تندرج عملية استئناف الاتصال بالغرب واستعارة مفاهيمه التي قام بها العرب في القرنين التاسع عشر والنصف الأول من العشرين، في باب: ثقافة التابع Subaltern. بمعنى؛ن الثقافة التي أُنتِجَتْ في البلدان الواقعة تحت سيطرة الاستعمار إنما أُنتِجَتْ في ظل قوتين كان الغرب يتسلّح بهما هما: قوة الهيمنة المسلحة، وقوة المعرفة. ولأن ثقافات التابع، كانت عبارة عن ثقافات تقليدية تستهلك حزمة من المفاهيم والأفكار والنظريات التي لا يمكن التواصل والحوار بها في العصر الحديث، وكانت تشكل عقبة في وجه أي عملية تحديث ممكنة، فإن هذا قد أحدث انشقاقاً داخل تلك الثقافات نفسها، إذ اتجهت كتلة من المثقفين والمفكرين والعلماء والفنانين والأدباء والسياسيين والاقتصاديين والقانونيين إلى استعارة الأطر الثقافية والمفاهيم والنظريات القادرة على تفعيل وتنشيط التفكير الحيّ، الجديد، الواقعي، الأكثر اقتراباً من العلم والعقلانية وأساليب الحياة العصرية.
هذا التوصيف، يتيح لنا أن نكتشف طبيعة الخطاب العربي في تلك المرحلة، وموضوعاته، والأصول المعرفية والثقافية التي يريد أن يتصل بها. إنّ عملية الاستئناف، لم تستطع أن تتجاوز معرفياً وسيكولوجياً التهمة القديمة التي وُجِّهَت إلى العقل العربي الإسلامي؛ تهمة: التابعية العقلية، وعدم أصالة المفاهيم.
ومن المعروف أن تطور العلاقة الحضارية والثقافية بين العرب ( الإسلام) والغرب أدّى إلى ظهور عدد واسع من المفاهيم الفكرية المعقدة. ولم تبلغ هذه المفاهيم رتبة الوضوح والاستقرار في الاشتقاق والدلالة، ولا في درجة انصهارها داخل الفكر العربي، الأمر الذي أفضى إلى نشوء محاولات بحثية موسّعة غايتها الأساسية تأصيل المفاهيم ذات العلاقة المشتركة بين الإسلام والغرب. ويغلب على هذه المحاولات طابع النـزاع بسبب الحساسية الدائمة بين المركزية الغربية والمركزية الإسلامية.
وبالطريقة نفسها، وقعت مرحلة استئناف الفكر العربي والعلوم العربية الحديثة، في مأزق استعارة مفاهيم الثقافة الأوروبية، وتداولها بعد تجريدها من بعض المحمولات التي تحولها إلى مفاهيم صورية، خالية من أي مضمون تاريخي، على النحو الذي تبنى فيه الفكر العربي في الثمانينيات مفهوم: موت المؤلف، الذي يحمل دلالتَيْ: محاربة الميتافيزيقا لكونه استئنافاً لمفهوم: موت الإله، عند نيتشه (1844- 1900) ومحاربة الأيديولوجيا لكونه يسعى إلى التحرّر من قبضة المقاربة التاريخية. وعندما طُبِّقَ مفهوم موت المؤلف على النصوص المقدسة، في بعض المقاربات، وقع المفكرون العرب في إشكالية ذات أبعاد دينية ومعرفية في الوقت نفسه. دينية؛ لأنها تفترض موت الصانع - أي الإله- كما اصطُلِحَ عليه في الفلسفة الإسلامية. ومعرفية؛ لأنها تمارس تطبيق مفهوم متعالٍ على طبيعة: النصّ العربي، والقارئ العربي، المشبعين بالتاريخ والميتافيزيقا وجوداً ورؤيةً. والأمران معاً: موت الصانع ( الإله) وموت التاريخ، يرفضهما منطق الثقافة العربية مثلما يرفضهما مزاج القارئ العربي وتكوينه الاجتماعي.
إنّ هذه العلاقة التاريخية الشائكة بين الثقافتين العربية والأوروبية، استحوذت على جهود عدد واسع من المستشرقين والمفكرين العرب، وقد وجدها البعض، من أمثال: ارنست رينان (1823- 1892)، آربري ( 1905- 1969)، مناسبة لإظهار العقل العربي في صورة العقل غير المؤهل لإنتاج النظريات والمفاهيم، لخلوّ الثقافة العربية من أي نشاط فلسفي أصيل، من وجهة نظرهم. وفي ضوء هذه النظرة الاستشراقية الفيلولوجيـة المشغولة بالبحث عن الأصل، اتهموا العقـل العربي، بانتمائه إلى العقلية السامية تارة، أو أنّ علومه اُنْتِجَتْ بعقول مستعارة؛ فارسية، أو هندية، أو تركية تارة أخرى.
