تبدو مدهشةً كميةُ ونوعية العنف الذي يمارس تحت مسمى من مسميات الإسلام، كالجهاد، والمقاومة، ومحاربة الكفر، والتصدي للغزو الثقافي، والطهرانية الإسلامية، وسوى ذلك من المفاهيم المتطرفة التي دمّرت المجتمع الإسلامي أكثر مما ساعدت على بنائه. وفي ظل فرضية أن الإسلام آخر الأديان السماوية التي يؤمن بها المسلمون، وأن النبي محمد هو خاتم النبوة، وأن الأحكام التي وردت في القرآن والسنة إنما وردت بلسان عام مطلق لا يخضع لاعتبارات الزمان والمكان، غُرِسَ نوع من التعالي الديني الذي انضاف إليه فيما بعد التعالي الحضاري والعرقي على شعوب الأرض كافة.
كانت هذه، أولى مسببات التصادم الإسلامي الغربي، وأولى المسببات التي جعلت العالم ينفر من التعامل الجديّ مع المؤسسات الإسلامية بكل أشكالها، وبذلك خسرنا لحظة الحوار الحضاري، وخسرنا لحظة الإمساك بالنبض الحيّ للزمن التاريخي الذي ينتج عنه التقدم الاجتماعي والعلمي والسياسي والاقتصادي والثقافي. فرضية تكفير غير المسلم التي تصرّ المؤسسة الدينية على تكريسها في الذات الإسلامية، صنعت حاجزاً من الكراهية وفقدان الثقة بين المسلمين والشعوب الأخرى، لم يجن المجتمع العربي منها إلا تخلفاً مزمناً على كل الصعد.
لقد انطبع تاريخ الإسلام بالعنف، هذه حقيقة مزعجة أوصلتنا إلى لحظة حاسمة في المطالبة بالبحث عن بديل للإسلام المتداول بإسلام آخر أكثر رحمة بالآدمية التي فينا بعد سلسلة المذابح ونزيف الدم الذي لم يتوقف في بلاد الإسلام في صراع يجري داخل الإسلام نفسه. وهذا ما يجعلنا نعيد النظر في الحاضنة التي احتضنت مبادئ هذا الدين، أو بالأحرى وقع أسيراً بيدها. وعبر التاريخ، قمعت كل المحاولات لفكّ أسره من المؤسسة الدينية الأصولية ndash; البديل الحقيقي للعصبية القبلية- التي عملت جاهدة على ربط فكرة الإسلام بالسلطة، فكانت لها اليد الطولى في ممارسة العنف، وتقديم صورة الإسلام إلى العالم في هيأة الدين المتزمت القاسي المتكبر المتخلف الباطش وعديم الرحمة. وقراءة تاريخ العرب، تكشف لنا أن العنف متأصّل في الشخصية العربية التي تكوّنت في فوضى الصحراء، ففي العهد القريب من الرسالة، كانت هذه الشخصية تنظر إلى الإسلام باعتباره سلطة جديدة، بيدها مفاتيح الهيمنة على العامة والعالم معاً. ووجد الأعراب الطامعون في السلطة سنداً لهم في الخطاب الإسلامي المبكر، ولاسيما في تفسيرهم لقول النبي محمد: (يا معشر العرب: أدعوكم إلى عبادة الله... فأجيبوني تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، وتكونوا ملوكاً في الجنة). [ الحديث منقول من كتاب: إعلام الورى بأعلام الهدى للشيخ ابي علي
الفضل بن الحسن الطبرسي من أعلام القرن السادس الهجري، ويجد القارئ نصه في حاشية المقال].
في السنوات الأولى للإسلام في عهد الخلفاء، وقعت مذابح لا يمكن تصنيفها إلا في خانة الصراع على السلطة ذات الجلباب الديني هذه المرة بدلاً من الجلباب القبليّ، فقد راق كثيراً الجلباب الجديد للطامعين بالعرش فوجدوا فيه تأثيراً حاسماً في إخضاع الناس واستثمار الطاقة العاطفية المتفجرة فيهم بغية تحقيق غاية الوصول إلى السلطة المقدسة، ودائماً يعني إضفاء التقديس والقداسة على المفاهيم والإشياء في العالم الإسلامي، مزيداً من العنف بلا رقيب أو حساب. وهكذا، انطلقت أفواجٌ من الطامعين بالفوز بذلك السلطان والتربع على العرش والسيادة. وشيئاً فشيئاً، كانت تضمحل الأهداف التي أراد الإسلام أن يغرسها في نفوس العرب الذين كانوا يعانون من مشكلات كثيرة تعيق تقدم حياتهم إلى الأمام، وفي مقدمتها الفوضى القانونية، والافتقار إلى مرجعية فكرية قادرة على تأسيس أعراف تنظّم حياتهم الروحية والاجتماعية. الصراع القبليّ من أجل السيادة على بقية القبائل، استمر بنفس الطريقة لكن بجلباب جديد هو الجلباب الديني هذه المرة. اتخذ منحى شخصياً في البداية- الصراع على الخلافة- ومنحى مذهبياً في مرحلة لاحقةndash; الصراع السنيّ الشيعي- ومنحى عالمياً في مرحلة أخرى من أجل السيادة على العالم في ما عرف بـ: الفتوحات الإسلامية، وهي تسمية تهذيبية لمفهوم (الاحتلال أو الاستعمار) إذ أجبر غالبية سكان المناطق المفتوحة على دخول الإسلام.
