جذور الحداثة الغربية: (2/2)
تستحق جامعة quot;بادواquot; (Padua ndash; Padoue ndash; Padova)، مكانة كبيرة في تاريخ الفلسفة، حسب تعبير quot;أرنست رينانquot;، فقد كانت بؤرة التنوير في أوروبا كلها كما لاحظ quot;أرنست بلوخquot;.
ففيها تركزت الرشدية اللاتينية وعمرت، رغم سخريات quot;بتراركquot; وهجومه الضاري علي quot;إبن رشدquot;. وبادوا بكلمة واحدة هي: جامعة الأساتذة العظام في أوروبا.الحلقة الأولى
وترتبط الحركة الفكرية في quot;بولندةquot; وquot;فراراquot; وquot;البندقيةquot; (فنيسيا) بجامعة quot;بادواquot; أساسا، إذ أن quot;بولندةquot; وquot;بادواquot; لا تؤلفان غير جامعة واحدة، ولو في التعليم الفلسفي والطبي على الأقل. وكان الأساتذة أنفسهم يترددون على الجامعتين مناوبة، نيلا لزيادة رواتبهم. هذا من جهة، من جهة أخرى لم تكن quot; بادوا quot; غير (حي البندقية اللاتيني)، وكان كل من يعلم في quot; بادوا quot; يطبع في البندقية، لذا فإنه يقصد بـ quot; بادوا quot; انتشار الفلسفة في شمال إيطاليا كله، كما يؤكد أرنست رينان:
quot; لم يكن quot; ابن رشد quot; في ذلك الوقت، لدي المفكرين الأحرار سوي كلمة quot; سر quot;، ولم يكن من الممكن ابتغاء لقب الفيلسوف البارع ما لم يقسم بquot; ابن رشد quot;.
وكانت الرشدية قد صارت دارجة لدي الطبقة الراقية في البندقية، وأصبح لابد من الافتخار والتباهي بها لمن يريد ان يعد من المثقفين. فالسنون الأخيرة من القرن الخامس عشر هي سنو رياسة ابن رشد في (بادودا).quot;
وقد لخص quot; كونتاريني quot; ذلك بقوله: quot; عندما كنت في بادوا، هذه الجامعة ذائعة الصيت في كل إيطاليا، فإن اسم وسلطان quot; ابن رشد quot; كانا الأكثر تقديرا، فالكل كان موافقا هذا المبدع العربي، واعتبروا آرائه نوعا من الوحي الإلهي، وكان الأكثر شهرة من الجميع بسبب موقفه من quot; وحدة العقل quot;، بحيث أن من كان يفكر على العكس من ذلك، لم يكن جديرا باسم المشائي أو الفيلسوف quot;.
فالوضع الذي كانت عليه quot; باريس quot; في القرن الثالث عشر، وأكسفورد في القرن الرابع عشر، أصبحت تحتله quot; بادوا quot; في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، إذ كانت المركز الذي تجمعت فيه كل الأفكار من أوروبا، وكانت الأرسطية من خلال الرشدية اللاتينية، هي الكيان الحي للأفكار.
ويؤكد quot;رينانquot; علي ان دراسة الطب فضلا عن الفلسفة هي التي ساعدت علي اقامة عهد العرب في quot;بادواquot;، ومن ثم فإن quot;بطرس الآبانويquot; من هذه الناحية يعد من المؤسسين للرشدية اللاتينية في quot; بادوا quot;، ومات بطرس حينما كان مجلس التفتيش يبحث في قضيته، وأنتقم منه المجلس بعد وفاته بتحريق عظامه عقابا له، لذا ظل اسمه في ذاكرة العوام مثقلا بالمكايد الجهنمية والأهوالquot;.
ومن المفارقات أيضًا أن quot;توركويماداquot; (1420 ndash; 1498) ndash; أشهر رئيس لمحاكم التفتيش في أسبانيا، كان يبرر إحراق مئات quot;الزنادقةquot; و quot;السحرةquot; على الخازوق (وتعريف الزنادقة والسحرة كان: كل منشق على الكنيسة الكاثوليكية أو رافض لها في العقيدة أو السلوك أو المصالح) بقوله: quot;نحن نحرقك في الدنيا رحمة بك، حتى ننقذك من النار الأبدية في الآخرةquot;. حسب ترجمة quot; لويس عوض quot; في كتابه quot; ثورة الفكر في عصر النهضة الأوروبية quot;.
