-1-
الجابري والنقد الإبستيمولوجي للنظم المعرفية التقليدية
القراءة التي أقترحها هنا لتوصيف عدد من القراءات التي أنتجها الفكر العربي المعاصر هي ما يمكن أن أسميها: القراءة العقلانقدية، وهي قراءة فلسفية، محبوكة نظرياً، غايتها: التنظير لنمط من القراءة، التي تمارس نقداً إبستيمولوجياً لأدوات التفكير ووسائل الرؤية في نظم المعرفة العربية الإسلامية على وجه الخصوص. تلك النظم، التي أنتجت: قراءة لا تاريخية، للتراث والواقع، على ما يذهب إلى هذا محمد عابد الجابري في مشروع قراءته للمجالات المعرفية الآتية: التراث الفلسفي- العقل العربي- الخطاب العربي المعاصر.
يتوقف الجابري، منذ 1980، عند مفهوم: القراءة، بدلالتيه: باعتباره وسيلة إدراك لمنظومة القيم والمعاني التي يريد النص عادة أن يفصح عنها، وباعتباره معرفة منجزة ضمن خطاب فكري سابق. وهو يريد أن ينتج نقداً تفكيكياً لمفهوم القراءة في الفكر العربي. وقد تزامن مشروعه في تفكيك مفهوم القراءة، مع مشروع نقل: القراءة البنيوية، إلى الفكر العربي المعاصر. لكنه مع ذلك، استطاع أن ينجو من السقوط في فخّ التنميط البنيوي داخل الأطر التي تتفرّع من نقطة واحدة، لتلتقي في النقطة نفسها. من افتراض وجود البنية، إلى وسائل إثباتها. ومن افتراض نواة للبنية (اللغة)، إلى توزيع العلاقات أفقياً وعمودياً لتصل إلى نهاية المطاف وهو: إنتاج المعنى باللغة حسب.
لقد ذكرت أن الجابري، استطاع أن ينجو من التنميط والقولبة البنيوية، على الرغم من أنها تركت آثاراً واضحة في سعيه إلى: فصل المقروء عن القارئ. وأحسبه، أفاد من القراءات المتجاورة مع البنيوية، كالأركيولوجيا، والتفكيك، والتأويل، تلك القراءات التي انتقدت مركزية البنية ( كما في تفكيكية دريدا)، ومركزية النص ( اركيولوجيا ميشيل فوكو التي ذهبت إلى قراءة الخطاب)، ومركزية المعنى ( هرمنيوطيقا غادامير وبول ريكور).
وهكذا اتجهت قراءة الجابري إلى دراسة الخطاب الفكري الإسلامي لا إلى دراسة النص، وكانت تهدف قراءته- كما لدى ميشيل فوكو- لا إلى تأويله، بل إلى البحث في العناصر التي تشكل: خصوصيته. والبحث في القواعد المتحكمة فيه. وتحليل الفوارق والاختلافات الموجودة بين صيغ الخطاب ووجوهه.
ولذلك، فإن الجابري الذي حلّل النظم المعرفية الثلاثة: البيان والعرفان والبرهان، قد تعامل مع كلّ منها: بوصفه نظاماً يؤسس حقلاً معرفياً مستقلاً بنفسه، داخل الثقافة العربية الإسلامية.
وكما درس فوكو النحوَ، لا بوصفه حقلاً لغوياً، وإنما باعتباره تفكيراً في اللغة بشكل عام، فإن الجابري قام بدراسة تلك النظم المعرفية باعتبارها تفكيراً، أو دالّة على خصوصية التفكير العربي الإسلامي.
وهكذا، منذ البداية، يصف الجابري قراءته، فيقول في كتابه نحن والتراث:
هي quot; قراءةquot; وليست مجرد بحث أو دراسة لأنها تتجاوز البحث الوثائقي والدراسة التحليلية ndash; بله quot; الأعمالquot; التجميعية ndash; وتقترح صراحة، وبوعي، تأويلاً للمقروء quot; معنىquot; يجعله في آن واحد، ذا معنى بالنسبة لمحيطه، الفكري- الاجتماعي ndash; السياسي، وأيضاً بالنسبة لنا نحن القارئين.
