التعرّي لا العريُ، تعرٍّ لا نهايـةَ له (أنسي الحاج)

-1-
قصيدة نثر جديدة
قدّم أنسي الحاج في ديوان (خواتم) قضيتين أساسيتين: نصاً شعرياً مفعماً بتقنيات الحداثة، ورؤية للشعر وللغته لا تبتعد كثيراً عن خطاب الحداثة أيضاً.
وعلى الرغم من أن الديوان قصائد نثر خالصة، إلا أنه اصطبغ بصبغة (النثر التقريري)، لا بصبغة النثر الأسلوبي الموشى ببلاغة خلابة يتوجه من خلالها إلى قارئ تقليدي اعتاد أن ينتشي بديباجة الأسلوب المنمّق. ويشكل هذا الاختيار موقفاً قصد إليه قصداً، وعبّر عنه في مقدمة الديوان المصوغة صوغاً يقترب من البناء الشكلي الذي عليه قصائد الديوان، حتى كأنك لا تقرأ مقدمة، إنما قصيدة نثر صافية.
ولعلّ الشيء الجديد في هذا الديوان، هو أن قصيدة النثر التقليدية كانت تختلف عن النثر التقريري بإيجاد وسائل تحقق السمو البلاغي، أما قصيدة النثر في هذه المجموعة فإنها تتطلع إلى المطابقة والتماثل مع النثر بصيغته المتداولة، والمنطوية على حجّة دامغة لجعل المعنى حقيقة يطرقها الناس في تعاملاتهم.
بيد أنّ ما يصبو إليه أنسي الحاج، هو أن ينأى بنموذج قصيدة النثر في (خواتم) عن اللغة الآلية التي تنتجها ـ كما يقول في المقدمة ـ: الأمية الجديدة، المقنعة بحجج السرعة والتكنولوجيا والمدينة السمعية البصرية، والانحطاط العضوي الذي يفترس اللغة.
وهو يعتقد أنّ (اللغة) التي اصطفاها في (خواتم)، وسيلة لمقارعة اللالغة؛ هذا الغزو الذي يقضي على خصوصية اللغات بحجة تطور الحضارة وانحلال أو تفكيك مركزية الثقافات. وهو هنا، يعبّر عن قلق انطولوجي حيال اللغة التي لا يمكن فصلها عن الصراع الانطولوجي للكائن. وسوف يلمس القارئ، أنّ أنسي الحاج يتعامل بحساسية مع هذه الانطولوجيا اللغوية عبر كل نصوص هذه المجموعة.

-2-
قارئ خواتم

حال الانتهاء من قراءة هذا الديوان، يمكن أن نلحظ أنه موجّه إلى نمطين من القرّاء: القارئ الاجتماعي، والقارئ الثقافي. وأعني بـ (القارئ الاجتماعي)، القارئ المحمّل برؤية اجتماعية معينة، وينتسب إلى طبقة اجتماعية محددة، أو ذلك القارئ الممثِّل الأنسب للعالم الاجتماعي الذي يحيا فيه. وهذه القصائد تتوجه إلى هذا القارئ بعينه، قاصدةً مخاطبته في مسألة فيها جانبان:الأول، اجتماعي، يتمثل في التخلص من الطهرانية الزائفة في الجنس، وكذلك التخلص من ضلالة الوهم في الدين والسياسة والحرية والإنسان. وهذه القصائد تخاطب هذا القارئ رغبة في تحريره وتحرّره في آنٍ. ولعلّ الفلسفة التي تستند إليها هذه المخاطبة، هي أنّ (التحرّر) في إنتاج الأفعال والمواقف بلغة متحرّرة، يفضي إلى تحرير الإنسان من القيود الزائفة ضرورةً.
