في عمق الأسطورة، حيث تمتزج الحقيقة بالخيال، وحيث تُصنع الأيقونات من لهب المعارك، تبرز صورة المرأة المقاتلة بوصفها كياناً يتحدى التقاليد والمنطق معاً!

من الفالكيري، محاربات الأساطير الإسكندنافية اللواتي اخترن مصائر الأبطال، إلى القسديات الكرديات، اللاتي سطّرن بدمائهن أسطورة حقيقية في شمال شرق سوريا، التاريخ لم يكن يوماً حكراً على الرجال في ساحة الحرب، فحين تقرع طبول المعارك، لا تسأل النار عن جنس من يشعلها، ولا تفرّق الأرض بين الدماء التي ترويها.

الفالكيري، تلك المحاربات الأسطوريات اللواتي امتطين الخيول المجنحة واخترن من يسقط في ساحات القتال لينضم إلى فالهالا، لم يكنّ مجرد رموز للموت بل للحياة أيضاً، كنّ تجسيداً لقدرة المرأة على أن تكون حاكمة لمصير الرجال والسلاح الذي يفصل بين المجد والعدم، كنّ أشباحاً تطوف فوق الحقول الدامية، يسرن بخفة فوق جثث المحاربين، بأعين باردة تقرأ المستقبل في دماء المهزومين. بالنسبة للفايكنج، لم يكن الموت في المعركة مجرد نهاية، بل بوابة نحو الخلود، ومن يفوز برضا الفالكيري كان له أن يحيا أبدياً بين أبطال السماء. لكن، في نهاية الأمر، هل كانت الفالكيري مجرد خيال؟ أم أنهن كُنّ تجسيداً لنساء قاتلن يوماً، فسحقتهن الروايات والتاريخ ليصبحن طيفاً على هامش الأسطورة؟

هذه الأسئلة ظلت تحاصرني وأنا أسير بين معسكرات القسديات الكرديات في شمال شرق سوريا، في زيارتي الأخيرة لمناطق الإدارة الذاتية. كنت أراقب أعينهن، تلك العيون التي تحمل قصصاً لم تُكتب بعد، مزيجاً من الكبرياء والوجع، من الصلابة والغموض. كنّ يعبرن أمامي ببزاتهن العسكرية، بعضهن يحملن بنادقهن كما لو كنّ يحملن جزءاً من أرواحهن، والبعض الآخر كان ينظر إلى الأفق، إلى ما وراء الحدود، كأنهن يحرسن ما تبقى من عالم لم يسقط بعد في فوضى العنف.

في مناطق المعارك، حيث اختلط التراب بالدم، وقفت أمام جدران ما زالت تحمل آثار الرصاص، وسمعت حكايات عن معارك لم تُحسم إلا بإرادة النساء اللواتي رفضن أن يكنّ مجرد مشاهدات على مذبح التاريخ. إحداهن، لم تتجاوز الثلاثين، أخبرتني كيف كانت تراقب الطائرات الحربية تقصف مدينتها، وكيف حملت السلاح في سن السابعة عشرة، لأنها لم تجد خياراً آخر. قالت لي وهي تمسح الغبار عن سلاحها: لم نختر الحرب، الحرب اختارتنا. لكننا قررنا أن لا نكون الضحايا، بل أن نكون من يصنع النهايات.

إقرأ أيضاً: رشيد الخيون… حفّار الزمن ومروض الأسئلة

في معركة القسديات، حين اجتاح تنظيم داعش المنطقة كطوفان قاتل، وقفت النساء حيث هرب الرجال، لم يكن في انتظارهن rewarding إلا رصاصة في الرأس أو مصير أسوأ من الموت. لكنهن لم يتراجعن، ولم يطلبن الرحمة، كنّ نسخاً حديثة من الفالكيري، كنّ هنّ من يقررن من يستحق العبور إلى الموت، ومن يجب أن يظل ليشهد سقوط إمبراطورية الشر.

في أحد المعسكرات، التقيت بمقاتلة أخرى، شابة بملامح صلبة ووشم قديم على يدها، قالت لي: هل تعرف لماذا نقاتل؟ ليس لأننا نحب القتال، ولكن لأننا نعرف أن لا أحد سيحمينا إن لم نفعل ذلك بأنفسنا، كانت كلماتها تختصر كل شيء. هؤلاء النساء لم يكنّ يبحثن عن البطولة، ولم يكنّ يسعين إلى المجد، كنّ يقاتلن لأن البقاء كان يستلزم القتال.

