-2-
أدونيس والنقد الجذري لقراءة النص القرآني
ترتكز مراجعتي المتواضعة هذه، على التوقف عند النقد العقلاني الذي زاوله الجابري وأدونيس وأركون لمفهوم ( القراءة ) في الفكر الإسلامي. فالمراجعة تركز إذن على مقاربة هؤلاء الثلاثة لمفهوم القراءة فقط، ولا تتعدى ذلك إلى تقديم مراجعة شاملة لمشاريعهم الفكرية، فتلك مهمة لا يمكن تحقيقها إلا في كتاب كامل. يختلف الثلاثة في عدة أشياء لكنهم يتفقون في أن نمط ( القراءة) التي مورست في الفكر الإسلامي لا ترقى إلى مستوى التحرر من الهيمنة المطلقة والمقدسة التي يمارسها النص المقروء على المفكر الإسلامي. الفطنة إلى تحرير القراءة من تأثير المقروء المقدس، هي اتجاه في الفكر العربي المعاصر الذي بات ينظر بعين المقارنة بين مستويين تفكيريين مختلفين كل الاختلاف في عالمين متجاورين

الفكر العربي وممارسة العقلانقدية (1/3)

ومتصارعين في آن هما: الغرب، والعالم العربي. وتحت التأثر بطرائق التفكير في الحضارة الغربية التي تقدّم نفسها بافتخار بأنها الحضارة الوحيدة القادرة على نقد ذاتها بذاتها كما يقول كارل بوبر، فإن أدونيس يمارس في كتابه: النص القرآني وآفاق الكتابة، طريقة إلغاء ( المنهج) الذي يسميه: النفق، ويقوم بالقراءة التي يسميها: الأفق، يقول:
إذا كان، بمعنى ما، قراءتَه ndash; أي كيفية قراءته، وكان مستواه تابعاً لمستوى هذه القراءة، دقةً وفهماً وغنىً، فإن للنص مستويات متعددة، تَعدُّد قراءته. انطلاقاً من ذلك، يمكن أن نطرح هذا السؤال:
ما مستوى القراءة السائدة للنص القرآني؟ والجواب كما يبدو لي، هو أن في هذه القراءة ما يشوش الأفق المعرفي الإسلامي، وفيها كذلك ما يقلص الرؤية إلى العالم والإنسان والأشياء. إنها بالأحرى قراءة لا تجعل من هذا النص أفقاً، بقَدْر ما تجعل منه نفقاً. والسبب في ذلك عائد إلى أمور كثيرة بينها، على اخص، تغليب المنظور الشرعي، بحيث تبدو الشريعة أساساً وحيداً للفكر والعمل، للكون والأشياء. وهي في هذا قراءة تغلّب، بالضرورة، المنظور الأيديولوجي ndash; السياسي.


ويلح أدونيس دائماً، على نمط من القراءة، لا تسقط في: أفق التثبيت التقديسي، بل في أفق المراجعة والنقد والتجاوز ndash; على أساس الاحترام الكامل لحرية الرأي. ونضيف إليها، أفقاً آخر هو: تعددية الرؤية الاجتماعية والثقافية إلى العالم، في التراث والتاريخ العربيين، وتعددية التفكير، ومصادره، والطريقة التي ينظر فيها إلى الواقع والفكر.


هذه ( التعددية)، لم تكن غائبة عن مشروع أدونيس الفكري، وتنطوي كتبه على إشارات كثيرة لهذه التعددية، وهو يتطلع عبر تلك الإشارات إلى تحرير ( القراءة) من الطريق ( النفقية) إلى الطريق ( الأفقية). ولا شك في أنه يتحدث هنا عن قراءة النص القرآني الذي كان عرضة لقراءات المفسرين والفقهاء والفلاسفة والبلاغيين والمؤرخين وسواهم. هذه القرءات التي أنتجتها الثقافة العربية الإسلامية، إنما تلتقي في نقطة واحدة، هي أنها تصادق على معنى وتكرسه، ولا تملك الأداة المعرفية القادرة على خلق قراءة نقدية للنص المقدس. وأدونيس يعدّ ذلك جرحاً معرفياً في الثقافة العربية.


لذا يطرح باستمرار سؤالاً ابستيمولوجياً، على التراث العربي الإسلامي، بخصوص حيازة (المعرفة)، وتأسيس المعنى بارتباطه بتلك الحيازة. هذا السؤال، أو الأسئلة حقيقةً، هي ليست بنت الواقع الثقافي التقليدي في العالم العربي، واقع المصدر الواحد أو تعدد المصادر وواحدية الخطاب المعرفي، إنها بنت الواقع النظري والمعرفي الذي أخذ يتسلل إلى الثقافة العربية منذ سبعينيات القرن الماضي، يوم أصبحت ( اللغة) لازماً معرفياً لكل العلوم، ويوم أصبحت العلوم كلها تنهل من مصادر المعرفة اللاتاريخية، التي أوجدت ( النقد الجذري)، وأوجدت العمل على استكشاف ( القانون)؛ أعني المعيار المتحكم بمصادر المعرفة. وتحولت الظواهر والنصوص، إلى ( قوانين) لكن ليست تلك القوانين المتشكلة بوسائل المعرفة التقليدية، إنما القوانين المكتشفة بوسائل المعرفة الجديدة وهكذا، وجد أدونيس الجوّ مناسباً لكي يتساءل:
أفلا يعني ذلك أن التزامي بالمعنى المسبَّق يفرض أن يكون فكري استعادة quot; دائمةquot; له؟ لكن حين لا يكون فكري إلا استعادة لا أكون إلا إله، ولا يكون لي حضور بوصفي ذاتاً تفكّر وتفصح عن فكرها الخاص بكلامها الخاص، بل لا يكون لي حضور في اللغة نفسها ndash; بوصفي مفصحاً عن ذاتي. وقد يتساءل العربي ndash; المسلم مواصلاً اعترافه: هل أُسِّس المعنى المسبَّق على تغييب المعاني كلها ndash; ماضياً وحاضراً ومسقبلاً؟.