والثاني، ثقافي، يتعلق بالفلسفة الجديدة للغة، ويعبّر عن موقف حيال الغزو الثقافي بأقنعته الجديدة. ويجد هذا الشعر أن من حقّه أن يطرق هذه الطريق، لميراثه الواسع في معالجة المسائل الاجتماعية والثقافية في كلّ مكان وزمان. ولا يعني التصنيف هنا، أنّ ثمة معياراً قيمياً معيّناً، يُستحضَر في هذه العملية، إنما يوضح ذلك الطريقة التي تختارها قصائد هذا الديوان لكي تثير مسألةً، وتخاطب شريحةً.
ولا يتميز القارئ الثقافي عن نظيره الأول، سوى بمعرفته بالشيفرة الثقافية، فهو كائن اجتماعي أيضاً، ويمتاز بخصائص اجتماعية إيجابية.
-3-
تشويه مزدوج


ما ينصّ عليه ديوان (خواتم) ـ إضافة إلى تشويه اللغة ـ هو التشويه المزدوج للجنس في أصله الخالص من كل شائبة من شوائب التطور المادي. هذا التطور الذي عدّل من طبيعة الإنسان وحوّله من كائن يمثل نقاء الطبيعة، ويبادر إلى الاستمتاع بالبداهة الكامنة فيها، إلى كائن يبحث عن غاية لكلّ مبادرة من مبادراته. ومع تحول مفهوم الزمان لدى الإنسان، وانقلابه من فضاء بحوزة سيطرته إلى فضاء يتحكم بمصيره، من حيّزٍ تجري فيه حاجاته، إلى حيّز يقترن بالحاجة اقتراناً بنيوياً. من زمان ذي خصائص فيزيائية، إلى زمان غير مستقل الخصائص عن النظرية الاقتصادية التي اجتاحت العالم منذ ميلاد الثورة الصناعية.
وصار (تقسيم العمل) و(تقسيم الزمان) مفهومين أساسيين من مفاهيم التطور المادي الجديد لحضارة قرن الثورة الصناعية. وهو القرن الذي سيحدد ملامح حضارة القرون التي أعقبته. وفيها تجاورت المنفعة مع (الزمان) بصورة متلازمة. ودأب الإنسان عبر هذا التلازم إلى ضمان مسيرته الانطولوجية.
ولم يكن (الجنس) بعيداً عن هذا الانقلاب، إذ غلبت عدوى (المنفعة) و(التشيؤ) على مفهومنا للجنس كذلك، فاقترن بهما اقتراناً قوياً، وهو ما يحاربه أنسي الحاج عبر ديوان (خواتم):
كان يمكن لسينما البورنو أن تكون أهم اختراع للسينما
لو لم تُدِرْ ظهرها للرغبة مفضلة رياضة المجامعة.
لقد ألغت خيالنا وجعلتنا ننتظر الخباء ليستثيرنا.
واضح أن أنسي الحاج يبحث عن (الرغبة/ الغريزة) لا (الرغبة/ الصناعة)، وإذا كانت الأولى (تحرّر) فإنّ الثانية (تكبت)، الأولى تفضي إلى الانشرح، والثانية تفضي إلى القمع، الأولى تفضي إلى (أنسنة) الرغبة، فيما الثانية تؤدي إلى (حيونتها). ولعلّ الفكرة الأمّ في قصيدة (المناجم) تقوم على أن (الجنس) فقَـدَ ميزة من ميزاته الأساسية، وهي (اللذة) الخالصة بمعزل عن عملية (الإنجاب). وهذه هي الفكرة التي تلحّ عليها هذه القصيدة، علاوة على تحوّل (الجنس) إلى صناعة، أو وظيفة ترتبط بـ (المنفعة) شأنها شأن أية سلعة أخرى، وهذه إحدى القضايا الأخلاقية التي تضطلع بها قصيدة (المناجم) بتجليتها عبر التحرّر من قيود (الشعر) ومن قيود (النثر) معاً. وما قصيدة النثر الجديدة في (خواتم) سوى محاولة لتحرير (الشعر) من براثن العبث في اللغة والمعنى والتصنّع الزائف في الشكل الشعري.