ينتقد الجابري، ثلاث آليات للقراءة في الفكر العربي، تلك التي شاعت منذ ما سمي: عصر النهضة إلى مطلع الثمانينيات، ومن ثم يقترح ثلاث آليات بدلاً منها. هو ينتقد ما يسميه: القراءة السلفية، وواضح أنه يستعمل لفظة: السلفية، باعتبارها تسمية توصيفية، لا باعتبارها نزعة فكرية في الخطاب الإسلامي، وإن كان مفهوم الجابري يستوعب هذه النزعة. وهو يعتقد بأن هذا الضرب من القراءة، إنما هو كما يرى: الفهم التراثي للتراث [...] لأنها التراث يكرر نفسه. ويعزو ذلك، إلى ما يشبه: عُصاب جماعي، أصاب المثقفين العرب بعد نكسة 1967 فارتدوا ناكصين إلى الوراء، إلى quot; التراثquot;.
قراءة السقوط في دائرة ردّ الفعل، هي القراءة التي يعارضها الجابري، ويمكن تصويرها وتصنيفها في النقاط الآتية:
القراءة المتجهة إلى الوراء، ويسميها: القراءة السلفية. وهي قراءة احتوائية، لا تنـي من احتواء الزَّمَكان بجانبيه: الحاضر، والمستقبل، وتلقي بهما في: أفق الماضي. وهذه القراءة، هي التي تنتج ما يسميه ويكرره في أكثر من موضع من كتبه: الفهم التراثي للتراث.
القراءة الاستعارية؛ أي تلك التي تستعير: المنهج، والرؤية، من الغرب، وتتعامل معهما تعاملاً خارجياً، ويسميها: القراءة الأوروباوية. ويحصرها بالتيار الليبرالي العربي، الذي ينظر إلى التراث العربي بـ: منظومة مرجعية أوروبية، ولذلك فهو لا يرى فيه إلا ما يراه الأوروبي.
القراءة الاستشراقية، ذات التضمينات والتوجهات الاستعمارية في بعض الأحيان. كانتزاع أصالة الفكر الإسلامي، والادّعاء بأنه يصدر عن: ما سمّوه بـ quot; العقلية الساميةquot; التي حكموا عليها بالعقم في مجال العلم والفلسفة. وهي بمنظور الجابري قراءة: فيلولوجية؛ لأنها تجتهد في: ردّ quot;كلquot; شيء إلى quot;أصلهquot;. وعندما يكون المقروء هو التراث العربي الإسلامي فإن مهمة القراءة تنحصر حينئذ في ردّه إلى quot;أصولهquot; اليهودية والمسيحية والفارسية واليونانية والهندية.
القراءة اللاتاريخية. وهي القراءة التي يتبناها التيار اليساري العربي، لأن هذا التيار كما يزعم الجابري لا يتبنى:
المنهج الجدلي كمنهج لـ quot; التطبيقquot; بل يتبناه كـ quot; منهج مطبّقquot;. وهكذا فالتراث العربي الإسلامي quot; يجبquot; أن يكون: انعكاساً للصراع الطبقي من جهة، وميداناً للصراع بين quot; المادية و quot; المثاليةquot; من جهة أخرى. ومن ثمة تصبح القراءة اليسارية للتراث هي تعيين الأطراف وتحديد الموقع في هذا الصراع quot; المضاعفquot;.
لذلك فإن الجابري لا يجد فرقاً بين: السلفي، الليبرالي، الماركسي، في قراءتهم للواقع والتراث، لأنهم يتطابقون ليس في: ما يُفكَّر فيه، بل الطريقة التي يجري بها التفكير.