أفلن يضعني إذن هذا المعنى في حالة دائمة من الهرب: الهرب من نفسي، والهرب من الواقع، والهرب من التاريخ؟ ألن أكون كمثل ضحية تذبح في فراغ بلا حدّ تقدمه لفراغ بلا حدّ؟ وقد قول: حسناً في النصوص ndash; الأصول، كل معرفة هي صالحة للحاضر والمستقبل، كما كانت صالحة للماضي. لكن السؤال هنا هو: لماذا تحصر معرفة هذه المعرفة في السلف ونصوصهم؟ ألا تعني صلاحية النصوص ndash; الأصول للحاضر تحريرها من إطار معرفتها الماضية، وصلاحيتها للمستقبل تحريرها من معرفتها الحاضرة؟.


وهكذا تبدو الأسئلة التي يطرحها أدونيس، أقرب إلى أسئلة الثوري منها إلى أسئلة المفكر، فهو يريد أن يجعل من الماضي والحاضر والتاريخ والواقع والذات مفهومات متغيرة باستمرار، وقيمة المعنى تنبع من الرؤية والتجربة الذاتية الفردية لا من طريقة تغييبهما بافتراض المعنى المسبّق. ومشكلة المعنى تتجاوز في مشروع أدونيس طريقة حصره بين قُطْبَي: النص، والذات، وهو دائماً، منذ الثابت والمتحول، يبحث في هياكل النظم المعرفية، التي تطالب بحقوق ملكية المعنى المطلق، سواء أكانت من داخل التفكير المؤسسي للفكر العربي، أو من داخل مؤسسية السلطة والقوة. ولذلك، هو يبحث في المصادر الخارجية التي تتحكم في توجيه ( المعنى)، مصادر السلطة بمعناها الشمولي، في السياسة، والدين، والمجتمع، والثقافة.


والمعنى عنده، يتشكل من خلال التحرّر من مصادر ( التحكّم) الخارجية، ولذلك يعتقد بأن: التراث أفق معرفي. والأفق، كما ذكرنا، هو مفهوم على النقيض من مفهوم: النفق. فالأفق هو انفتاح القراءة على الفردانية، ونبذ المؤسسية، واستبدال المصادر التقليدية للمعنى، تلك التي تزودنا دائماً بمعرفة مسبّقة. ومن هنا، فإن هذا الأفق، بالنسبة لأدونيس:
ينبغي استقصاؤه باستمرار، لكن مفهوماته وطرائق تعبيره غير ملزمة أبداً. والشاعر الخلاق هو الذي يبدو، في نتاجه كأنه طالع من كل نبضة حية في الماضي، وكأنه، في الوقت نفسه، شيء يغاير كل ما عرفه هذا الشاعر.


إنّ مصادر أدونيس، في الحديث عن مشكلتي: المعنى، والمعرفة، لا يغلب الفكر المنتمي إلى نظرية تعود إلى العلوم الإنسانية المعاصرة، التي انتهت فيما يتعلق بالنص والمعنى، إلى فرضية: التفاعل بين النص والقارئ، أو الظاهرة والمفسِّر. بل تغلب عليها ( المعرفة الحدسية)؛ المعرفة الصوفية، والشعرية معاً. ولذلك نراه يقول: المعرفة هي [...] علاقة اتحاد بين الذات العارفة والشيء المعروف.


قراءة أدونيس هذه، التي تريد أن تتمرد على خطوط نقل ( المعنى)، وتكرار تشكيله بصورة مستمرة في نظام الثقافة العربية، هي إحدى القراءات المؤثرة في ثقافة السبعينيات والثمانينيات، إذ فتحت طريق: التأويل، والتفكيك، والنقد الإبستيمولوجي لطرائق التفكير العربي الإسلامي.
ولذلك، يصف إدوارد سعيد قراءة أدونيس بأنها دراسة نقدية لتيارين كبيرين في الثقافة العربية الإسلامية:
يسمى التيار الأول ثقافة الخليفة: إنها الثقافة الرسمية، والتي لا ترتبط بالقوة فحسب، بل بالسلطة أيضاً، وبقراءة مقيدة جداً للماضي والتراث، تغذيها وتدعمها المؤسسات الاقتصادية، والسياسية، والدينية. وترتبط، قبل أي شيء آخر بمجموعة من المعاني الثابتة التي تُستعاد وتكرر باستمرار يطلق عليها اسم الثابت كما في العنوان الذي استخدمه. ما يعارض دلياً هذا التيار هو ثقافة الإبداع، والتمرد، وإعادة التأويل، والخلق، والمقاومة، والتنوع. ومنها جاءت ثقافة الطبقات الأدنى غير الرسمية وغير التراتبية، ثقافة الخوارج، والصوفيين والشيعة؛ وكانت تجسد حيوية الثقافة العربية الإسلامية، رغم أنها، كما يظهر أدونيس، هرطوقية، هدامة، فوضوية على نحو عميق.

ناظم عودة

[email protected]