ثلاث أيديولوجيات مدعومة بثلاث استراتيجيات عسكرية، تتحرك نحو الشرق الأوسط لتحقيق أهداف سياسية وأمنية وعقائدية. وتنضاف إلى هذه القوى الرئيسة قوى أخرى، يمكن توصيفها بأنها قوى ثانوية مختلفة الأهداف، وغير متورطة في الصراع على نحو مباشر. بيد أن الغريب في هذا الصراع، هو غياب الطرف الذي يفترض أن يكون قوة لا يستهان بها في هذا الصراع؛ عنيتُ العالم العربي.
قوة واحدة فقط، شهدت صعوداً مفاجئاً منذ تسعينيات القرن الماضي هي قوة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ورافقت هذا الصعود العسكري، قوة من نمط آخر، إنها أيديولوجية سياسية مغَلّفة بفكر مذهبي تسعى إيران من ورائها إلى استثمار الهياج الشعبي الشيعي في العالم العربي عموماً لتمرير أجندة سياسية واستراتيجية في المنطقة. وأحياناً امتدّ التحالف ليشمل قوى غير شيعية، بل سنية أصولية كما هو الحال في التحالف ما بين إيران وحماس، وهو خرق يبرهن على نجاح السياسة الإيرانية في تحقيق أهداف استراتجية. أو في تحالفها مع نظام قومي علماني النزعة (سورية) هذا التحالف الذي أقلق بعض الدول العربية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ومصر والأردن، فشهدت العلاقة بين هذه الدول تبادل الزيارات والحوارات السرية لمواجهة هذا التحالف. وقد انعكس هذا على صراع القوى السياسية في لبنان، فبدلاً من المساهمة في تقارب وجهات النظر عمل على زيادة شقة الخلاف.
ومع مشروعية الصحوة الشيعية، إذ عانى ويعاني الشيعة في العالم العربي من اضطهاد وقمع مستمرين، وإبعاد منظم عن الاقتراب من السلطة ومراكز القرار والمناصب الحساسة في الدولة، وتجنيد المتطرفين لمعاقبتهم فكرياً، وأحياناً غض النظر عن تصفيتهم جسدياً، والمساعدة على تشكيل رأي عام ينظر إليهم نظرة دونية، تضعهم في خانة: الخونة، الكفار، غير نقيّ العِرْق، وما شابه ذلك من تلفيقات لا تصمد أمام أي تحليل أو رؤية موضوعية أو علمية أو تاريخية.
خطورة صعود القوة الإيرانية إذن، متأتية من هذا التمفصل الأيديولوجي العسكري في آن واحد. وهو ما يجعل الدول العربية تخشى إيران أكثر من خشيتها من القوة الأمريكية أو الإسرائيلية. العرب يخافون من الفكر أكثر من خوفهم من السلاح، إنهم أمة تستهلك وتعتاش على اجترار الأفكار الخرافية وغير العقلانية. ومن هنا، فإن أي منظومة فكرية جديدة أو مستحدثة تُحدِث خلخلة للمنطق الزائف الذي شيدت عليه كثير من الأعراف والقيم والاعتقادات. الثقافتان المذهبيتان السنية والشيعية، تنهلان من منبع خرافي ولاعقلاني واحد، ولكنهما تتصادمان على نحو دائم بسبب تعارض الأهداف السياسية وعلى وجه الخصوص تلك التي تتعلق باقتسام السلطة أو الحيازة عليها والانفراد بها. تاريخياً، وقع الشيعة ضحية انفراد السنة بالسلطة والاستيلاء على الثروات، لكن هذا لا يعني أن الشيعة لم يصلوا مطلقاً إلى السلطة، ولم يمارسوا العنف كما مارسه السنة حيالهم.