لا يمكن لمن يراقب هذه الظاهرة إلا أن يتساءل: ماذا يجعل امرأة ترفع السلاح، في زمن قيل فيه إن الحرب لعبة الرجال؟

إقرأ أيضاً: هل نعيش فوق مدن لا نراها؟

الجواب بسيط ومعقد في آن واحد. إنه نفس الدافع الذي جعل الفالكيري تهبط من السماء لتختار الأبطال، إنه نفس الدافع الذي جعل النساء عبر التاريخ يكسرن القيد ويخضن المعركة حين أصبح البقاء مرهوناً بالدماء…!

في شمال شرق سوريا أو (روج آفا) كما يطلق عليها الكورد، لم يكن القتال مجرد خيار، بل كان ضرورة، حرباً من أجل الوجود ذاته، ليس فقط ككورد، بل كنساء يرفضن العودة إلى العصور الحجرية حيث تُشترى النساء وتُباع في أسواق النخاسة، أو تُسحق أرواحهن باسم التقاليد!

القسديات لم يكنّ خيالاً نسجه الشعراء، ولم يظهرن في أساطير تحترق على رفوف المكتبات، إنهن هنا، يطلقن الرصاص من بنادقهن، تتطاير جدائلهن في مهب الريح كما لو كنّ مقاتلات خرجن من لوحة مرسومة على جدران الزمن. وعلى الرغم من اختلاف السياقات، فإن الفكرة الجوهرية التي جمعت الفالكيري بالقسديات تظل واحدة: المرأة ليست مجرد شاهد صامت على التاريخ، بل هي من تكتب فصوله بدمها إن لزم الأمر.

إقرأ أيضاً: أوجلان... ميلاد جديد من القيود إلى الأسطورة

ليس من قبيل الصدفة أن القوى الكبرى في العالم نظرت بعين القلق إلى هذه الظاهرة، كيف يمكن لمجموعة من النساء، من ثقافة هامشية بنظر القوى العظمى، أن يصبحن القوة الضاربة ضد أشرس التنظيمات الإرهابية في العصر الحديث؟ كيف تمكنّ من قلب الصورة النمطية للمرأة ليصبحن أيقونات مقاومة، في وقت كانت فيه المجتمعات المحيطة بهن تحاول دفعهن نحو الظل؟

الإجابة تكمن في أن القسديات لم يكنّ فقط مقاتلات، بل ثورة ضد التاريخ، ضد السردية التي حاولت جعل النساء مجرد تفصيل جانبي في الحروب، ضد فكرة أن المرأة يجب أن تكون من ينتظر عودة الرجال من الجبهة بدل أن تكون هي الجبهة نفسها. كنّ إعلاناً حياً بأن النساء يمكن أن يكنّ رماحاً بدل أن يكنّ دموعاً، أن يكنّ نيراناً بدل أن يكنّ رماداً.

في المعارك التي خضنها، لم يكنّ يطلقن النار فحسب، بل كنّ يسحقن الأسطورة ذاتها، الأسطورة التي تقول إن النساء لسن أهلاً للحرب، إنهن مخلوقات وديعة لا تصلح إلا للسلام. لكن الحقيقة التي لم يدركها العالم بعد هي أن القسديات لم يخترن الحرب، بل الحرب هي التي اختارتهن. الحرب التي سلبت من شعوبهن كل شيء، فقررت أن تمنحهن شيئاً واحداً: الغضب.

واليوم، وبعد أن هدأت بعض الجبهات، وبعد أن غابت بعض الأسماء في ظلال النسيان، يظل أثر القسديات في الحرب خالداً، ليس كذكرى حزينة، بل كإعلان لا رجعة فيه بأن النساء لن يعدن إلى الظل. تماماً كما لا تزال الفالكيري تتجول في حكايات الفايكنج، باحثة عن أرواح الأبطال، تظل القسديات رمزاً للمرأة التي لا تُهزم، للمرأة التي اختارت أن تكتب أسطورتها الخاصة، لا أن تكون مجرد هامش في حكايات الرجال.

ربما كانت الفالكيري أسطورة، وربما كانت القسديات واقعاً، لكن في نهاية المطاف، كلاهما وجهان لعملة واحدة، عملة صُنعت من الفولاذ والنار، ومن صرخات من رفضن أن يكون لهن مكان خلف الصفوف. فإذا كان الماضي قد منحنا الفالكيري، فإن الحاضر منحنا القسديات، وإذا كان الزمن يعيد نفسه، فمن يدري أي محاربات سينجب المستقبل؟