يخطئ من يعتقد بأن السياسة الإيرانية منذ القدم بنيت على اعتبارات داخلية محضة. ويبدو من السذاجة أن تطلب من دولة أن لا تتطلع إلى لعب دور إقليمي أو عالمي. وقد مارس العرب أنفسهم هذا الدور مستغلين الوضع التاريخي في عصور الإسلام الذهبية، فتمددوا شرقاً وغرباً وشمالاً، حاملين الرؤية الإسلامية ومُخضعين الشعوب طوعاً أو قسراً إلى الإيمان أو دفع الجزية وقبول الحكم الإسلامي بكل وجوهه.
يستند التطلع الإقليمي الإيراني إلى اعتبارات عديدة، من بينها: الاعتبار الأيديولوجي/الديني، الاعتبار الاقتصادي، الاعتبار العسكري، الاعتبار التاريخي. ويمكن لنا، أن نسلّط الضوء على هذه الاعتبارات بغية التعرّف على الدوافع الحقيقية التي تحرّك العصب السياسي الإيراني باتجاه لعب دور إقليمي أكبر. يعطي الاعتبار الأيديولوجي/ الديني، إيران فرصة كبيرة لتعزيز وجودها في بنية النسيج الاجتماعي في الشرق الأوسط وبعض مناطق آسيا ووسط أفريقيا وشمالها، وفي مناطق متفرقة من العالم الغربي. وتعوّل إيران كثيراً على وحدة الشعور الشيعي، ووجود طائفة شيعية مهمّشة ومضطهدة وبعيدة عن النفوذ السياسي ومراكز القرار، وهي تدعم هذه الطائفة أينما وجدت، علناً أو سراً. وكنوع من الدهاء السياسي الإيراني، فإنها تستثمر هذه الطائفة دعماً لترويج رؤيتها السياسية والفكرية، ودعماً لسعيها لتكون قوة مؤثرة في سياسة المنطقة باعتبارها مرجعية عقائدية وسياسية للطائفة الشيعية في العالم. ومن هنا، فإن غالبية الحكومات العربية ذات حساسية سلبية حيال أي تحرّك إيراني في المنطقة أو في داخل بلدانها. وقد حذّر العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني من هلال شيعيّ يضمّ العراق وسورية ولبنان وقسماً من فلسطين، مما دفع مسؤولاً إيرانياً رفيع المستوى إلى الردّ على ذلك بأن: إيران تتطلع إلى بدر شيعيّ [ يمكن الإطلاع على المقابلة مع الملك عبدالله الثاني في جريدة الشرق الأوسط عدد 24 يناير 2007 ]. وهو السبب نفسه الذي جعل الموقف الأردني يتطابق مع الموقف المصري حيال التغيير السياسي في العراق، الذي خلق نفوذاً سياسياً لإيران داخل العراق، وخرقاً استخباراتياً لكلّ المؤسسات الحساسة في الدولة.