إذن كيف يمكن أن نفهم النظرة العربية إلى تنامي القوة العسكرية الإيرانية؟. لا يملك العرب أي تحليل واقعي وعلمي لمعرفة تفاصيل البرنامج العسكري الإيراني، ولا أية قاعدة بيانات دقيقة هم في أمسّ الحاجة إليها، ويبدو أن ذلك لا يعنيهم لأنهم ينظرون إلى القوة الإيرانية نظرة ملتبسة، إذ تتداخل الرؤية المذهبية بالرؤيتين السياسية والعسكرية. وبسبب هذا التشرذم الاجتماعي العربي؛ أعني تهميش واضطهاد الأقليات في العالم العربي، فإن هذا الوضع يؤدي إلى تكوين كتل اجتماعية تتحالف ضرورة مع قوى أخرى خارجية تتلاقى مصالحهما في نقطة واحدة. وتعدّ إيران من بين هذه القوى بالنسبة للشيعة في لبنان والعراق واليمن والبحرين ومناطق أخرى، على حين يتخذ سنة لبنان المملكة العربية السعودية مرجعية سياسية ومذهبية، ومن هنا فإن القرار في لبنان لم يكن قراراً وطنياً خالصاً من المرجعيات الخارجية. وفي مقابل ذلك فإن أقباط مصر، ومسيحي لبنان يستجيرون بالولايات المتحدة لحمايتهم من مشاريع الإبادة والتهميش.
إن الاختراق الإيراني للعالم العربي يتمثل تحديداً في النقطة التي أشرنا إليها سلفاً، إذ لا تستطيع أية دولة عربية قامعة للعرب الشيعة من منع هذا التحالف المذهبي أو السياسي ما بين إيران ndash; ذات المصالح السياسية ndash; والعرب الشيعة المهمشين والمضطهدين. القراءة التاريخية إذن، لابد أن تنطلق من فهم هذه المسألة على نحو دقيق؛ لأن ذلك سوف يسمح بمعالجتها معالجة جذرية. بمعنى أن العرب يجب أن يوقفوا تدخل إيران في شؤون بلدانهم لا عن طريق طلب ذلك من إيران بالتودد أو الصفقات السياسية او التجارية، إنما من خلال إيجاد حلول مناسبة وفورية لمعضلة الشيعة في العالم العربي، وإلغاء النظرة إليهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، فهذا يمنحهم ثقة أكبر ويجبرهم شخصياً على منع أي محاولة للتدخل الإيراني؛ بمعنى إلغاء الحجة والمشروعية عن ذلك التدخل. وينطبق هذا على جميع الأقليات الأخرى في العالم العربي، فاضطهادها وتهميشها هو السبب الرئيس في تدخل القوى الخارجية.
ومن ناحية أخرى، لا يمكن قراءة القوة الأمريكية بنفس الطريقة التي تقرأ بها القوة الإيرانية؛ بسبب اختلاف المنظور والمصلحة والاستراتيجية السياسية، فالولايات المتحدة تسوّغ تدخلها بسعيها لإصلاح نظام الحكم وتحقيق الديمقراطية لاكتشافها وجود علاقة بين التطرف الإسلامي وانعدام الممارسة الديمقراطية. وبسبب ذلك، حدث شرخ في علاقة الأنظمة الدكتاتورية بالولايات المتحدة بعد رفع سقف مطاليبها إلى ضرورة تحقيق الديمقراطية حتى لو اقتضى ذلك استعمال القوة بنفس الطريقة التي استعملت فيها القوة في العراق. وهنا يجب أن نفطن لماذا تدعم هذه الحكومات الفصائل المتطرفة أو المنشقة داخل العراق؟. وبالرغم من الاختلاف المذهبي والأيديولوجي فإن الممول الرئيس للعمليات الوحشية التي جرت في العراق باسم المقاومة هو هذه الأنظمة الدكتاتورية بغية إفساد التجربة التي اتخذتها أمريكا أنموذجاً للتغيير.