ويتطلّع أنسي الحاج ـ عبر إثارة مسألة التشويه المزدوج للجنس والشعر ـ إلى طرح فكرة جديدة تُطابق بين الجنس بوصفه قيمة خالصة، والشعر بوصفه قيمة خالصة أيضاً، ففي كلا النوعين، ثمة بداهة تقتضي أن نحافظ عليها لكونها ميزة جوهرية فيهما.

-4-
إبادة صامتة للغة

يودّ أنسي الحاج ـ عبر مخاطبة صِنْفَي القراء الاجتماعي والثقافي ـ أن يفجّر قضية الجنس ذات المساس بالبنية الاجتماعية الراكدة في المجتمع العربي، ومن ثمّ البحث في إعادة هيكلة مفهومية. وإذا كانت هذه معالجة أخلاقية، فإن المعالجة الأخرى التي طرحت جنباً إلى جنب معها هي معالجة فنية تتعلق بشجب محاولات الإجهاز على اللغة الشعرية من جانب وسائل الاتصال الحديثة.
وهو يتنبّه إلى وسائل الإبادة الصامتة التي تتعرض لها اللغة الشعرية، تلك التي سكنت الذاكرة العربية لقرون خلت على أنها لسان العرب، ووعاء مخيالهم، وسكن كينونتهم.
لكن الشئ الجدير بالاهتمام في مسألة التشويه المزدوج، هو أن الإجهاز يأتي من وسائل التحديث نفسها، التي دافع عنها هذا الشاعر في يوم من الأيام، بوصفها حلاً لإشكالية تخلّف المجتمع العربي ومؤسساته من جهة، وتخلف أفكاره وثقافته من جهة أخرى. الحداثة، إذن، تصيب الشعر في مقتل اللغة وتصيب الجنس في مقتل اللذة.
إنّ الجنس مفهوم عويص في الثقافة العربية، حتى أنّ المعاجم الأساسية لا تطلقه على المفهوم الذي نستعمله في كتاباتنا الحديثة. فالحديث عن هذه الكلمة يرد في المعاجم مقروناً بكلمة أخرى هي (النوع). وهكذا، فإنّ معناه كما يرد عند أئمة اللغة هو: الضرب من كلّ شيء، والجمع أجناس، وهو أعمّ من النوع، يقال الحيوان جنس والإنسان نوع لأنه أخصّ من قولنا حيوان، وإن كان جنساً بالنسبة إلى ما تحته، والمتكلمون على العكس يقولون الألوان نوع والسواد جنس. أما الجنس بمعناه الذي نستعمله في كتاباتنا الحديثة، فالعرب تستعمل ألفاظاً تدلّ كلها على الجماع بتسميات ومرادفات مختلفة. وقد يرشدنا ذلك إلى معنى اقترانه وتخصصه بالإنجاب وظيفةً أصلية، خلاف الفرضيات التي تردّه إلى لذة مجردة، أو ممارسة عبثية، أو مجرد حاجة عضوية، أو ردّ فعل على عمليات الكبت.

-5-
الموقف من الحداثة

عقب الانتهاء من قراءة (مقدمة الديوان)، و(النصوص الشعرية)، سنكتشف أنّ هذا الشاعر المحسوب على جيل الحداثة العربية يحارب على جبهتين: تبنّي التحديث الاجتماعي، والدعوة إلى تغيير بعض القيم الراكدة، ومقارعة التحديث الثقافي بثوبه الجديد الذي تزركشه وسائل الاتصال، ووسائل الميديا على وجه الخصوص. ويبيّن هذا التبنّي والرفض نزاعاً خفياً في نفس أنسي الحاج، فتبنّي مشروع التحديث الاجتماعي لا يعني ضرورةً تبنّي مشروع تغييري جذري للغة الشعرية عبر لغة الميديا وثقافتها. وتحديث اللغة الشعرية لا يقصد به طلاؤها بطلاء العصرنة، إنما اكتشاف نظام جديد لعلاقاتها، ووسائلها الأسلوبية القادرة على الانطباع بطابع الإشكالية التاريخية التي أنتج فيها النص.