ومع كل المراقبة الشديدة، فقد نجح الدهاء السياسي الإيراني في اختراق البلدان العربية، واختراق سياسة الشرق الأوسط على نحو لا يمكن معالجته بطريقة سهلة أو سريعة. إنه تغلغل فكري سياسي استراتيجي، فمن بين خمس دول محيطة بإسرائيل تؤثر إيران تأثيراً كبيراً في سياسة ثلاث منها [ لبنان، سورية، فلسطين] أي بنسبة 60%. وإذا أضفنا العراق، فإن نسبة التأثير في مجمل الدول العربية الآسيوية [ مصر، الأردن، لبنان، سورية، فلسطين، العراق، البحرين، اليمن، السعودية، الكويت، سلطنة عمان، قطر، الإمارات] ستكون حوالي 25،12%. ولاشك في أن النسبتين كبيرتان مقارنةً بالدور المصري أو السعودي الأكثر تطلعاً إلى لعب هذا الدور. لقد تراجعَ الدور المصري في الشرق الأوسط على نحو مخجل نظراً لتزايد المشاكل السياسية الداخلية وضغط التيار الأصولي، وتجاوزات حقوق الإنسان التي تجلّت في إجراءات الحكومة بحقّ أيمن نور وسعد الدين إبراهيم، والقمع الذي يتعرض له أقباط مصر، مما أفقد الحكومة الدعم الأمريكي سياسياً واقتصادياً. وقد فقدت مصر امتيازاتها التأثيرية في فلسطين بسبب خلافاتها مع حماس، وفقدت امتيازاتها التأثيرية في سورية بعد رحيل الرئيس حافظ الأسد وتطور العلاقات السياسية بين إيران وسورية في عهد الرئيس بشار الأسد الذي شكّل حلفاً استراتيجياً مع إيران. ولم تحسن السياسة المصرية التعامل مع الحدث العراقي، فالموقف المصري من ذلك كان نفعياً، فتارة يُعَدُّ نظام الرئيس حسني مبارك من أشد منتقدي سياسة صدام حسين وقد تحالف مع الولايات المتحدة وبعض الدول العربية مرتين لإسقاطه؛ الأولى في حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت، والثانية في حرب تحرير العراق من نظام الدكتاتور صدام. وتارة تحتضن أبرز القيادات البعثية المدافعة عن النظام السابق. وفي مقابل ذلك، لم تتبنَ مصر سياسة واضحة حيال ما جرى في العراق، سوى التصريح بعدم تدخلها في الشؤون الداخلية العراقية، لكنها كانت تغضّ الطرف عن الجماعات الإرهابية التي تتسلل إلى العراق قادمة من مصر نكاية بالموقف الأمريكي من مصر، وعدم رغبة في مساندة نظام الحكم العراقي الجديد الذي قضى على احتكار السنة للحكم وأشرك الشيعة والأكراد بصورة أساسية، وهو ما قلل من غلواء الوجه القومي العروبي للعراق. وبعد التغيرات السياسية في لبنان، بعد مقتل رفيق الحريري ووضوح الأجندة السياسية لحزب الله وبعض التيارات السياسية ذات العلاقة الطيبة بسورية، فإن الدور المصري يشكل تراجعاً مستمراً في هذه الدولة. وعبر تاريخ السياسة المصرية، كانت دول الخليج العربي بعيدة عن الاحتواء المصري نتيجة لأسباب أيديولوجية واقتصادية وسياسية.
ولم يكن حال المملكة العربية السعودية بأفضل إلا في علاقتها مع بعض التيارات السنية في لبنان. ولم تتمكن المملكة من الحصول على إجماع خليجي لقيادة هذه الدول سياسياً، فقد كانت دول الخليج بسبب الكفاية الاقتصادية تمتاز بنوع من الاستقلال السياسي الذي يصل أحياناً إلى خلافات حادة كما هو الحال بين قطر والسعودية، أو بين قطر والبحرين حول جزر حوار المتنازع عليها بينهما. ومع أن غزو صدام حسين لدولة الكويت، وفّر الفرصة لتقارب ما بين هذه الدول، إلا أن تلك الاعتبارات تحولت إلى نقاط اختلاف بسبب تطور الوضع السياسي الدولي، وتطور الصراع في الشرق الأوسط. وقد ساهمت ثلاثة أطراف في تقويض دور مصر والسعودية في الشرق الاوسط:
- الولايات المتحدة بخلافاتها مع المملكة بعد حادث 11 سبتمبر، ومع مصر بسبب ممانعتها ومراوغتها في إجراء إصلاحات ديمقراطية على نظام الحكم.
- سورية، ودورها في فلسطين ولبنان والعراق.
- إيران، ودورها في الدول ذات التأثير المباشر في قضية الشرق الأوسط.