ويبدو أنّ إعادة الحديث حول هذه العلاقة، لا يجدي نفعاً الآن إلا بالقدر الذي يتيح لنا أن نعاين تسرّب عدد واسع من الأفكار والفرضيات والمفاهيم إلى داخل الفكر العربي بمختلف فروعه.
إنّ التبعية السياسية للدولة العثمانية ولأوروبا، حتّمتْ على الفكر العربي أن يتقولب ضمن إطار استهلاك المنتجات الفكرية الأوروبية، التي كانت خلاصة حقبة من التواصل الحضاري غير المنقطع، بخلاف العرب الذين عاشوا حقبة: العصور المظلمة، انشغلوا فيها باستعادة شريط التراث العربي الإسلامي على أساس فيلولوجي، لم يتعدَّ حدود اللغة، والتوضيحات الشرحية، والتفسيرات المبتسرة، وغابت عن العقل العربي في هذه الحقبة الرؤية العقلانية النقدية التحليلية، وهو ما أفضى إلى تعطّل تقدّم الحضارة والثقافة والفكر.
هذا العطل الحضاري، هو الذي يقف وراء دهشة المثقفين العرب الذين اطلعوا على كنوز الثقافة والعلوم والمعارف الأوروبية منذ بداية القرن التاسع عشر، الأمر الذي جعلهم ينتجون أفكاراً هي ردّ فعل على الواقع الثقافي المسموح به في ظلّ الهيمنة العثمانية، ومن ثمّ الهيمنة الاستعمارية الأوروبية. وبسبب هذا، لم يكن بوسع تلك الثقافة أن تكون مكاناً خصباً تبذر فيه المفاهيم النابعة من ضرورةٍ حضاريةٍ، وتقدّمٍ فكريّ، وتفاعلٍ اجتماعيّ، على غرار إنتاج الثقافة الأوروبية على سبيل المثال مفاهيم: الحداثة، والمركزية الغربية، والعقلانية النقدية، والليبرالية، والديمقراطية، والنزعات الفلسفية والفنية والأدبية والثقافية الأخرى. فهذه المفاهيم لم تُقترَض من حقل معرفي غير الحقل الأوروبي، ولا من واقع غير الواقع الأوروبي.
إنّ هذين الشرطين، اللذين أنتجت فيهما المفاهيم والنظريات الغربية، هما شرطان حاضران على الدوام في تلك الثقافة التي لا تكفّ عن تطوير مصطلحاتها، ومقترباتها النظرية والمنهجية، بخلاف الثقافة العربية إذ يضمر فيها هذا الشرطان ضموراً كبيراً عندما تتداول مجموعة من المفاهيم، من قبيل: النهضة، والحداثة، والليبرالية، والاشتراكية، والعلمانية، والديمقراطية، وسوى ذلك من المفاهيم.
وهنا ينبغي أن نعترف، بأنّ عاملَي: المجال المعرفي، والواقع، بالإضافة إلى عدم وجود رؤية فلسفية تؤطّر الممارسة النقدية، قد ساهما في فشل وتدمير المفاهيم المتداولة في نطاق الثقافة العربية، سواء المستعارة من الفضاء الأوروبي، أو من فضاء الماضي العربي؛ لأنها استعيرت إما من ثقافة غير ثقافتنا، أو من زمن غير زماننا. لنضرب مثلاً على ذلك، إنّ الفكر العربي في مخاضه التكويني في القرن التاسع عشر، وجد نفسه يتأثر على نحو قوي بالأفكار والمبادئ النقدية الجذرية، التي كانت جزءاً من الخطاب الفكري والسياسي المصاحب للثورة الفرنسية، وعندما أراد أن يتمثل هذه الأفكار التي آمن بها، اصطدم بواقع آخر غير واقع الثورة الفرنسية؛ واقع فرضته السياسة العثمانية قبل إعلان الدستور وبعده، تلك السياسة الرامية إلى إطفاء جذوة التفكير النقدي سياسياً واجتماعياً وثقافياً.