واستناداً إلى هذا النزاع المزدوج في (خواتم)، فإنّ القراءة النقدية تسعى إلى معاينة الأثر الفني معاينتين مزدوجتين أيضاً: معاينة النصّ الشعري كونه مشروعاً جمالياً يطرح صيغة جديدة لقصيدة النثر. وهذه القراءة تحاول أن تكشف عن الطابع الشعري الكامن في عناصر النموذج الجديد، إضافة إلى معاينة تأطير هذا المشروع برؤية فكرية تهدف إلى إضاءة زيف المفاهيم المتداولة في زماننا.

-6-
قانون النثر في خواتم

عندما صدرت خواتم في سنة 1991، كانت الشعرية العربية تمرّ بازمة فنية حقيقية أوصلت معظم نماذجها إلى طريق مسدودة. وإذا كانت سنة 1991 حاسمة في التاريخ العربي الذي تعرّض إلى هزّة حرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء) وما أعقبها من هزات ذات صلة بها، فإنّ هذه السنة كانت حاسمة في تحوّل الشعرية العربية من شعرية قائمة على (بلاغية اللغة) وما يصاحبها من أثر صوتي وتصويري خلاّب، إلى (مابعد البلاغة) وما في ذلك من سحر كشف الغطاء عن الدور الجديد للـ (الدلالة) في الشعرية الجديدة. وكان من أبرز وجوه هذا الدور استثمار قسم من تقنيات الكتابة النثرية
1- النثر الفلسفي: وهو النثر الذي يذهب بالدلالة إلى أقصى مديات الغرابة والاكتشاف والتأثير. واللغة في هذا النثر مركّزة ودالة على نحو ليس للبلاغة التزيينية فيه دور في تشييد المعنى. إنما اللغة في هذا البناء تتطابق مع المعنى بصورة تقلل الحاجة إلى التأويل. وقد اتصفت قصيدة النثر في النصوص الفلسفية في (خواتم) بصفة البناء المنطقي القائم على الفرضية والبرهان:
اللذة الجسدية (روحيّة)، أجل، والمتعة الجنسية ليست محض لحم ودم، إطلاقاً، بل هي برهان على ما يستعملها الملحدون الماديون للدلالة على بطلانه: برهان على أن الجسد بداية لا نهاية، وأن الماديّ هو شكل الروحي، هو شكله فقط لا بديله ولا نقيضه.
اللذة برهان دينيٌّ.....
2- النثر الأسلوبي: لا نعدم أن نجد في نموذج قصيدة النثر في (خواتم) استثماراً لبعض الأساليب البلاغية على الرغم من إفادة هذا النموذج من الخصائص التداولية للغة. ويبرز (الإيجاز) كونه الشكل الأنسب لدور (الدلالة) الجديد في قصيدة النثر:
1- كل المطارح أدعى من السرير للمداعبة.
2-لماذا أتوب عن هذياني الجنسي وهو أكثر ما يعيدني إلى الفردوس؟
3- صوت حميم كالنشوة، وفيه عربدتها ملجومة.
4- كل اللهب في هذه النظرة المتحجرة.
5- عندما يرميك الشبق بين أحضان جسدك يستنير محياك كملاك.