تشتبك إيران بعلاقات معقدة مع دول المنطقة العربية من جهة، ومع الدول التي لها مصالح في الشرق الأوسط من جهة أخرى. ويطغى التوتر على علاقة إيران بغالبية الدول الغربية وغالبية الدول العريية، وخلافها مع الغرب الأوروبي يكاد ينحصر في برنامجها النووي، لكن خلافاتها مع الولايات المتحدة والدول العربية لا تنحصر في ذلك فقط، إنما ثمة مشاكل عديدة وعصية على الحلّ. فالولايات المتحدة، تنظر إلى إيران باعتبارها دولة تناصبها العداء وتسعى دائماً إلى إفساد مشاريعها في الشرق الأوسط. ولذا تنظر إلى تحركاتها في هذه المنطقة بعين الريبة. وتعتقد الولايات المتحدة أن النظام في إيران هو المسؤول عن تعثر عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وهو المسؤول عن عدم إحراز أي تقدم في مفاوضات السلام التي أصيبت بالشلل بعد الخلاف الحاد بين حماس وفتح. وتلقي الولايات المتحدة أيضاً باللائمة على إيران في العمل على زعزعة الوضع في العراق ولبنان، وعلاقتها ببعض الجماعات الإسلامية الراديكالية. ولعل الموقف المتشدد والعدائي الذي تتخذه إيران من إسرائيل والتصريحات العدائية المباشرة التي أطلقها الرئيس محمود أحمدي نجاد سواء تلك التي تتضمن تهديداً لإسرائيل أو تلك التي تتضمن تشكيكاً بالهولوكوست، قد جعل الولايات المتحدة وإسرائيل تنظران إلى التحركات الإيرانية السياسية والعسكرية بخشية كبيرة.
ولم تكن علاقة إيران بالدول العربية بأفضل من الولايات المتحدة، وتأتي في مقدمتها دول الخليج ثم مصر والأردن واليمن. لكن النزاع الإيراني الإماراتي حول الجزر الثلاث الذي أخذ طابعاً تصاعدياً في المدة الأخيرة، يكاد يكون الأبرز في الخلاف الإيراني الخليجي.
إن خوف الدول العربية من التطلع الإقليمي للنظام الإيراني، يرجع إلى الاختلاف المذهبي بين هذه الدول وإيران، ويرجع إلى الإرث السياسي الإيراني الذي عُرِفَ عنه عبر التاريخ رغبته في التمدد الإقليمي داخل الدولة العربية، ورغبته في تصدير الفكر الثوري المناهض لأنظمة الحكم العربية ذات الوجه غير الإسلامي الصرف. وقد اضطرب الحكام العرب اضطراباً كبيراً بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران 1979 وتجلى هذا واضحاً لدى صدام حسين والدعم الكبير الذي حظي به من قبل قادة دول الخليج ليحارب نيابةً عنها لعرقلة مشروع تصدير الثورة الإيرانية إلى داخل هذه البلدان. وبالإضافة إلى هذا العامل التاريخي، فإن ما يثير خشية الدول العربية هو الاقتصاد الإيراني المدعم بثروات كبيرة وصناعة متنامية والمستثمَر من قبل الدولة الإيرانية في بناء قدرة عسكرية استراتيجية، سواء في ميدان التصنيع العسكري التقليدي، أو في ميدان التطلع إلى إنتاج أسلحة استرايجية.
ومن ناحية ثانية، فإن الورشة السياسية الإيرانية تعمل ليل نهار في انتهاز الفرصة لإقامة علاقات مع الدول التي تشاطر الولايات المتحدة العداء، وهكذا التقت المصالح الإيرانية مع مصالح بعض الدول في القارة الأمريكية بغية تأسيس تكتل دولي أو إقامة تحالفات تقف بوجه المارد الأمريكي. وتتمتع إيران بعلاقات متينة مع روسيا، وتعززت هذه العلاقة بعد الخلاف الغربي الروسي نتيجة لغزو الأخيرة الأراضي الجورجية. ومن ينظر الآن إلى مسار العلاقات الدولية، يتلمس بوادر تشكيل تكتل دولي مناهض للولايات المتحدة والغرب، وقبل أيام صرّح بوتين بأن العالم ليس أوروبا والولايات المتحدة فقط. وفي الوقت الذي تعرف فيه السياسة الإيرانية كيف تتحرك وتستثمر التغيرات الدولية فإن العرب يبدون في سبات عميق حيال ما يجري.

[email protected]