وفي مقابل سعي الثقافة العربية لتجديد نفسها باستعارة المفاهيم الغربية والتفاعل معها، فإنّ التيار الفكري الديني المتمثل بالأزهر، قد استبق غيره من التيارات الفكرية إلى المبادرة بضخّ الحياة مجدداً بعدد من المفاهيم المعطلة التي تنتمي إلى ثقافة السلف. وعُدَّ هذا، تدبيراً ثقافياً لمواجهة مشروع النهضة في منتصف القرن التاسع عشر، عندما أراد محمد علي باشا ( 1769- 1849) أن يؤسس دولة قوية على غرار النموذج الأوروبي القائم على مؤسسات حديثة. وعلى الرغم من أنّ حركة النهضة، لم تكن حركة علمانية غير متدينة، إنما كانت تسعى إلى التوفيق بين المعارف الأوروبية والعلوم الإسلامية الموروثة، إلا أنّ هذه الحركة كانت مرمى للتيار الإصلاحي الإسلامي. وهكذا بادر الطهطاوي ( 1801- 1873) إلى تأسيس مدرسة الألسن، إذ بلغ عدد طلابها زمن محمد علي باشا وإسماعيل باشا مائتين وخمسين طالباً قاموا بترجمة أكثر ما نقل من العلوم الأوروبية الحديثة إلى الثقافة العربية.
على حين بادر علي مبارك ( 1824- 1893) إلى تأسيس مدرسة دار العلوم لتتّبع نظاماً تعليمياً قائماً على التوفيق بين العلوم العربية الكلاسيكية والعلوم الأوروبية الحديثة. وكان هذان يعتقدان بعدم التناقض بين العلم والإيمان، ويتطلعان إلى الإفادة من التجربة الأوروبية في بناء المجتمع الحديث، بعد أنْ شاهدا ذلك في بلاد الغرب. ومع كلّ ذلك، واجه الأزهر بحزم تدفق المفاهيم غير الإسلامية، ووقف منها موقفاً رافضاً، واجداً فيها مسخاً للهوية العربية الإسلامية.
بيد أنّ حيازة علم نظري ذي مرجعية غربية، كان يشكل تحدياً جديداً للثقافة العربية في ذلك القرن، هو تحدي الهوية الثقافية. وعلى خلفية هذا التحدي، نشأ فريقان داخل الثقافة العربية:
1- الفريق المدافع عن الهوية العربية من التيارين: القومي والإسلامي على حدّ سواء، من أمثال الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، والشيخ حسين المرصفي، وحمزة فتح الله، ورئيف خوري، وأحمد ضيف. ومثّل هذا التيار عدد من الكتّاب من ذوي الميول القومية والإسلامية.
2- فريق ما عُرِف بـ: الكتّاب الليبراليين، من أمثال يعقوب صروف، وقسطاكي الحمصي، وحسن توفيق العدل، وروحي الخالدي، وسليمان البستاني، ونجيب الحداد، وأمين الريحاني، وجرجي زيدان، وآخرين، من مناصري المنطق العلمي الحديث، والعقلانية الموضوعية، من الذين يعتقدون بأنّ العلم لا هوية له، فاتجهوا إلى البحث في دفاتر المعرفة الأوروبية، واكتشفوا أنّ الفكر في الغرب عبارة عن مدارس واتجاهات ومناهج، تتصل بأفق مرجعي في نظرية المعرفة لا يمكن الاستغناء عنه. وهو ما حفّز المفكرين العرب في ذلك القرن، إلى إصلاح طرائق المعرفة الفكرية، عبر الإسراع باستعارة المفاهيم الغربية إلى العربية، وتداولها على أنها معرفة ضرورية خالية من أيّ محمول أيديولوجي يمسّ الهوية الثقافية. كان هذا واضحاً في كتابات: يعقوب صرّوف، وروحي الخالدي، وقسطاكي الحمصي، وأحمد ضيف، وطه حسين، وأحمد الشايب، والعقاد والمازني وشكري وأبي شادي، وطائفة كبيرة من الكتّاب المتأثرين بالعلم الأوروبي.