3- النثر المستقل: في الوقت الذي تحولت فيه قصيدة النثر إلى نصّ متماسك تقوم (اللغة) فيه بوظيفة تمتين العلاقات الدلالية بين الجمل الشعرية، وتفضي هذه العلاقات إلى خلق إيقاع متصاعد تختتم به الوقفة الدلالية، فإنّ قصيدة النثر في (خواتم) تنشد الاستقلالية اللغوية للجملة، حتى يخيّل للقارئ أنْ لا رابط بين الجمل. بيد أنّ الحصائص النوعية التي تصيّر هذه الجمل الشعرية المستقلة نصاً، تعود إلى الدلالة أيضاً؛ دلالة الموضوع والمعاني المتصلة به. ولذلك فإن البناء المقطعي المركّز الذي يعمد أنسي الحاج إلى تكريسه بفواصل رمزية من فواصل الكتابة، لا يبدو سوى مظهر خارجي من مظاهر هذا النموذج، ووحدة النص تتكفل بها وحدة (الدلالة)، على النحو الذي تتضح فيه في المقاطع الثلاثة الآتية، حيث الشهوة هي مدار الدلالة:
اللقاء ياسيدتي لا البقاء
*
تمامُ غُلْمَتك همتي وصفائي
*
الشهوة تُحَرِّرُ أكثر من الحقّ
4- النثر التقريري: ويلجأ إليه أنسي الحاج عندما يتقمص دور الناقد، ويقدّم رؤية نقدية جذرية لبعض التقاليد الراكدة. ولعلّ من مسوغات هذا اللجوء، الرغبة في تكريس مركزية جديدة للـ (الدلالة) لا (البلاغة). عندما تتضخم القيم الفاسدة، تشتد الحاجة إلى (وضوح الدلالة)، وتميّز الفكرة. هذان المعياران كانا من أبرز خصائص قصيدة النثر في ديوان (خواتم)، وهما خلاصة قراءة تاريخية لقيم الواقع العربي في أطيافه المختلفة، كان أنسي الحاج قد قرأ بموجبها تلك القيم ووجد نفسه يلبس لبوس الشاعر والمصلح معاً. ونظراً لهذا الدور، فإنه يخرج عن ذلك الذهن التجريدي المركّز؛ الذهن الذي أنتج (الإيجازات) التي ذكرنا قسماً منها، ويتحول إلى داعية يتقمّص دور الخطيب، كما في هذه الفقرة التي أقتبسها رغم طولها ليكون القارئ على بيّنة من التحوّل الأسلوبي بين مقطع مركّز تركيزاً شديداً، إلى مقطع تقريريّ الأسلوب، لكنه يتوسم قوة الدلالة وجرأة الفكرة:
مما أبحث عنه في الأدب الاروتيكي قلم امرأة (امرأة حقاً لا اسماً مستعاراً لرجل) تكتب عن نفسها وعن الرجل بدل أن يظلّ الرجل يكتب عنها وبلسانها.
امرأة لا تتوقف عند حدود الجرأتين الكتابية والاجتماعية، فهما أقلّ الجرآت شأناً، بل تتعداهما إلى الجرأة الوجدانية
والنفسية والجنسية، فتصوّر لنا أكثر وأعمق مما اعتدناه من مشاعر وتجارب مللناها، فضلاً عن أنها بالتأكيد ليست هي أهم ولا أجرأ ولا أعمق ولا أصدق المشاعر والتجارب.
قلم امرأة يقول ما لا يقال، أيضاً، وفي اتجاه الرعشة الخلاّبة الحارقة لا في اتجاه التقزيز والوقاحة الاستفزازية البشعة المعقَّدة من الرجل، من أسخف ما في الرجل، كما حصل في بعض الكتابات النسائية الغربية.
5- النثر الباسكالي: بوسعنا أن نصف قصيدة النثر في (خواتم) بأنها (قصيدة شذرات)، ترتبط بعلاقة مشابهة قوية مع (شذرات) باسكال في كتاب الخواطر. بل إنّ الموضوعات الرئيسة التي طرقها باسكال، يعيد طرقها أنسي الحاج في هذه الشذرات، هنالك حديث عن الله والإنسان والأسلوب والخطيئة، وهنا حديث عن ذلك أيضاً، إذ كما يقول أنسي: يحضر موت الكاتب نفسه في بعض الجمل، في بعض التجارب خاصة.