كانت وسائل الوصول إلى هذا الهدف- أعني الإسلام السلطة، لا الإسلام الدين- بالنسبة للمتأسلمين، تعني الأخذ بمظاهر الإسلام لتشاهدها العامة بأعينها، فتُسلم بعد ذلك رقابها إلى القائد المتأسلِم. وفي أدبيات الإسلام، يصطلح على من يعمل بغير ما يُبطن بـ: المنافق. لكن، كم من المنافقين المستبدين الذين أصبحوا أبطالاً في تاريخ الإسلام، ولم يستطع أحد منا أن يصرّح بهذا؟. بل إنّ هؤلاء المنافقين أصبحوا- بحكم السلطة- مركزاً روحياً وفكرياً يحدّد معنى النفاق بحسب قاعدة: أنتَ لنا أم علينا؟.
كان هؤلاء، الذين أنجبوا أجيالاً على شاكلتهم، يجردون المبدأ الإسلامي من تاريخيته؛ أي ارتباطه بالزمان والمكان، فعندما كان القرآن يذم اليهود الذين وقفوا بوجه نشر الإسلام، فإنّ هؤلاء راحوا يعممون الحكم، ويخرجونه عن ظرفيته، فاتخذوا ذلك ذريعة لمواصلة الصراع الدامي مع اليهود الذي كلّف المجتمع العربي هدراً متواصلاً لثرواته البشرية والاقتصادية والثقافية. وعلى خلفية هذه المرجعية الفكرية، تحول اليهودي أمام أنظار الفلسطيني لا على أنه محتلّ أرضه في المقام الأول، بل لأن القرآن ذمه. وهكذا، نُقل الصراع من كونه صراعاً سياسياً حول الأرض، إلى صراع ديني حول السماء.
ضربت لكم هذا مثلاً على كيفية توظيف الإسلام في خدمة صراعات سياسية، وفي ظني أنّ هذا هو موضع التعقيد في الصراعات الدائرة الآن في الشرق الأوسط، وهو تداخل الديني بالسياسي. المعضلة النووية الإيرانية مع أمريكا والاتحاد الأوروبي، لم تعد معضلة امتلاك سلاح فتاك بيد نظام سياسيّ متطرف، بل تحولت إلى معضلة دينية حضارية في محاولة لأسلمة الصراع. بمعنى، أنّ الإعلام الإسلامي المتشدد، نجح في اللعب على العاطفة المتشنجة لعموم المسلمين الذين وجدوا أنفسهم في أتون صراعات لا تنتهي، وفقدان متواصل للثقة. وهكذا، نجح هذا الإعلام المخترق من جماعات أصولية أن يقلب الحقائق، ويُظهر للمشاهد والمستمع والقارئ المسلم بأنّ الغرب لا يريد للبلدان الإسلامية أن تمتلك التكنولوجيا وأسباب التطور؛ لأنها تخشى بحسب الخطاب الإعلامي الأصولي من قيام أمة إسلامية مستقلة، تحكم بحسب القوانين الشرعية.
ولعل الصراع الناشب الآن ما بين حركة حماس والحركات الإسلامية المتحالفة معها من جهة، وما بين حركة فتح والحركات المتحالفة معها كذلك، يتمثل في محاولة حماس لأسلمة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على حين تحاول حركة فتح أن تتعامل مع ذلك الصراع تعاملاً واقعياً، وبراجماتياً، لا يخرق المواثيق الدولية التي تم التوصل إليها طوال مدة مفاوضات السلام.
وفي لبنان، يحاول حزب الله الذي يقيم تحالفات مع أنظمة وحركات إما إسلامية أصولية أو قومية متشددة، أن يفسر المعضلة اللبنانية في ضوء مقتربات إسلامية صرفة، ولاسيما في علاقة هذه المعضلة مع أطراف دولية في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. وكل طرف من أطراف النزاع في لبنان يحاول أن يحرّك المؤسسة الدينية لصالحه؛ لأن الصراع اتخذ طابعاً دينياً الآن في منطقة الشرق الأوسط تحديداً.
إن المؤسسة الدينية الإسلامية، المتكونة من رجال دين يطلق عليهم العلماء، لم تكن مؤسسة محايدة كما يتصور البعض، ولم تقتصر رسالتها في نشر التعاليم الإسلامية، بل هي مؤسسة طامعة بقوة في الوصول إلى الحكم. فهؤلاء العلماء، يعتقدون بأنهم ورثة الأنبياء، ويستندون في هذا الحق على حديث للنبي محمد: إن العلماء ورثة الأنبياء. ويعني هذا الحق في واقع الأمر، حيازة السلطة المقدسة بالاستدلال على ذلك من خلال الحديث الآنف، ومن غيره كذلك. وهو ما أدى إلى خلق تصادم مستمر، امتاز بالعنف المتبادل ما بين الحركات الدينية الأصولية وأنظمة الحكم الشمولية، التي يعتقد الإسلاميون بأنها صنيعة الغرب، مما يقتضي محاربتها والقضاء عليها وعلى نمط المجتمع والثقافة والاقتصاد والتربية والتعليم الذي أوجدته هذه الأنظمة.