إنّ الانتقال إلى الفكر الحديث المبني على قواعد نظرية لا يمكن التفريط بها، يعني الانتقال ضرورة إلى التفكير جدياً بتأسيس مجتمع عربي حديث. وصورة هذا المجتمع، أخذت تتشكل على وفق خبرة المجتمع التابع لنمط من الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية لعدد من القوى الكولونيالية ( الاستعمارية). خلال هذه الحقبة الاستعمارية، كان ثمة وعي وردّ فعل على تلك العلاقة المثيرة بين التابع والمتبوع: العرب، وأوروبا. ومن المؤكد أنه، لا يمكن الوصول إلى نتائج ذات قيمة، إنْ لم تُدْرَس الثقافة العربية في العصر الحديث في ضوء جدلية التابع. فهذه الثقافة، إنما هي ردّ فعل على الغزو الثقافي المصاحب للغزو الديموغرافي، ومفاهيمها ليست مفاهيم بنيوية نابعة من صميم الظاهرة من حيث مشكلاتها الداخلية وطبيعتها الواقعية، وليست مفاهيم مستقبلية تتطلع إلى تفكيك الفكر التقليدي المشدود إلى الماضي، والإيمان بالعقل والعلم والحداثة والتواصل الحضاري بوصف ذلك قيمة وجودية وحضارية لا يمكن التفريط بها. على هذا الأساس، كانت تتشكل مفاهيم مثل:
1- التراث، لا باعتباره قيمة تشترك في تحقيق عمليات التجديد والابتكار، بل باعتبارها أفقاً مغلقاً بدائرة من الأفكار والمفاهيم الاستهلاكية. وقراءة هذه الدائرة، إما قراءة طاردة لكل الرؤى التي تمارس نقداً ابستيمولوجياً للتراث، ومنها بعض القراءات الاستشراقية، وإما قراءة مُستقبِلة لكل معطيات التراث على أنها آثار مقدسة، ومسلَّمات لا تقبل المراجعة العقلانية.
2- الأمة، لا باعتبارها مكوِّناً يساعد على تحقيق شروط النهضة المستقلة ينخرط فيها كلّ مكونات الأمة وأقلياتها، وتياراتها الفكرية المختلفة، بل باعتبارها مفهوماً سياسياً يقمع القوميات والإثنيات الأخرى، ويهدر طاقاتها في بناء الدولة العربية الحديثة، ومن ثمّ بناء ثقافة تقدمية تؤمن بإنجازات العلم والمدنية. وقد وقف هذا المفهوم عائقاً في طريق بناء الدولة العصرية القائمة على منطق المؤسسات المستقلة، غذ جرى ربط كل حركات التحديث ربطاً أيديولوجياً وسياسياً لغرض احتوائها وتجريدها من رسالتها التحديثية الرامية إلى عصرنة المجتمع والثقافة.
3- الهوية، لا باعتبارها قيمة محفّزة على الإنتاج الحضاري الأصيل، إنما باعتبارها مناسبة لإيقاف التواصل الحضاري مع العالم. تمثل هذا في مبادئ الحركات الإسلامية السلفية كـ: السنوسية، والمهدية، والوهابية، التي تعتقد بأنّ الهوية الإسلامية تقتضي عدم التعامل مع المفاهيم والنظريات الغربية. وبعضهم بالغ في التطرّف إلى حدّ عدم التعامل مع المنتجات المادية، كالحركة الوهابية التي زعمت أن هذه المنتجات مفسدة للأخلاق الإسلامية وأنها بدعة شيطانية غريبة. وكان هذا أحد العوامل التي وقفت في تقدّم المجتمع العربي في تلك المرحلة، بعد أن تمّ تشكيل الحاجز النفسي والأخلاقي بين العرب ووسائل المدنية الحديثة من خلال رؤية دينية متحجرة.
ويبدو أن ولادة المفاهيم الآنفة، اقترن بصورة أساسية بيقظة الشعور القومي والديني، وكانت ردّ فعل على كلّ محاولات طمس الهوية العربية التي لجأت إليها الدولة العثمانية؛ لضمان خضوع العرب وتدفق أموال الضرائب.
لكن من ناحية أخرى، كانت هذه المفاهيم ذات تأثير جذري في إعاقة مشروع الحداثة الاجتماعية والثقافية، وعملت على تكريس رؤية دينية لحركة المجتمع عموماً، وهو ما لم ينجُ من قبضتها تاريخ العرب الحديث، إذ جرى نوع من الصراع على زعامة الدولة الحديثة ما بين التيارات السياسية ذات الرؤية غير الدينية، والتيارات الإسلامية التي تسعى إلى قولبة نظام الدولة والمجتمع والثقافة على وفق رؤية دينية سلفية تستعير مفهوم الدولة الذي جرى تطبيقه في أيام ( الخلافة).