إنّ هذه (الشذرات المركّزة) يجد فيها حلاً جمالياً لمحاولات محو الهوية الخاصة للـ (اللغة): الصافية، الشعرية، الروحية، المغامِرَة، المُسْتَنفِزّة، المطلقة، الحقيقية، اللغة الإنسان نفسه. وهو يعبّر في المقدمة عن انزعاج من المدّ اللغوي الجديد، الساحق بأقدامه خواصَ اللغة التي أشرنا إليه. وهو لا يرى في (اللغة) وسيلة، إنما هي الكائن نفسه، حياته مقرونة بحياتها والقضاء عليه يعني القضاء عليها أيضاً. وهو يسوق الحديث عنهما مساق من يتلمّس أزمة انطولوجية خلقتها الثقافة الجديدة. وهو يعاني من هذا المدّ، لأنه ربيب اللغة الصافية، والمربوط معها برباط قدسيّ، تعطيه التميّز ويعطيها الاتساع، يلذّ بها لذة المكتشف، وتلتذّ به لذة الفاتح.
لا تشتمل هذه الشذرات على ثراء زخرفي في الأسلوب، ولا على تنوع في الشكل والعناصر الفنية، بل الرغبة في تحوير الوظيفة الجمالية إلى وظيفة دلالية. ولعلّ ذلك راجع إلى الأزمة الفكرية والأخلاقية والحضارية التي يعاني منها المجتمع لعربي، وأراد أنسي الحاج أن يعبر عنها بهذا النموذج الشعري. وكانت هذه الشذرات تحمل في باطنها حركة تلك الأزمة في وجوهها المتعددة.

-7-
الأزمة الأخلاقية في الجنس

تقدّم (الشذرات) رؤية جمالية للشعر، ورؤية ثورية تقلقل المواضعات اليقينية الراكدة الخاصة بالجسد والجنس واللذة. والسؤال الذي يلحّ عليه هو كيف نفرّق بين (الجنس) و(التناسل)، وهو يرى في الأول بداهة الطبيعة، وفي الثاني منفعة الحضارة. وإذا كان (الإنجاب) يأتي تالياً لرتبة (النشوة) في العملية الجنسية، فإنه ينتقد الانزياح الذي وقع في نظام الرتبة هذا، بسبب التطور المادي في القرون الأخيرة:
عندما ألفظ كلمة جنس لا أعطي التناسل إلاّ أقل حجم من معاني الكلمة، وأغلب الأحيان أنساه تماماً.
وإذا كانت النظرة الأخلاقية التقليدية تعزل بقوة بين (الجنس) و(الحب)، فإنّ الشذرات تفترض وحدة بينهما بشكل مطلق:
الجنس يلأتي معه بحبه.
ويغتنم أنسي الحاج ما في (النثر الفلسفي) من قدرة على التأمل والنفاذ إلى ما وراء الأشياء والمعاني. وبسبب هذا التأمل فإنّ (التعري) و(العري) مفهومان مختلفان في (خواتم) استناداً إلى (مقياس الزمن)، وإلى (فائض القيمة)، إذ يكفل المفهوم الأول امتداداً في الزمن و (فائض لذة)، خلاف المفهوم الثاني؛ الراكد، وغير المدهش.
وتحطيم مفهوم (العادة) هو الرؤية التي يتبناها أنسي الحاج في فرضيته حول الجنس. وكأنه يدين بدين مونتين الذي يذهب إلى أن ' العادة تجعل الإنسان أليف المكان الذي زرعته فيه الطبيعة'(خواطر باسكال/ص43). ولا شكّ في أن باسكال كان يأنس بفكرة تحطيم (العادة)، ويلحّ عليها في أكثر من موضع في (الخواطر)، فالإيمان عنده اختيار لا (عادة) موروثة، ولذلك قال: إنه لمحزن أن نرى هذا العدد من الأتراك والهراطقة وغير المؤمنين يسلكون طريق آبائهم لا لسبب إلا أنه سبق في تصوّر كل منهم أنه الطريق الأفضل.(الخواطر/ص3).