وتجدر الإشارة، إلى أن القوتين الإيرانية والأمريكية المتجهتين إلى المنطقة العربية عسكرياً واقتصادياً وأيديولوجياً، لم تكونا على وفاق سياسيّ، إذ ثمة صراع كبير بين القوتين تحت يافطة امتلاك إيران أسلحة استراتيجية والسعي إلى تطوير قدراتها النووية، وفي الحقيقة أن الصراع أعمق من ذلك. فالولايات المتحدة الأمريكية تعتقد أن الذهنية الأيديولوجية التي بني عليها نظام الحكم في إيران تتعارض تماماً مع المصالح الأمريكية في مفهومها للامن القومي ومصالحها الاقتصادية والسياسية، ناهيك عن الموقف العدائي الذي تتبناه إيران حيال أمريكا وإسرائيل. والغريب أن العرب لم يستفيدوا من الصراع الإيراني الأمريكي، بل يمكن اعتبارهم أول الخاسرين إذ اتخذت البلاد العربية مكاناً لخوض ذلك الصراع الذي يجري بين العاصمتين: طهران وواشنطن.
وفي مقابل هذا، فإن إسرائيل تخوض من الناحية الفعلية صراعاً ميدانياً مع الحركات الإسلامية في فلسطين وفي مقدمتها حماس والجهاد الإسلامي وبعض الفصائل الفلسطينية التي مازالت تؤمن بالحل العسكري. وتخوض كذلك صراعاً هو الأخطر من وجهة نظر الإسرائليين، وهو الصراع بينها وبين حزب الله الذي حقق إنجازات عسكرية كبرى لم تحققها الدول العربية في حربها مع الدولة العبرية. وتنظر إسرائيل إلى حزب الله نظرة مزدوجة؛ أي إلى إمكانياته كحزب مقاوم وإلى الطريقة التي تغذي فيها إيران هذا الصراع. وتنظر إسرائيل إلى التحالف الإيراني السوري بالإضافة إلى حزب الله وحماس على أنه التحالف الأخطر الذي يهدد فرضية أمنها القومي. ومن هنا، فإن ثمة استنفاراً لأجهزة الموساد لجمع البيانات عن هذا التحالف، الذي لم يرتق بعد إلى الحرب الشاملة. ومن الناحية الاستراتيجية، لا تخشى إسرائيل من أية قوة عربية سواء أكانت فردية أو مجتمعة، لأن المجتمع العربي لم يرتق بعد إلى لحظة التحرر من الدكتاتورية وحكم نفسه بنفسه. وهي اللحظة التي تدقّ ناقوس الخطر في الجبهة الإسرائيلية. لكن إسرائيل تراقب بعين الريبة تطور القدرات العسكرية الإيرانية، تلك القدرات التي تعدت حدودها من خلال مسألتين: السعي إلى امتلاك السلاح النووي، والموقف العدائي الذي كشفت عنه إيران وطبقته على نحو عملي من خلال حزب الله وحماس. ومن هنا فإن التحسّب الإسرائيلي الآن، يتجه إلى إيجاد الوسائل للوقوف بوجه القدرة الإيرانية.
لاشك في أن اختلال موازين القوى في الشرق الأوسط، يعمل على عدم استقرار الأوضاع هناك بشكل مستمر. ويعدّ عدم الاستقرار هذا نزيفاً دائماً للثروات: البشرية والاقتصادية والثقافية. وتتأثر البنية الاجتماعية في العالم العربي على نحو مستمر بالتقلبات والانقلابات في الأوضاع السياسية، فلا يترك عدم استقرار تلك البنية فرصة لإنجاز مشاريع تنموية قادرة على النهوض بالواقع الاجتماعي. الوضع السياسيّ في احتدام مستمر، وانهيار النظم الاجتماعية مستمر كذلك في التعليم والصحة والثقافة والخدمات والرعاية الاجتماعية وقوانين العمل والتجارة والاقتصاد ورعاية الطفولة ومعالجة القوانين والأعراف المتخلفة التي تعيق استثمار طاقات المرأة. هذا العاملان ndash; النزاعات السياسية، وانهيار النظم الاجتماعية- يقومان بوظيفة تقويض وتقزيم القوة العربية بمواجهة القوة المتنامية لدى الدول التي لها مصلحة في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من وجود الجيوش الجرارة في العالم العربي إلا أنها لا قيمة في ميزان القوى الاستراتيجية، كما لا قيمة للثروات الاقتصادية في هذا العالم. غياب الرؤية العلمية والعملية والمستقبلية والليبرالية، يجعل القوة العسكرية والقوة الاقتصادية لا أهمية لها في نظرية الأمن القومي العربي.
