عقد السبعينيات، يمكن تسميته: العقد التحويلي، في الرؤية السياسية الإسلامية. إنه تحوّل وانتقال كامل من حصر الإسلام في الجانب التربوي والعقائدي إلى ممارسة ثورية تتخذ الحكم ركناً أساسياً من أركان الإسلام. وترتّب على هذا التحوّل أن انتقلت القيادة من (الزعيم الروحي) المسلّح بعدةٍ فقهية وشرعية، والمنظِّر لفرضية المستبدّ العادل، إلى (الزعيم الثوري) المسلّح بفكر أقرب إلى تطلعات الجماهير وعواطفها؛ تلك الجماهير التي أصيبت بخيبة أمل كبرى في ظل الأنظمة الدكتاتورية وفشلها في التنمية وإيجاد حلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
إن عقد السبعينيات بالنسبة للعرب، يمكن أن نسميه كذلك: عقداً تناقضياً، فمن الانتصار العسكري المحدود (حرب 1973) إلى هزيمة الموقف (زيارة السادات إلى إسرائيل في 1977، وتوقيع معاهدة كامب ديفيد 1978) ومن صعود نظام شمولي لا ديني (صدام حسين 1979) إلى نجاح دولة إسلامية ذات تأثير إقليمي في الشرق الأوسط هي إيران ونجاحها في إقامة نظام حكم إسلامي في سنة 1979، ومن تنامي نزعة فكرية لا دينية داخل الثقافة العربية، إلى تنامي خطاب ديني ثوري النزعة أسفر عن الهجوم على المسجد الحرام بمكة في سنة 1979. ومن ازدياد نشاط الجماعات الإسلامية، وبزوغ نفوذ ثقافي وإعلامي تمثل في اختراق المؤسسات الإعلامية والمؤسسات التعليمية، إلى توجّه الثقافة العربية نحو تأسيس وتعاطي الفكر اللاتاريخي المتمثل في مفهوم: البنية، ففي العام نفسه؛ أي 1979، صدرت وترجمت مجموعة من الأعمال البنيوية العربية، التي كانت بمثابة إعلان ولادة حقل نظري جديد في فهم العالم. لكن، مع كل هذا التناقض، كان التيار الإسلامي الراديكالي يجهّز نفسه بقوة ليخوض الصراع المزدوج مع: السلطة الداخلية، ومع القوى الغربية. ومن ناحية ثانية، انصبّ خطابه الثقافي والسياسي على أنه الممثل الشرعي لمطالب الجماهير السياسية وغير السياسية.
في السبعينيات، وصلت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي إلى الذروة، كان هنا ريتشارد نيكسون (1913-1994 ) ونائبه جيرالد فورد (1913-2006 ) الذي أصبح رئيساً على أثر استقالة نيكسون بعد فضيحة ووتر غيت 1974 التجسسية على الحزب الديمقراطي التي هزّت البيت الأبيض وأفقدته الثقة بنفسه، ثم خلفه جيمي كارتر (1924-... ) الرئيس الديمقراطي المعتدل الذي كرّس مدة رئاسته إلى إيجاد حلّ للصراع العربي الإسرائيلي تكلّل بمعاهدة كامب ديفيد الشهيرة. وفي الطرف الآخر، كان هنالك الرئيس ليونيد بريجينيف (1906- 1982) وهو من أقوى الزعماء الذين أنجبهم الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي. وعلى الرغم من أن جيمي كارتر المعتدل، أستطاع أن يوقع مع بريجينيف معاهدة سالت2 /1979 للحدّ من انتشار الأسلحة الاستراتيجية، لكن ذلك لم يمنع الإدارة الأمريكية من أن تنظر إلى المارد السوفييتي بعين الريبة لقربه من المياه الدافئة في الخليج العربي الغنيّ بالبترول. وكلما تصاعدت أسعار النفط، ولاسيما في العام 1973، كانت الولايات المتحدة تشتدّ حرصاً على حماية مصالحها ومصالح الدول الحليفة في هذه المنطقة الحيوية من العالم. وفي ظل هذه الرؤية الأمريكية، تصرّف الرئيس كارتر تصرفاً قلبَ الهدف السلمي الذي كان يرمي إليه إلى مسوّغ لتنامي الجماعات الإسلامية ذات الخطاب الراديكالي. لقد أقلق الولايات المتحدة قرار العرب بوقف تصدير النفط إليها في أثناء حرب 1973 التي انحازت فيها الولايات المتحدة في عهد نيكسون بشكل مفضوح إلى جانب إسرائيل، إذ قدّم نيكسون ثلاثة مليارات دولار إلى إسرائيل لبناء قوتها العسكرية للوقوف بوجه ما اسمتها التهديدات العربية المتزايدة. وفي ظل المجازر الوحشية للإسرائيليين، كان العرب يشعرون بحنقٍ كبير على السياسة الأمريكية حيال الصراع في الشرق الأوسط. وبسبب فشل التيارات القومية واليسارية والتقدمية في إيجاد حلّ للقضية الفلسطينية، وفشلها في توفير الحريات السياسية وتحسين المستوى المعاشي وإخفاقها في برامج التنمية، فإن الجماهير أحرقت كل تلك المرجعيات الأيديولوجية لتتجه إلى مرجعية أخرى، أكثر قوة وحسماً، هي المرجعية الإسلامية في إدارة دفة الصراع في منطقة الشرق الأوسط. وقد تعززت هذه المرجعية على نحو كبير بعد سقوط فرضية الأمن القومي العربي على أثر اجتياح إسرائيل للبنان وارتكابها أبشع المجازر هناك.