فقد تأخر تطوير علم الطب حتى القرن الرابع عشر بسبب تحريم الكنيسة القيام بشريح جثة الميت، وأول من تجرأ على تشريح جثة ميت هو طبيب إيطالي في quot;بادواquot; بإيطاليا، وذلك عام (1315)، ولكنه لم يجرؤ على فتح رأسه وتشريح دماغه خوفًا من ارتكاب الخطيئة القائلة والخروج على تعاليم الدين المسيحي أو quot;المقدساتquot;، لذا كان يضع فوق طاولة التشريح كرسيًا لراهب يتلو صلوات من أجل راحة نفس الشخص الذي كان يشرحه، واستمر هذا الوضع حتى عام 1405، حين ألغى مجلس شيوخ البندقية سلطة محاكم التفتيشquot;.
ومن أبرز علماء جامعة quot; بادوا quot; العالم والفيلسوف quot;جاليليو جاليليquot; الذي أيد نظرية quot;كوبر نيكوسquot; القائلة بدوران الأرض حول الشمس، وهو ما يتعارض وقتئذ واعتقاد الكنيسة الكاثوليكية، التي أكدت ثبات الأرض باعتبارها مركز الكون، واعتبرت القول بعكس ذلك quot;بدعةquot; وquot;ضلالةquot;.
فقد أصدر جاليليو كتابه المعنون بـ quot;حوار حول النظامين الرئيسيين للكون: النظام البطليموسي والنظام الكوبرنيكيquot; عام 1632، وأعلن في شجاعة: quot;أن نظرية مركزية الأرض ليست سوى خيالات ملفقةquot;.
وفي العام 1632 منع كتابه وحظر نشره، وأدين جاليليو بالفعل من قبل محاكم التفتيش، واستمر هذا المنع حتى عام 1822، حيث أعيد نشره على نطاق واسع.
وتكشف مأساة جاليليو عن أمرين غاية في الأهمية، الأمر الأول هو أن جاليليو لم يتعرض للمساءلة والمحاكمة لمجرد قوله بدوران الأرض حول الشمس، أو لخروجه على نسق فكري لعلاقات بنية فلكية مستقرة تتبناها الكنيسة الكاثوليكية وهي quot;مركزية الأرضquot;، وإنما لأنه أبدع نسقًا فلكيًا جديدًا خلخل البنية الاجتماعية الطبقية السائدة والمستقرة آنذاك.
الأمر الثاني هو أن جاليليو quot;كان أول من استخدم اللغة العامية الإيطالية في الكتابة quot;العلميةquot; ومعروف أنه يتميز بروعة أسلوبه، فقد صدر أكثر من كتاب في الغرب يشيد ببلاغة جاليليو، وأن اختياره للعامية وتحديه للغة اللاتينية كان سببًا من الأسباب الرئيسية في عدم الرجوع عن إدانته، حسب العلامة مصطفي صفوان في كتابة quot; الكتابة والسلطة quot;: quot; صدرت إدانة جاليليو عام 1633، حين أعلنت محكمة الكرسي المقدس، بعد محاكمة استمرت ستة شهور أنه: quot;يشتبه لآخر درجة في خروجه عن الدين القويم (الهرطقة) لأنه نادى وآمن بعقيدة كاذبة مخالفة للكتاب المقدس عقيدة مؤداها أن الشمس هي مركز العالم، وأنها تتحرك من الشرق للغرب، وأن الأرض تتحرك وليست مركز العالمquot;.
أضف إلى ذلك أن التحقيقات أثبتت أنه بدلاً من أن يكتفي بالدفاع عن مذاهب منحرفة إلى هذه الدرحة، فقد أراد نشرها على أوسع نطاق ممكن، واتبع حيلة تلخصت في اختياره الكتابة باللغة العامية.quot;
فقد كانت الكنيسة الكاثوليكية تقدس اللغة اللاتينية لغة الدين والعلم في العصور الوسطى، وكانت تعتبر اللغات العامية أو الشعبية quot; لهجات منحطة quot;، وكان أول ما فعله quot; لوثرquot; في عصر النهضة هو ترجمته للكتاب المقدس من اللغة اللاتينية إلى اللغة الألمانية الدراجة وذلك في عام (1522 ndash; 1530)، وكان يعتبر أفضل قاموس في العالم هو قاموس الأمهات في البيوت والأطفال في الشوارع والرجل العادي في السوق، وهو القاموس الذي استفاد منه في الترجمة، والذي أبدع من خلاله quot;جوتهquot; وquot; شيللرquot; و quot;هلدرلينquot;، من بعده، روائع الأدب الألماني العالمي.
التعليقات