[email protected]
قوة واحدة فقط، شهدت صعوداً مفاجئاً منذ تسعينيات القرن الماضي هي قوة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ورافقت هذا الصعود العسكري، قوة من نمط آخر، إنها أيديولوجية سياسية مغَلّفة بفكر مذهبي تسعى إيران من ورائها إلى استثمار الهياج الشعبي الشيعي في العالم العربي عموماً لتمرير أجندة سياسية واستراتيجية في المنطقة. وأحياناً امتدّ التحالف ليشمل قوى غير شيعية، بل سنية أصولية كما هو الحال في التحالف ما بين إيران وحماس، وهو خرق يبرهن على نجاح السياسة الإيرانية في تحقيق أهداف استراتجية. أو في تحالفها مع نظام قومي علماني النزعة (سورية) هذا التحالف الذي أقلق بعض الدول العربية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ومصر والأردن، فشهدت العلاقة بين هذه الدول تبادل الزيارات والحوارات السرية لمواجهة هذا التحالف. وقد انعكس هذا على صراع القوى السياسية في لبنان، فبدلاً من المساهمة في تقارب وجهات النظر عمل على زيادة شقة الخلاف.
ومع مشروعية الصحوة الشيعية، إذ عانى ويعاني الشيعة في العالم العربي من اضطهاد وقمع مستمرين، وإبعاد منظم عن الاقتراب من السلطة ومراكز القرار والمناصب الحساسة في الدولة، وتجنيد المتطرفين لمعاقبتهم فكرياً، وأحياناً غض النظر عن تصفيتهم جسدياً، والمساعدة على تشكيل رأي عام ينظر إليهم نظرة دونية، تضعهم في خانة: الخونة، الكفار، غير نقيّ العِرْق، وما شابه ذلك من تلفيقات لا تصمد أمام أي تحليل أو رؤية موضوعية أو علمية أو تاريخية.
خطورة صعود القوة الإيرانية إذن، متأتية من هذا التمفصل الأيديولوجي العسكري في آن واحد. وهو ما يجعل الدول العربية تخشى إيران أكثر من خشيتها من القوة الأمريكية أو الإسرائيلية. العرب يخافون من الفكر أكثر من خوفهم من السلاح، إنهم أمة تستهلك وتعتاش على اجترار الأفكار الخرافية وغير العقلانية. ومن هنا، فإن أي منظومة فكرية جديدة أو مستحدثة تُحدِث خلخلة للمنطق الزائف الذي شيدت عليه كثير من الأعراف والقيم والاعتقادات. الثقافتان المذهبيتان السنية والشيعية، تنهلان من منبع خرافي ولاعقلاني واحد، ولكنهما تتصادمان على نحو دائم بسبب تعارض الأهداف السياسية وعلى وجه الخصوص تلك التي تتعلق باقتسام السلطة أو الحيازة عليها والانفراد بها. تاريخياً، وقع الشيعة ضحية انفراد السنة بالسلطة والاستيلاء على الثروات، لكن هذا لا يعني أن الشيعة لم يصلوا مطلقاً إلى السلطة، ولم يمارسوا العنف كما مارسه السنة حيالهم.