في البداية انتصر مفهوم الدولة المستعار من النظام السياسي الغربي [ الجمهوري/الملكي/الاشتراكي/الرأسمالي] بسبب التكتيك الغربي في مساندة النظم غي الدينية وتمكينها من الاستحواذ على موارد الدولة المالية والاستحواذ على وسائل القوة والبطش، ولكن فشل النظام السياسي العربي غير الديني أتاح الفرصة لتقبّل الرؤية الدينية للحركات الإسلامية شيئاً فشيئاً. وهكذا، حدث صراع محتدم بين نوعين من المفاهيم التي تشيّدت عليهما الدولة العربية: المفاهيم الغربية والمفاهيم الإسلامية، وكلاهما مستعار من خارج الزمان والمكان، وهو ما عمل على إحباط أية نهضة للمجتمع العربي الذي يمتلك طاقات هائلة ضاعت في سياق صراع غبيّ.
هذا التوصيف، يتيح لنا أن نكتشف طبيعة الخطاب العربي في تلك المرحلة، وموضوعاته، والأصول المعرفية والثقافية التي يريد أن يتصل بها. إنّ عملية الاستئناف، لم تستطع أن تتجاوز معرفياً وسيكولوجياً التهمة القديمة التي وُجِّهَت إلى العقل العربي الإسلامي؛ تهمة: التابعية العقلية، وعدم أصالة المفاهيم.
ومن المعروف أن تطور العلاقة الحضارية والثقافية بين العرب ( الإسلام) والغرب أدّى إلى ظهور عدد واسع من المفاهيم الفكرية المعقدة. ولم تبلغ هذه المفاهيم رتبة الوضوح والاستقرار في الاشتقاق والدلالة، ولا في درجة انصهارها داخل الفكر العربي، الأمر الذي أفضى إلى نشوء محاولات بحثية موسّعة غايتها الأساسية تأصيل المفاهيم ذات العلاقة المشتركة بين الإسلام والغرب. ويغلب على هذه المحاولات طابع النـزاع بسبب الحساسية الدائمة بين المركزية الغربية والمركزية الإسلامية.
وبالطريقة نفسها، وقعت مرحلة استئناف الفكر العربي والعلوم العربية الحديثة، في مأزق استعارة مفاهيم الثقافة الأوروبية، وتداولها بعد تجريدها من بعض المحمولات التي تحولها إلى مفاهيم صورية، خالية من أي مضمون تاريخي، على النحو الذي تبنى فيه الفكر العربي في الثمانينيات مفهوم: موت المؤلف، الذي يحمل دلالتَيْ: محاربة الميتافيزيقا لكونه استئنافاً لمفهوم: موت الإله، عند نيتشه (1844- 1900) ومحاربة الأيديولوجيا لكونه يسعى إلى التحرّر من قبضة المقاربة التاريخية. وعندما طُبِّقَ مفهوم موت المؤلف على النصوص المقدسة، في بعض المقاربات، وقع المفكرون العرب في إشكالية ذات أبعاد دينية ومعرفية في الوقت نفسه. دينية؛ لأنها تفترض موت الصانع - أي الإله- كما اصطُلِحَ عليه في الفلسفة الإسلامية. ومعرفية؛ لأنها تمارس تطبيق مفهوم متعالٍ على طبيعة: النصّ العربي، والقارئ العربي، المشبعين بالتاريخ والميتافيزيقا وجوداً ورؤيةً. والأمران معاً: موت الصانع ( الإله) وموت التاريخ، يرفضهما منطق الثقافة العربية مثلما يرفضهما مزاج القارئ العربي وتكوينه الاجتماعي.
إنّ هذه العلاقة التاريخية الشائكة بين الثقافتين العربية والأوروبية، استحوذت على جهود عدد واسع من المستشرقين والمفكرين العرب، وقد وجدها البعض، من أمثال: ارنست رينان (1823- 1892)، آربري ( 1905- 1969)، مناسبة لإظهار العقل العربي في صورة العقل غير المؤهل لإنتاج النظريات والمفاهيم، لخلوّ الثقافة العربية من أي نشاط فلسفي أصيل، من وجهة نظرهم. وفي ضوء هذه النظرة الاستشراقية الفيلولوجيـة المشغولة بالبحث عن الأصل، اتهموا العقـل العربي، بانتمائه إلى العقلية السامية تارة، أو أنّ علومه اُنْتِجَتْ بعقول مستعارة؛ فارسية، أو هندية، أو تركية تارة أخرى.
ويبدو أنّ إعادة الحديث حول هذه العلاقة، لا يجدي نفعاً الآن إلا بالقدر الذي يتيح لنا أن نعاين تسرّب عدد واسع من الأفكار والفرضيات والمفاهيم إلى داخل الفكر العربي بمختلف فروعه.