العادة، إذن، مرض معرفي يتعين علاجه بكسرها، والخروج على المألوف، وحيازة المدهش، وأصبحت هذه الحيازة فلسفة للجسد في (خواتم). وتهدف عملية تفعيل الجسد إلى تأهيله لانتزاع حقه الأنطولوجي. لنرى كيف يصوّر هذا المعنى في هذه الشذرات:
1ـ لا أحبّ عريَ المرأة وهي غافية. أريدها حاضرة لتعيه، لتؤهله، ليجرفها، لتشرف على دواره ودواري.
النوم يحيّدها، يلغي (الموقف)، ويجعل مفاتنها حرفاً ميتاً، فائحاً برائحة الإهمال واالحقيقة.
2ـ بعضهنَّ تلفظهنَّ النشوة إلى شاطئ السرير كما لفظ البحر سمكة لتموت.
3ـ التعرّي لا العري
تعرٍ لا نهاية له
يكشف التعري في الطبيعة الخارجية (تعرّي الصخور مثلا) عن فعل متجدّد، ومع تجدّده ثمة شكل جديد. ويرافق ذلك دهشة لا تستقرّ على حال أبداً، تتزامن مع الفعل والشكل الجديدين. إذ يزيح التعرّي النقاب في كلّ مرة عن طبيعة جديدة مدهشة. وهذا فعل مكرور، غير منته، تكمن في أفعاله لذة بصرية وتحفيز جديد، وانبهار بالكشف الدائم.
وما المقابلة بين (العري) و(التعري) سوى أن الأولى تجري على وفق (العادة) والثانية تكسر نظامها، الأولى محدودة (الزمان) فيما الثانية أكثر امتداداً. ويرغب أنسي الحاج في المطابقة بين (اللذة) و(التعري) لكي يعقلن هذه العملية، فيجعلها تجري ضمن نطاق (الشعور) و(الإدراك) بالمفهوم الظاهراتي لهما. أي أن الشعور هو الذي ينتج (المعنى) الخاص، وهو اللذة الأزلية المتجددة. وكما قلت، فإن أنسي الحاج يقدّم في هذه الشذرات طرحاً فلسفياً أكثر منه شعرياً. وتتكفل هذه الشذرات بوصف (نظام الملذات)، التي يعتقد أنها تجري أو تتصارع بموجب (نظام) ذي مزايا عقلانية كالدقّة والصرامة والرهافة:
تتبع الملذات نظاماً خاصاً بها، دقته أكثر صرامة ورهافة من دقة النظام الرهباني
إنّ هذه (الشذرة) وغيرها، تشكو من الحشو والنثرية، كان بوسعه أن يقول: تتبع الملذّات نظاماً أشدّ صرامة ورهافة ودقّة من النظام الرهباني. ومع ذلك، فإنها تظلّ ذات صياغة تقريرية، إذ بوسعه أن يجعل كلمة (تتبع) أكثر بلاغة أو أسلوبية ليتحاشى الوقوع في مأزق (التقريرية)، وسوف يساعد هذا في توهّج العبارة. كذلك يمكن تعويض الكلمات المعطوفة على بعضها بكلمة جامعة، علاوة على تحويل وجهة العبارة من صياغة منطقية، إلى عبارة موشاة بخواص شعرية. لكنه لم يشأ ـ في هذه الشذرات ـ أن بيستعرض براعته في سبك العبارة سبكاً بلاغياً على طريقة الحداثة العربية في الربع الأخير من القرن الماضي، بل إنه كان يحسّ بوطأة معضلات فكرية وأخلاقية وحضارية، ويرغب في أن يتفلسف للخروج من المأزق المعرفي والثقافي والأخلاقي ولعلّه يتطلع عبر شذور الخواتم، أن يبرهن على أن الشعر لم يكن قيمة متعالية تتجاوز معضلات من النوع الذي عالجه في خواتم، إنما جزء من المعضلات نفسها: تشويه المفاهيم كافة، يفضي إلى تشويه جوهر الشعر واللغة ضرورةً.
نقلا عن مجلة شعريات 2007