إن قلق الولايات المتحدة الذي أشرتُ إليه آنفاً، دفع الرئيس كارتر إلى تقريب وجهات النظر بين مصر وإسرائيل، وفي النهاية أفلح في اتفاق الطرفين على إبرام وتوقيع معاهدة سلامٍ سميت: معاهدة كامب ديفيد. اعتبر العرب ndash; الرأي العام، والقادة المتشددون ndash; أن ما قام به الرئيس محمد أنور السادات (1918-1981 ) إنما كان طعنة للنضال العربي ضد الاغتصاب اليهودي لفلسطين، فتمخض عن ذلك نتيجتان: الأولى، انتقال الحركات الإسلامية إلى طور جديد من أطوار العمل السياسي يعتمد الصراع الميداني مع الأنظمة السياسية القائمة. والثانية، تبلور تيار سياسي من معظم الأنظمة العربية يعارض خطوة السادات التي ابتدأت بزيارة إسرائيل، وَوُلِدَ هذا التيار في مؤتمر القمة العربي التاسع المنعقد ببغداد (2-5 نوفمبر/تشرين الثاني 1978). كان يومئذٍ نجم صدام حسين (1937-2006 ) يبزغ بقوة، وكانت طموحاته للهيمنة على الحكم في العراق تزداد يوماً بعد آخر، فأنفق ملايين الدولارات للدعاية الإعلامية بقيادة سعد قاسم حمودي وطارق عزيز، ومن ثمّ لطيف نصيف جاسم وحامد يوسف حمادي. تزايدت المؤتمرات الصحفية لصدام النائب بسيجارته الجروت التي قيل إن صديقه الرئيس الكوبي فيدل كاسترو كان يرسلها خصيصاً له. كانت تلك المؤتمرات، تكشف انزواء الرئيس أحمد حسن البكر (1914- 1982) وضعفه أمام توجهات صدام، وتكشف من ناحية أخرى عن نجاح الأخير في شراء الأقلام في حملة الدعاية لتصديره بطلاً مرتقباً للحلم العربي الضائع. أنفق صدام ملايين الدولارات على الجماعات المعارضة لأنظمة الحكم العربية، التي كان يعتقد أنها لا تستجيب سريعاً لأفكاره ورؤيته للصراع العربي الإسرائيلي، فقد كان بتكوينه السيكولوجي ميالاً إلى الحسم العسكري، وهو ما يسوّغ شغفه بالحروب والترسانة العسكرية والبرنامج النووي. كان من نتيجة ذلك، أن استثمرت الجماعات الإسلامية هذا الهياج والاستياء الشعبي من الحكومات العربية لصالحها في تجنيد الشباب الثوري المؤمن بالحل الإسلامي.
تزامن مع الجرح الذي أحدثته زيارة السادات، اضطراب الأوضاع في أفغانستان والصراع على السلطة فيها وحدوث الحرب الأهلية ومن ثم تدخل الاتحاد السوفييتي واحتلال أفغانستان. وكان هذا عاملاً حاسماً وتجريبياً للحركات الإسلامية، إذ أرادت أن تختبر طرقها في ميدان الحرب الفعلية، ونجحت هذه الحركات بعد خطأ مزدوج ارتكبته الولايات المتحدة والحكومات العربية في آن، كان ذلك هو دعم هذه الحركات للتخلص منها ndash; بالنسبة للحكومات العربية ndash; واستغلالها من قبل الولايات المتحدة لخوض الصراع مع السوفييت نيابةً عنها.
اكتسبت هذه الحركات خبرة قتالية ميدانية كبيرة، وخبرة لوجستية في التموين والعمل الاستخباراتي والتكتيك السياسي والدعاية الإعلامية. ولأنها ناقمة على الأنظمة العربية الدكتاتورية التي أذاقتها من كأس القمع والتهميش السياسي، فقد امتدت خطوط الاتصالات بينها وبين الداخل العربي لتكوين جماعات تمهد للاستيلاء على السلطة. وعلى هذا الأساس، انتقلت الجماعات الإسلامية ذات المرجعية الأخوانية ndash; الأخوان المسلمون ndash; في مصر والجزائر والسودان وفلسطين وسورية وأفغانستان والباكستان والمملكة العربية السعودية إلى مرحلة جديدة من العمل السياسي.