إذن كيف يمكن أن نفهم النظرة العربية إلى تنامي القوة العسكرية الإيرانية؟. لا يملك العرب أي تحليل واقعي وعلمي لمعرفة تفاصيل البرنامج العسكري الإيراني، ولا أية قاعدة بيانات دقيقة هم في أمسّ الحاجة إليها، ويبدو أن ذلك لا يعنيهم لأنهم ينظرون إلى القوة الإيرانية نظرة ملتبسة، إذ تتداخل الرؤية المذهبية بالرؤيتين السياسية والعسكرية. وبسبب هذا التشرذم الاجتماعي العربي؛ أعني تهميش واضطهاد الأقليات في العالم العربي، فإن هذا الوضع يؤدي إلى تكوين كتل اجتماعية تتحالف ضرورة مع قوى أخرى خارجية تتلاقى مصالحهما في نقطة واحدة. وتعدّ إيران من بين هذه القوى بالنسبة للشيعة في لبنان والعراق واليمن والبحرين ومناطق أخرى، على حين يتخذ سنة لبنان المملكة العربية السعودية مرجعية سياسية ومذهبية، ومن هنا فإن القرار في لبنان لم يكن قراراً وطنياً خالصاً من المرجعيات الخارجية. وفي مقابل ذلك فإن أقباط مصر، ومسيحي لبنان يستجيرون بالولايات المتحدة لحمايتهم من مشاريع الإبادة والتهميش.
إن الاختراق الإيراني للعالم العربي يتمثل تحديداً في النقطة التي أشرنا إليها سلفاً، إذ لا تستطيع أية دولة عربية قامعة للعرب الشيعة من منع هذا التحالف المذهبي أو السياسي ما بين إيران ndash; ذات المصالح السياسية ndash; والعرب الشيعة المهمشين والمضطهدين. القراءة التاريخية إذن، لابد أن تنطلق من فهم هذه المسألة على نحو دقيق؛ لأن ذلك سوف يسمح بمعالجتها معالجة جذرية. بمعنى أن العرب يجب أن يوقفوا تدخل إيران في شؤون بلدانهم لا عن طريق طلب ذلك من إيران بالتودد أو الصفقات السياسية او التجارية، إنما من خلال إيجاد حلول مناسبة وفورية لمعضلة الشيعة في العالم العربي، وإلغاء النظرة إليهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، فهذا يمنحهم ثقة أكبر ويجبرهم شخصياً على منع أي محاولة للتدخل الإيراني؛ بمعنى إلغاء الحجة والمشروعية عن ذلك التدخل. وينطبق هذا على جميع الأقليات الأخرى في العالم العربي، فاضطهادها وتهميشها هو السبب الرئيس في تدخل القوى الخارجية.
ومن ناحية أخرى، لا يمكن قراءة القوة الأمريكية بنفس الطريقة التي تقرأ بها القوة الإيرانية؛ بسبب اختلاف المنظور والمصلحة والاستراتيجية السياسية، فالولايات المتحدة تسوّغ تدخلها بسعيها لإصلاح نظام الحكم وتحقيق الديمقراطية لاكتشافها وجود علاقة بين التطرف الإسلامي وانعدام الممارسة الديمقراطية. وبسبب ذلك، حدث شرخ في علاقة الأنظمة الدكتاتورية بالولايات المتحدة بعد رفع سقف مطاليبها إلى ضرورة تحقيق الديمقراطية حتى لو اقتضى ذلك استعمال القوة بنفس الطريقة التي استعملت فيها القوة في العراق. وهنا يجب أن نفطن لماذا تدعم هذه الحكومات الفصائل المتطرفة أو المنشقة داخل العراق؟. وبالرغم من الاختلاف المذهبي والأيديولوجي فإن الممول الرئيس للعمليات الوحشية التي جرت في العراق باسم المقاومة هو هذه الأنظمة الدكتاتورية بغية إفساد التجربة التي اتخذتها أمريكا أنموذجاً للتغيير.
وتجدر الإشارة، إلى أن القوتين الإيرانية والأمريكية المتجهتين إلى المنطقة العربية عسكرياً واقتصادياً وأيديولوجياً، لم تكونا على وفاق سياسيّ، إذ ثمة صراع كبير بين القوتين تحت يافطة امتلاك إيران أسلحة استراتيجية والسعي إلى تطوير قدراتها النووية، وفي الحقيقة أن الصراع أعمق من ذلك. فالولايات المتحدة الأمريكية تعتقد أن الذهنية الأيديولوجية التي بني عليها نظام الحكم في إيران تتعارض تماماً مع المصالح الأمريكية في مفهومها للامن القومي ومصالحها الاقتصادية والسياسية، ناهيك عن الموقف العدائي الذي تتبناه إيران حيال أمريكا وإسرائيل. والغريب أن العرب لم يستفيدوا من الصراع الإيراني الأمريكي، بل يمكن اعتبارهم أول الخاسرين إذ اتخذت البلاد العربية مكاناً لخوض ذلك الصراع الذي يجري بين العاصمتين: طهران وواشنطن.
