عن التعسف الذي مورس بحقّ الفكر العراقي الحديث، من دون الغوص في تفكيك بنية ذلك التعسف الذي مازال يزداد تمحوراً حول ذاته نتيجة لعوامل سياسية ومذهبية في المقام الأول. كل النزعات الفكرية التي ظهرت في العالم العربي سواء أكانت أصيلة أو زائفة، رافقها نوع من الترويج والتضخيم والتلميع الإعلامي، بيد أن الثقافة العراقية عموماً وقعت ضحية الإعلام العراقي الذي استحوذت عليه الدولة بوقاً سياسياً، وضحية الإعلام العربي الذي نادراً ما كان يقترب من الفكر العراقي بسبب الخصومات السياسية للقادة العراقيين مع المحيط العربي وبسبب مضامينه ذات التكوينات العرقية والمذهبية والأيديولوجية المختلفة، ولاشك في أنها مضامين محظورة ولاسيما المضامين العرقية والمذهبية في ظل أنظمة سياسية قامعة للعرق والمذهب في جميع البلدان العربية. هذا في ظني، عامل مهم من عوامل التعسف الذي مورس بحق الفكر العراقي. والكتاب خاض في تفاصيل الفكر الإصلاحي في العراق، على النحو الذي يظهر خصوصية موضوعاته ومشكلاته المعرفية وطريقته في النظر إلى الواقع السياسي والثقافي والديني.
مارس الباحث نقداً للكتابات التي أرّخت وحللت الفكر الإصلاحي ودرست رجالاته، ولاسيما أحمد أمين الذي أنجز كتاباً عن: زعماء الإصلاح في العصر الحديث. ومع أن أحمد أمين كان قريباً من مناخ الفكر العراقي الحديث، وزار العراق واطّلع على الحركة الفكرية والثقافية هناك، لكنه أهمل الحديث عن الحركة الإصلاحية في العراق، سواء الدينية منها أو غير الدينية. وكتاب الدكتور رسول يحاول أن يعالج الطريقة التي أهمل فيها أحمد أمين وغيره من الباحثين والمؤرخين دراسة الفكر الإصلاحي في العراق. لقد كان الحديث عن الدستور من قبل محمد حسين النائيني ( 1855-1936) الذي سمّي: المشروطة، عملاً في غاية الأهمية لأنه ناقش بوقت مبكر إشكالية الحكم وشرعيته الدستورية والشعبية. وهذا يعني، ظهور حاجة ماسة إلى إصلاح نظام الحكم على وفق مقتضيات عصرية في مقدمتها المرجعية الدستورية. وعلى الرغم من أن ما اصطلح عليه: الإصلاح الديني، يعدّ في ظني انكفاءة إلى الوراء؛ لأن هذا الخطاب الإصلاحي لم يقرأ الواقع قراءة دقيقة، إنما أراد أن يعالج إخفاقه في صوغ نظرية إصلاحية منتزعة من الواقع بالهرب نحو التراث الديني ومن ثم استعارة نظرية جاهزة، لكن مع ذلك أقول إن هذا الفكر على الرغم من انكفائيته استطاع ان يحرّك الحياة الفكرية للبحث عن مخرج للمشكلات الواقعية في السياسة والاقتصاد والعلم والتربية والمجتمع والثقافة. وكانت مدينة النجف واحدة من المدن الزاخرة بالمتناقضات بين خطاب ديني محافظ تقوده الحوزة العلمية، وخطاب ديني آخر يدعو إلى التحديث ولاسيما في مناهج التعليم والدعوة إلى الأخذ بأسباب العلم المعاصر ولكن بطريقة اجتزائية ويقود هذا الخطاب جماعة منتدى النشر وفي مقدمتهم الشيخ المظفّر، ثم هبة الدين الشهرستاني صاحب مجلة (العلم) التي اتجهت إلى عقد علاقة بين الدين والعلم العقلاني. وبجوار هذا الجوّ في هذه المدينة الدينية، كان هناك تيار اجتماعي يقوده سياسيو المدينة أقرب إلى طبيعة الحياة العصرية في الثقافة (الجواهري) والسياسة (صالح جبر) والعلم(الشهرستاني). ووجود قاعدة جماهيرية للحزب الشيوعي، والأحزاب القومية، والأحزاب الليبرالية الأخرى. في مقابل هذا هناك تقدم في التجارة العصرية وتوفير السلع الاستهلاكية المعاصرة، وتحديث طرز العمارة النجفية وظهور الأحياء الحديثة في أطراف النجف.
وعلى الرغم من أن الكتاب لا يمضي قدماً في تقليب أوراق الحركة الإصلاحية خارج إطار الدين، لكن يجب الاعتراف بأنه نجح في تسليط الضوء على المشكلات الحقيقية التي تعترض الفكر الإصلاحي أو التحديث عموماً سواء أكان ذلك تحت غطاء الدين أو أي غطاء وضعيّ آخر. ومن الناحية المنهجية، اختار المؤلف أن ينظر إلى موضوعه من ثلاث زوايا: الزاوية النظرية التي عالج فيها مفهوم الإصلاح وما يقترن به من مفاهيم فرعية أو لصيقة، وزاوية تحليلية نقدية ndash; وإن كان توفيقياً أحياناً- مارس خلالها نقداً لطبيعة الخطاب الإصلاحي، وزاوية تطبيقية اختار فيها ثلاثة نماذج إصلاحية في العراق توزعت ما بين الإصلاح الديني ( الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والسيد محمد باقر الصدر، والشيخ عبد العزيز البدري) والإصلاح الاجتماعي (علي الوردي).