إنّ التبعية السياسية للدولة العثمانية ولأوروبا، حتّمتْ على الفكر العربي أن يتقولب ضمن إطار استهلاك المنتجات الفكرية الأوروبية، التي كانت خلاصة حقبة من التواصل الحضاري غير المنقطع، بخلاف العرب الذين عاشوا حقبة: العصور المظلمة، انشغلوا فيها باستعادة شريط التراث العربي الإسلامي على أساس فيلولوجي، لم يتعدَّ حدود اللغة، والتوضيحات الشرحية، والتفسيرات المبتسرة، وغابت عن العقل العربي في هذه الحقبة الرؤية العقلانية النقدية التحليلية، وهو ما أفضى إلى تعطّل تقدّم الحضارة والثقافة والفكر.
هذا العطل الحضاري، هو الذي يقف وراء دهشة المثقفين العرب الذين اطلعوا على كنوز الثقافة والعلوم والمعارف الأوروبية منذ بداية القرن التاسع عشر، الأمر الذي جعلهم ينتجون أفكاراً هي ردّ فعل على الواقع الثقافي المسموح به في ظلّ الهيمنة العثمانية، ومن ثمّ الهيمنة الاستعمارية الأوروبية. وبسبب هذا، لم يكن بوسع تلك الثقافة أن تكون مكاناً خصباً تبذر فيه المفاهيم النابعة من ضرورةٍ حضاريةٍ، وتقدّمٍ فكريّ، وتفاعلٍ اجتماعيّ، على غرار إنتاج الثقافة الأوروبية على سبيل المثال مفاهيم: الحداثة، والمركزية الغربية، والعقلانية النقدية، والليبرالية، والديمقراطية، والنزعات الفلسفية والفنية والأدبية والثقافية الأخرى. فهذه المفاهيم لم تُقترَض من حقل معرفي غير الحقل الأوروبي، ولا من واقع غير الواقع الأوروبي.
إنّ هذين الشرطين، اللذين أنتجت فيهما المفاهيم والنظريات الغربية، هما شرطان حاضران على الدوام في تلك الثقافة التي لا تكفّ عن تطوير مصطلحاتها، ومقترباتها النظرية والمنهجية، بخلاف الثقافة العربية إذ يضمر فيها هذا الشرطان ضموراً كبيراً عندما تتداول مجموعة من المفاهيم، من قبيل: النهضة، والحداثة، والليبرالية، والاشتراكية، والعلمانية، والديمقراطية، وسوى ذلك من المفاهيم.
وهنا ينبغي أن نعترف، بأنّ عاملَي: المجال المعرفي، والواقع، بالإضافة إلى عدم وجود رؤية فلسفية تؤطّر الممارسة النقدية، قد ساهما في فشل وتدمير المفاهيم المتداولة في نطاق الثقافة العربية، سواء المستعارة من الفضاء الأوروبي، أو من فضاء الماضي العربي؛ لأنها استعيرت إما من ثقافة غير ثقافتنا، أو من زمن غير زماننا. لنضرب مثلاً على ذلك، إنّ الفكر العربي في مخاضه التكويني في القرن التاسع عشر، وجد نفسه يتأثر على نحو قوي بالأفكار والمبادئ النقدية الجذرية، التي كانت جزءاً من الخطاب الفكري والسياسي المصاحب للثورة الفرنسية، وعندما أراد أن يتمثل هذه الأفكار التي آمن بها، اصطدم بواقع آخر غير واقع الثورة الفرنسية؛ واقع فرضته السياسة العثمانية قبل إعلان الدستور وبعده، تلك السياسة الرامية إلى إطفاء جذوة التفكير النقدي سياسياً واجتماعياً وثقافياً.
وفي مقابل سعي الثقافة العربية لتجديد نفسها باستعارة المفاهيم الغربية والتفاعل معها، فإنّ التيار الفكري الديني المتمثل بالأزهر، قد استبق غيره من التيارات الفكرية إلى المبادرة بضخّ الحياة مجدداً بعدد من المفاهيم المعطلة التي تنتمي إلى ثقافة السلف. وعُدَّ هذا، تدبيراً ثقافياً لمواجهة مشروع النهضة في منتصف القرن التاسع عشر، عندما أراد محمد علي باشا ( 1769- 1849) أن يؤسس دولة قوية على غرار النموذج الأوروبي القائم على مؤسسات حديثة. وعلى الرغم من أنّ حركة النهضة، لم تكن حركة علمانية غير متدينة، إنما كانت تسعى إلى التوفيق بين المعارف الأوروبية والعلوم الإسلامية الموروثة، إلا أنّ هذه الحركة كانت مرمى للتيار الإصلاحي الإسلامي. وهكذا بادر الطهطاوي ( 1801- 1873) إلى تأسيس مدرسة الألسن، إذ بلغ عدد طلابها زمن محمد علي باشا وإسماعيل باشا مائتين وخمسين طالباً قاموا بترجمة أكثر ما نقل من العلوم الأوروبية الحديثة إلى الثقافة العربية.