وفي مقابل هذا، فإن إسرائيل تخوض من الناحية الفعلية صراعاً ميدانياً مع الحركات الإسلامية في فلسطين وفي مقدمتها حماس والجهاد الإسلامي وبعض الفصائل الفلسطينية التي مازالت تؤمن بالحل العسكري. وتخوض كذلك صراعاً هو الأخطر من وجهة نظر الإسرائليين، وهو الصراع بينها وبين حزب الله الذي حقق إنجازات عسكرية كبرى لم تحققها الدول العربية في حربها مع الدولة العبرية. وتنظر إسرائيل إلى حزب الله نظرة مزدوجة؛ أي إلى إمكانياته كحزب مقاوم وإلى الطريقة التي تغذي فيها إيران هذا الصراع. وتنظر إسرائيل إلى التحالف الإيراني السوري بالإضافة إلى حزب الله وحماس على أنه التحالف الأخطر الذي يهدد فرضية أمنها القومي. ومن هنا، فإن ثمة استنفاراً لأجهزة الموساد لجمع البيانات عن هذا التحالف، الذي لم يرتق بعد إلى الحرب الشاملة. ومن الناحية الاستراتيجية، لا تخشى إسرائيل من أية قوة عربية سواء أكانت فردية أو مجتمعة، لأن المجتمع العربي لم يرتق بعد إلى لحظة التحرر من الدكتاتورية وحكم نفسه بنفسه. وهي اللحظة التي تدقّ ناقوس الخطر في الجبهة الإسرائيلية. لكن إسرائيل تراقب بعين الريبة تطور القدرات العسكرية الإيرانية، تلك القدرات التي تعدت حدودها من خلال مسألتين: السعي إلى امتلاك السلاح النووي، والموقف العدائي الذي كشفت عنه إيران وطبقته على نحو عملي من خلال حزب الله وحماس. ومن هنا فإن التحسّب الإسرائيلي الآن، يتجه إلى إيجاد الوسائل للوقوف بوجه القدرة الإيرانية.
لاشك في أن اختلال موازين القوى في الشرق الأوسط، يعمل على عدم استقرار الأوضاع هناك بشكل مستمر. ويعدّ عدم الاستقرار هذا نزيفاً دائماً للثروات: البشرية والاقتصادية والثقافية. وتتأثر البنية الاجتماعية في العالم العربي على نحو مستمر بالتقلبات والانقلابات في الأوضاع السياسية، فلا يترك عدم استقرار تلك البنية فرصة لإنجاز مشاريع تنموية قادرة على النهوض بالواقع الاجتماعي. الوضع السياسيّ في احتدام مستمر، وانهيار النظم الاجتماعية مستمر كذلك في التعليم والصحة والثقافة والخدمات والرعاية الاجتماعية وقوانين العمل والتجارة والاقتصاد ورعاية الطفولة ومعالجة القوانين والأعراف المتخلفة التي تعيق استثمار طاقات المرأة. هذا العاملان ndash; النزاعات السياسية، وانهيار النظم الاجتماعية- يقومان بوظيفة تقويض وتقزيم القوة العربية بمواجهة القوة المتنامية لدى الدول التي لها مصلحة في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من وجود الجيوش الجرارة في العالم العربي إلا أنها لا قيمة في ميزان القوى الاستراتيجية، كما لا قيمة للثروات الاقتصادية في هذا العالم. غياب الرؤية العلمية والعملية والمستقبلية والليبرالية، يجعل القوة العسكرية والقوة الاقتصادية لا أهمية لها في نظرية الأمن القومي العربي.
[email protected]
التعليقات