ينطوي كتاب الدكتور رسول، على أهمية توليفية تضع القارئ أمام منافذ الخطاب الإصلاحي التي تبناها العنوان الرئيس (نقد العقل الإصلاحي). وفي زحمة هذا التوليف والعرض الفكري الذي يقترب منهجياً من المزاولة التاريخية لا المزاولة النقدية، ينزلق الكاتب أحياناً إلى تلقي الأفكار الإصلاحية في ذلك الخطاب على أنها مسلّمات من دون أن يمارس عليها نقداً جذرياً من منظور تاريخي يقارن بين طوباوية الفكر الإصلاحي والواقع الاجتماعي والسياسي والعلمي والتربوي والفكري. أنا أتفق تماماً مع الباحث على أن الدراسة التاريخية تنشغل بالسرد والتوصيف، لكن عنوان الكتاب ومقدمته حاولتا أن ترسما نهجاً نقدياً لكلا الخطابين: الخطاب الإصلاحي، والخطاب الميتاإصلاحي. أي نقد فكر الإصلاح، ونقد الدراسات التي تناولت الفكر الإصلاحي. وفي ظني أن هذا الفكر لم تنطو أطروحاته على رؤية تحليلية للواقع، إنما كانت مجرد تهويمات طوباوية، لم تسفر عن نتائج عملية يمكن توظيفها في إيجاد مخرج للمشكلات الحقيقية التي تضرب البنى الأساسية للمجتمع العربي. وبسبب تحول الإصلاح إلى عقيدة، وارتباطه بالأفكار، فقد غاب عنه التخطيط المركزي المستقل الذي تشترك فيه مؤسسات ذات صبغة مدنية، تقدِّم أفكاراً عملية لإصلاح حال المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ونظراً لهذا الارتباط، فقد اختلفت هذه الحركة في البلاد العربية، عن نظيراتها في العالم الغربي، ففي الوقت الذي كانت فيه تلك الحركة تنحو صوب إصلاح ذاتها، كانت هذه الحركة عندنا تنحو صوب إصلاح ( نظام الحكم) وإصلاح ( العلاقة مع الغرب حضارياً وثقافياً) وإصلاح (التجربة الإسلامية للمجتمع). وكانت حركة الإصلاح الديني لدى الأوروبيين قد تمخضت عن تشخيص فساد كبير في التجربة الدينية، اشترك في الكشف عنه عدد من رجال الدين المتنورين من أمثال مارتن لوثر، وأفضى إلى فصل الدين عن الدولة، ونشوء نظام حكم مستقر، ذي خصائص واضحة ومقبولة لدى عامة الناس، يفضلونها على نظام الحكم الديني أو ما كان يعرف بسلطة الكنيسة.
أعتقد أن هذا يمكن أن يكون مدخلاً مهماً لنقد الفكر الإصلاحي الإسلامي عموماً، وهو ما يقتضي دراسة موسعة تعمل على الخطاب نفسه من الداخل، بمعنى تفكيك الإصلاح باعتباره بنية دينية محضة. وعلى الرغم من ذلك، فإن الباحث استثمر ذخيرته النظرية لمعالجة موضوعة الإصلاح معالجة تفتح آفاقاً لمعالجات أخرى، وبثّ الباحث خلال ذلك موقفه من الطريقة التي درست فيها هذه الموضوعة، ومارس نقداً شفيفاً عبر مقدمته النظرية التي حدّد فيها دلالة المفاهيم الإصلاحية، وعبر مزاولته التي جمعت بين الممارسة النقدية والمعالجة التاريخية.
ومن بعد تلك المقدمة النظرية، انتقل الكاتب إلى التوقف أولاً أمام الدراسات التي تناولت الخطاب الإصلاحي، ثم انتقل إلى دراسة الخطاب الإصلاحي لدى الدكتور علي الوردي، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والسيد محمد باقر الصدر، والشيخ عبد العزيز البدري. ويلاحظ القارئ، أن جهد الباحث انصب بشكل رئيس على الفكر الإصلاحي الديني وكسر هذه القاعدة مرة واحدة عندما ادرج فكر عالم الاجتماع العراقي علي الوردي ضمن الفكر الإصلاحي. وعبر هذه الفصول الأربعة، نجح الباحث في إبراز طبيعة الخطاب الإصلاحي في العراق، ومزايا اختلافه عن الحركة الإصلاحية في العالم العربي، وأظهر بشكل جليّ الاختلاف الفكري في واحدة من حواضر العالم الإسلامي المقدسة وهي مدينة النجف. ذلك أن الحركة الفكرية في هذه المدينة لا يمكن تنميطها في قالب فكري واحد، وهو توقف عنده الباحث في إشارات متفرقة، ولاسيما في المقارنة بين التيارات المحافظة التي يمثلها السيد كاظم اليزدي في موقفه من قضية المشروطة، أو فكر النائيني الأكثر انفتاحاً على الثقافة المعاصرة والأكثر تفهماً للحاجة إلى الدستور. وينطبق هذا على محاولات المظفر لتحديث مناهج التربية والتعليم، ومحاولة السيد هبة الدين الشهرستاني لنشر الثقافة العلمية من خلال مجلة (العلم) النجفية. ومن ثم التوقف عند خطاب السيد محمد باقر الصدر، الذي يعد من أكثر علماء النجف توقفاً عند الفكر الغربي والعلماني، ومن أكثرهم مقدرة على صوغ النظريات ذات الطابع الإسلامي في الاقتصاد والسياسة والفكر.
التعليقات