كان الوعي الجديد الذي بات يتشكل في صفوف الشباب العربي قبل التصاعد السريع للحركات الأصولية، يزعج طبقة رجال الدين المتسامحين والمتشددين معاً؛ إذ يعتبرون الغرب المسؤول الأول عن خروج هؤلاء الشباب عن مفاهيم المنظومة القيمية للثقافة العربية الإسلامية. فأخذوا يتحينون الفرص، للثأر من عمليات تحديث الثقافة العربية بالمفاهيم والنظريات الليبرالية والعلمانية. كان يزعجهم نموذج المدرسة الحديثة، والجامعة، والأزياء، والهندام، والقانون الوضعي، ونظام الحكم، والنظام الاقتصادي المتمثل في المصرف الربوي وفي النظامين الرأسمالي والاشتراكي.
ونتيجةً لنمط الركائز التي شُيَّد عليها المجتمع العربي، فإن تصاعد المد الديني الأصولي يعتبرواقعة حتمية أفرزها الواقع المريض الذي لم تستطع كلّ النظريات أن تخرجه من جوّ الكآبة والتعاسة والتخلف المزمن. ذلك أنّ انعدام وجود برنامج مدروس وشامل للتنمية البشرية سواء أكان هذا خلال المرحلة الكولونيالية أم خلال المرحلة التي تكونت فيها الدولة الوطنية، قد أفضى إلى تعقيد المشكلات الاجتماعية في التعليم، والصحة، والثقافة، ومستوى المعيشة، والمشاركة في صياغة القرار السياسي، والحق في امتلاك التكنولوجيا الحديثة، والفشل الذريع في بناء مؤسسات الدولة المستقلة.
هذا كله، أيقظ في المخيال الإسلامي والعربي، نمطاً من المقارنة بين كتلتين: الأولى، الحضارة الإسلامية التي استطاعت في القرون الماضية أن تشكّل بجدارة: الهوية الإسلامية الفردية، يوم كان نظام الحكم نظاماً يتمتع بمواصفات الدولة الثيوقراطية التي تمكنت من تأسيس الإمبراطورية الإسلامية الكبرى، وبعد تحقيق سلسلة من الإنجازات في العلوم والفكر، وتأسيس حضارة مادية تجلت في العمران والترف الاجتماعي ونظام الخدمات، وسوى ذلك. والكتلة الثانية، الدولة الحديثة التي مُسخت فيها صورة الإسلام، وتزامنت مع المرحلة الكولونيالية الحديثة، ووصفت بأنها دولة الهزائم والانكسارات ومصادرة الحريات وحقوق الإنسان والدكتاتورية والاستبداد والفقر والفشل في التنمية وتحقيق النهضة الاجتماعية المطلوبة.
لقد كانت خلايا الإسلام الراديكالي، تعرف كيف تستثمر السخط والغضب الجماهيري من النظام السياسي العربي، وتحول ذلك كله إلى معادلة صعبة في الصراع الذي تخوضه مع الدولة بغية الوصول إلى الحكم. ومن يقرأ تاريخ الحركات الإسلامية، سوف يجد أنها تحوّل باستمرار الغضب الجماهيري من الاستبداد الدكتاتوري إلى رصيد جماهيري مؤثر في المعادلة السياسية أو معادلة القوة الجماهيرية.
إن الاستبداد الذي صاحبَ الإسلام السياسي، يعود في أحد أسبابه إلى اعتقاد المؤسسة الدينية بعلوها على الدولة وعلى الناس. مما يتيح لها خرق القانون أنى تشاء، وممارسة العنف تحت ذرائع دينية مختلفة، تُهضم فيها حقوق الإنسان، ويصبح العنف هو اللغة الوحيدة للحوار استناداً إلى فرضية أن: الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك.
إنّ محاولة البحث عن مرجعية دينية، لكل عوامل العنف الذي يمارسه الإسلام الراديكالي، هي مسألة في غاية الخطورة على علاقة المجتمع الإسلامي بغيره من مجتمعات العالم أولاً، وعلى المجتمع الإسلامي نفسه ثانياً. ذلك أن الذي يُخشى منه، هو أن يتحول العنف إلى عقيدة مقدسة تُمارس كما تُمارس العبادات الإسلامية، ويتربى الجيل الجديد على ثقافة مغلقة، تقف موقفاً متطرفاً من كل شيء.
[يا معشر العرب: أدعوكم إلى عبادة الله، وخلع الأنداد والأصنام، وأدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإني رسول الله، فأجيبوني تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، وتكونوا ملوكاً في الجنة]