على حين بادر علي مبارك ( 1824- 1893) إلى تأسيس مدرسة دار العلوم لتتّبع نظاماً تعليمياً قائماً على التوفيق بين العلوم العربية الكلاسيكية والعلوم الأوروبية الحديثة. وكان هذان يعتقدان بعدم التناقض بين العلم والإيمان، ويتطلعان إلى الإفادة من التجربة الأوروبية في بناء المجتمع الحديث، بعد أنْ شاهدا ذلك في بلاد الغرب. ومع كلّ ذلك، واجه الأزهر بحزم تدفق المفاهيم غير الإسلامية، ووقف منها موقفاً رافضاً، واجداً فيها مسخاً للهوية العربية الإسلامية.
بيد أنّ حيازة علم نظري ذي مرجعية غربية، كان يشكل تحدياً جديداً للثقافة العربية في ذلك القرن، هو تحدي الهوية الثقافية. وعلى خلفية هذا التحدي، نشأ فريقان داخل الثقافة العربية:
1- الفريق المدافع عن الهوية العربية من التيارين: القومي والإسلامي على حدّ سواء، من أمثال الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، والشيخ حسين المرصفي، وحمزة فتح الله، ورئيف خوري، وأحمد ضيف. ومثّل هذا التيار عدد من الكتّاب من ذوي الميول القومية والإسلامية.
2- فريق ما عُرِف بـ: الكتّاب الليبراليين، من أمثال يعقوب صروف، وقسطاكي الحمصي، وحسن توفيق العدل، وروحي الخالدي، وسليمان البستاني، ونجيب الحداد، وأمين الريحاني، وجرجي زيدان، وآخرين، من مناصري المنطق العلمي الحديث، والعقلانية الموضوعية، من الذين يعتقدون بأنّ العلم لا هوية له، فاتجهوا إلى البحث في دفاتر المعرفة الأوروبية، واكتشفوا أنّ الفكر في الغرب عبارة عن مدارس واتجاهات ومناهج، تتصل بأفق مرجعي في نظرية المعرفة لا يمكن الاستغناء عنه. وهو ما حفّز المفكرين العرب في ذلك القرن، إلى إصلاح طرائق المعرفة الفكرية، عبر الإسراع باستعارة المفاهيم الغربية إلى العربية، وتداولها على أنها معرفة ضرورية خالية من أيّ محمول أيديولوجي يمسّ الهوية الثقافية. كان هذا واضحاً في كتابات: يعقوب صرّوف، وروحي الخالدي، وقسطاكي الحمصي، وأحمد ضيف، وطه حسين، وأحمد الشايب، والعقاد والمازني وشكري وأبي شادي، وطائفة كبيرة من الكتّاب المتأثرين بالعلم الأوروبي.
إنّ الانتقال إلى الفكر الحديث المبني على قواعد نظرية لا يمكن التفريط بها، يعني الانتقال ضرورة إلى التفكير جدياً بتأسيس مجتمع عربي حديث. وصورة هذا المجتمع، أخذت تتشكل على وفق خبرة المجتمع التابع لنمط من الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية لعدد من القوى الكولونيالية ( الاستعمارية). خلال هذه الحقبة الاستعمارية، كان ثمة وعي وردّ فعل على تلك العلاقة المثيرة بين التابع والمتبوع: العرب، وأوروبا. ومن المؤكد أنه، لا يمكن الوصول إلى نتائج ذات قيمة، إنْ لم تُدْرَس الثقافة العربية في العصر الحديث في ضوء جدلية التابع. فهذه الثقافة، إنما هي ردّ فعل على الغزو الثقافي المصاحب للغزو الديموغرافي، ومفاهيمها ليست مفاهيم بنيوية نابعة من صميم الظاهرة من حيث مشكلاتها الداخلية وطبيعتها الواقعية، وليست مفاهيم مستقبلية تتطلع إلى تفكيك الفكر التقليدي المشدود إلى الماضي، والإيمان بالعقل والعلم والحداثة والتواصل الحضاري بوصف ذلك قيمة وجودية وحضارية لا يمكن التفريط بها. على هذا الأساس، كانت تتشكل مفاهيم مثل:
1- التراث، لا باعتباره قيمة تشترك في تحقيق عمليات التجديد والابتكار، بل باعتبارها أفقاً مغلقاً بدائرة من الأفكار والمفاهيم الاستهلاكية. وقراءة هذه الدائرة، إما قراءة طاردة لكل الرؤى التي تمارس نقداً ابستيمولوجياً للتراث، ومنها بعض القراءات الاستشراقية، وإما قراءة مُستقبِلة لكل معطيات التراث على أنها آثار مقدسة، ومسلَّمات لا تقبل المراجعة العقلانية.