القراءة التي يمكن أن نسميها القراءة: اللاعقلانية؛ لأنها كما يرى الجابري، قراءة استنتاجية، تنخرط في: إشكاليات المقروء والاستسلام لها [ وتمتاز بـ] غياب الروح النقدية وفقدان النظرة التاريخية. ويقترح في مقابلها مستوى آخر للقراءة يجده ضرورياً للخروج من مأزق اللاتاريخية في الفكر العربي المعاصر، الذي وجد فيه امتداداً لمنهج ورؤية: قياس الغائب على الشاهد، الذي يوقف إمكانية عنصري: (الزمان) على الاختلاف، وإمكانية ( التطور) على تغيير القيم والأشكال والمعاني. ويكرر الجابري الحديث عن قياس الغائب على الشاهد، في كتاب: نحن والتراث، وفي: ابن رشد، سيرة وفكر. وفي كتاب: بنية العقل العربي وفي كتاب: تكوين العقل العربي.
هذا المستوى الذي يقترحه، يتمثل بهذه النقاط:
1- القراءة بموجب منهج ورؤية جديدتين، يتمثلان عنده بـ: ضرورة القطيعة مع الفهم التراثي للتراث. وهو هنا يوظف مفهوم ميشيل فوكو في إحداث قطيعة في حقل معرفي معين بإيقاف عمل المفاهيم التقليدية، وتحرير القراءة من الرؤية المنهجية الواقعة في قبضة الأيديولوجيا والتاريخانية والميتافيزيقيا.
2- القراءة بموجب شرط: فصل المقروء عن القارئ. ولا شكّ في أن هذا الشرط، يتضمن دعوة بنيوية غير معلنة هنا، لتفادي السقوط في شرك الأيديولوجيا. وقارئ مشروع الجابري، سيجد أنه يريد أن يحرر مفهوم: القراءة، من هيمنة الايديولوجيا، ومكرها، إذ تتسلل خلسة إلى أدوات إنتاج الفكر، وإلى وسائل إدراكه وقراءته.
3- القراءة بموجب شرط: وصل القارئ بالمقروء. ولاشكّ في أن الدعوة إلى: الفصل مرة، والوصل مرة أخرى، إنما هو مثير للإرباك، ويقتضي أن نحدّد ما يرمي إليه الجابري.
إنّ هذه القراءة التي أسميناها: عقلانقدية؛ بمعنى توجيه النقد الإبستيمولوجي للنظم المعرفية التقليدية، واستكشاف الاتجاهات أو الفرضيات أو الأفكار التي لم تكن جزءاً من تلك النظم، تتمثل كذلك في الكيفية التي اكتشف فيها أدونيس، في: الثابت والمتحول، تلك الخطابات غير الخاضعة لهيمنة التفكير المؤسسي أو الخاضع لأعراف واعتبارات أيديولوجية أحياناً، أو الخاضع للسلطة الصلدة للنظام المعرفي، والنسق الثقافي، والعرف الاجتماعي.
إن القراءة لدى الجابري تحمل: دلالة تأويلية؛ بمعنى أن مفهوم: القراءة، يلغي تماماً مفهوم: المنهج، المسوّر بنطاق الثبات المنطقي المتماسك، وبنطاق المعرفة القبلية التي تدثر الظاهرة النصية أو غير النصية، بدثار من المعاني الدائمة، المتنقلة من جيل إلى آخر؛ معرفة الوحي، أو السلف الصالح، إنها باصطلاح المفسرين: المعرفة النقلية.
وفي الوقت الذي تلغي ( القراءة)، مفهوم ( المنهج) بتلك الخصائص التقليدية، فإنها تلغي الفهم التقليدي للمعنى، والنص، وتربطهما برابط النشاط الذاتي لقراءة النص أو الظاهرة.
وهكذا، يصبح المعنى آنياً أو قصدياً بتعبير هوسرل، وتزامنياً بتعبير البنيويين، بيد أن تزامنيته لم تكن تزامنية لسانية، بل تزامنية الفهم والشعور الفردي الآتي.

ناظم عودة

[email protected]