كانت عودة أسامة بن لادن (1957-...) إلى السعودية بعد اندحار القوات السوفييتية وخروجها من أفغانستان في العام 1989، إيذاناً بتجريب مرحلة جديدة من عمل هذه الجماعات، إذ استثمر أسامة الإطراء الذي ناله من النظام السعودي ووصفه بالبطل في العمل على تأسيس قاعدة شعبية للفكر السياسي الجهادي، لكن هذا البطل كان يتطلع إلى أبعد من هذا التوصيف؛ كان يصبو إلى تغيير نظام الحكم الملكي هناك، ولاسيما بعد أن طلبت الولايات المتحدة من العربية السعودية إيقاف الدعم للمجاهدين الأفغان، وقد لمس ابن لادن هذا التحول في الموقف السعودي الذي يتعارض مع طموحاته غير المحدودة. وجد ابن لادن في غزو صدام حسين الكويت في العام 1990 وتدفق الأساطيل الغربية بقيادة الولايات المتحدة إلى شواطئ الخليج العربي، فرصةً للكشف عن مشروعه السياسي القائم على محاربة المصالح الغربية وطردها من البلدان العربية، فجاهر بمعارضة الوجود الأمريكي في الخليج، وانتقد بقوة النظام السعودي.
كان هذا تحولاً في فكر الجماعات الإسلامية، إذ استطاع ابن لادن ولاسيما في السنوات التي قضاها في السودان (1991 ndash; 1996) أن يوجه الجماعات الإسلامية في الجزائر ومصر والسودان وفلسطين إلى هدفين أساسيين: أولهما، مقاتلة الغرب (عدو الإسلام والمسلمين من وجهة نظره) وثانيهما، معارضة أنظمة الحكم العربية القائمة. أنفق هناك مبالغ ضخمة من أجل هذه الغاية، عن طريق عقد المؤتمرات ndash; المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي- واللقاءات الثنائية إذ وجد في السياسي السوداني الدكتور حسن الترابي (1932-...) شخصية تتفق مع توجهاته الراديكالية ولاسيما المتعلقة بقلب أنظمة الحكم العربية. وقد استثمر ابن لادن المنزلة التي كان يحظى الترابي في المؤسسة السودانية الحاكمة المتمثلة بشخص الرئيس السوداني عمر حسن البشير بعد تحالفهما في قلب نظام الحكم في العام 1989. ولعلّي أفسّر ضمناً لا استناداً على وثيقة، أن العلاقة المتينة بين الترابي وابن لادن حرضت الأول على الحليف البشير بغية جعل نظام الحكم في هذا البلد نظاماً إسلامياً صرفاً. بيد أن البشير، المحاصر بمطالب دولية تتعلق بأزمة الجنوب ودارفور، والمحاصر بالتهم الموجهة إليه بتعاونه مع الإرهاب، وجد أن تطلعات الترابي وابن لادن لا تنجسم مع تطلعاته نحو الانفراد بالحكم، فطرد الثاني في العام 1996 ثم انقلب على الأول وألقاه في السجن سنة 2001.
بعد العام 1990 سجلت الجماعات الإسلامية انتصارات ميدانية متعددة ابتدأت بالتفجير الكبير لقاعدة الخبر الأمريكية في العربية السعودية، ومن ثم تفجير سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا 7/8/1998. وقبل ذلك التاريخ، كان أهم إنجازات هذه الجماعات بالنسبة للحرب بينها وبين أنظمة الحكم العربية الشمولية، هو اغتيال الرئيس محمد أنور السادات في 6 أكتوبر 1981 على يد خالد الإسلامبولي [ منظمة الجهاد الإسلامي ] انتقاماً لتوقيعه معاهدة السلام مع إسرائيل. وقد أعطى هذا الحادث لكل الجماعات الإسلامية أملاً في الوصول إلى سدة الحكم. ومن ناحية أخرى، كانت الجماعات الإسلامية تستثمر لصالحها الإخفاقات السياسية في العالم العربي، فاستثمرت النتائج المخيبة للآمال في مؤتمر مدريد 1991 بين العرب (سورية، لبنان، فلسطين، الأردن) وإسرائيل، ونتائج اتفاقية أوسلو 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، تلك الاتفاقية التي جرت سراً بين الفلسطينيين والإسرائليين في العاصمة النرويجية بعد مؤتمر مدريد، وتكللت بتوقيع الاتفاقية في واشنطن من قبل ياسر عرفات واسحق رابين بحضور بيل كلنتون. كان المشهد الذي جمع شخصية إسرائيلية، وشخصية أمريكية، وشخصية عربية غير إسلامية، كافياً لاستثماره إعلامياً من قبل الجهاز الإعلامي المتنامي للحركات الإسلامية التي وجدت في شبكة الانترنت فرصتها الذهبية لتحقيق كثير من أهدافها.

[email protected]