2- الأمة، لا باعتبارها مكوِّناً يساعد على تحقيق شروط النهضة المستقلة ينخرط فيها كلّ مكونات الأمة وأقلياتها، وتياراتها الفكرية المختلفة، بل باعتبارها مفهوماً سياسياً يقمع القوميات والإثنيات الأخرى، ويهدر طاقاتها في بناء الدولة العربية الحديثة، ومن ثمّ بناء ثقافة تقدمية تؤمن بإنجازات العلم والمدنية. وقد وقف هذا المفهوم عائقاً في طريق بناء الدولة العصرية القائمة على منطق المؤسسات المستقلة، غذ جرى ربط كل حركات التحديث ربطاً أيديولوجياً وسياسياً لغرض احتوائها وتجريدها من رسالتها التحديثية الرامية إلى عصرنة المجتمع والثقافة.
3- الهوية، لا باعتبارها قيمة محفّزة على الإنتاج الحضاري الأصيل، إنما باعتبارها مناسبة لإيقاف التواصل الحضاري مع العالم. تمثل هذا في مبادئ الحركات الإسلامية السلفية كـ: السنوسية، والمهدية، والوهابية، التي تعتقد بأنّ الهوية الإسلامية تقتضي عدم التعامل مع المفاهيم والنظريات الغربية. وبعضهم بالغ في التطرّف إلى حدّ عدم التعامل مع المنتجات المادية، كالحركة الوهابية التي زعمت أن هذه المنتجات مفسدة للأخلاق الإسلامية وأنها بدعة شيطانية غريبة. وكان هذا أحد العوامل التي وقفت في تقدّم المجتمع العربي في تلك المرحلة، بعد أن تمّ تشكيل الحاجز النفسي والأخلاقي بين العرب ووسائل المدنية الحديثة من خلال رؤية دينية متحجرة.
ويبدو أن ولادة المفاهيم الآنفة، اقترن بصورة أساسية بيقظة الشعور القومي والديني، وكانت ردّ فعل على كلّ محاولات طمس الهوية العربية التي لجأت إليها الدولة العثمانية؛ لضمان خضوع العرب وتدفق أموال الضرائب.
لكن من ناحية أخرى، كانت هذه المفاهيم ذات تأثير جذري في إعاقة مشروع الحداثة الاجتماعية والثقافية، وعملت على تكريس رؤية دينية لحركة المجتمع عموماً، وهو ما لم ينجُ من قبضتها تاريخ العرب الحديث، إذ جرى نوع من الصراع على زعامة الدولة الحديثة ما بين التيارات السياسية ذات الرؤية غير الدينية، والتيارات الإسلامية التي تسعى إلى قولبة نظام الدولة والمجتمع والثقافة على وفق رؤية دينية سلفية تستعير مفهوم الدولة الذي جرى تطبيقه في أيام ( الخلافة).
في البداية انتصر مفهوم الدولة المستعار من النظام السياسي الغربي [ الجمهوري/الملكي/الاشتراكي/الرأسمالي] بسبب التكتيك الغربي في مساندة النظم غي الدينية وتمكينها من الاستحواذ على موارد الدولة المالية والاستحواذ على وسائل القوة والبطش، ولكن فشل النظام السياسي العربي غير الديني أتاح الفرصة لتقبّل الرؤية الدينية للحركات الإسلامية شيئاً فشيئاً. وهكذا، حدث صراع محتدم بين نوعين من المفاهيم التي تشيّدت عليهما الدولة العربية: المفاهيم الغربية والمفاهيم الإسلامية، وكلاهما مستعار من خارج الزمان والمكان، وهو ما عمل على إحباط أية نهضة للمجتمع العربي الذي يمتلك طاقات هائلة ضاعت في سياق صراع غبيّ.
التعليقات