تحت سطح الأحداث المتسارعة في المنطقة هناك حركة محمومة، بإتجاه احراز تقدم ملموس بشأن القضية الفلسطينية قبل نهاية 2008. فقد ذكرت صحيفة معاريف الإسرائيلية أن إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي سيحاول تسجيل إنجاز خلال الأشهر المتبقية له في منصبهrlm;,rlm; ويمارس حاليا ضغوطا علي الرئيس الفلسطيني محمود عباس ـ أبومازن ـ لدفعه إلي الموافقة علي مسودة الاتفاق المقترحةrlm;,rlm; التي نشرت أخيراrlm;,rlm; والتوقيع علي اتفاق للحل الدائم يستثني القدس والأغوار وحق العودةrlm;.rlm;
في حين قال خبراء فلسطينيون إن المساحة التي تعرضها إسرائيل للدولة الفلسطينية لا تتعديrlm;60%rlm; من الأراضي المحتلة عامrlm;1967,rlm;وليس كما تدعي إسرائيلrlm;93%,rlm; إذ أن إسرائيل تحسب مساحة الضفة الغربية دون القدس ومنطقة الأغوار والمستوطناتrlm;.
بالتوازي انعقد مؤتمر تجمع العودة الفلسطيني quot;واجبquot; بدمشق، تحت عنوان quot;آفاق في قضية اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة في الذكرى الستينquot;، ليؤكد مجددا علي أهمية دور المجتمع الفلسطيني في زيادة الوعي بهذا الحق باعتباره غير قابل للنقاش أو المساومة. حضره قيادات فلسطينية سياسية ومجتمعية، وممثل عن حزب البعث في سوريا، وخبراء وممثلو المنظمات الشعبية والأهلية من العالم العربي وأوروبا، ورعته الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين.
في السياق نفسه تأتي زيارة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية للشرق الاوسط في غضون الساعات المقبلة، للقاء مسؤولين كبار من الجانبين، من اجل التوصل الى اتفاق سلام اسرائيلي فلسطيني، قبل ان يترك الرئيس الأمريكي جورج بوش منصبه في يناير 2009.
وتحضرني هنا الجهود الرائعة التي بذلت علي امتداد الفترة الماضية من أجل إحلال السلام في المنطقة، وجري تهميشها والتعتيم عليها ونسيانها بفعل عوامل كثيرة ومتنوعة، من أبرزها quot; تفاهمات quot; وثيقة جنيف قبل خمس سنوات. حيث لا يستطيع أحد أن يكابر بإنكار أن حدثا مهما قد وقع في الثاني عشر من أكتوبر 2003، بفعل التوقيع علي هذه الوثيقة، في فندق الموفنبيك المطل علي البحر الميت بالأردن. صحيح أن شيئا ما لم يتغير علي الأرض، ربما كان الأسوأ فقط، لكن من الواضح أن الأمور لم تعد كما كانت قبل التوقيع علي quot; تفاهمات quot; وثيقة جنيف من قبل مفاوضين، اسرائيليين وفلسطينيين، ليست لهم صفة رسمية.
بيد أنه غالبا ما تكون صور الأشياء الجديدة طلائع للتغيرات الفعلية. ووفقا لمفهوم quot; النموذج quot; أو البرادايم عند quot; توماس كون quot; فإن النظرة إلي العالم تتغير، علي حين غرة وبقوة، بحيث أن الوقائع غير المرئية وغير المسلم بها، تصبح أمورا بديهية. لقد كانت هناك دوما قنوات سرية تتنافس في تحسين الشروط السياسية بين الطرفين. واتفاقية أوسلو عام 1993 ndash; علي سبيل المثال - كانت في الأصل عبارة عن اتصالات أكاديمية ثم سياسية غير رسمية ثم أصبحت رسمية.
وعلي مدار عامين ونصف العام، من 2001 إلي 2003 وبرعاية الحكومة السويسرية التي قدمت دعما ماليا ولوجستيا، وبمشاركة جهات دولية أخري، وأكثر من خمسين شخصية فلسطينية واسرائيلية، توزعت لقاءاتها في عدة أماكن، من بينها بريطانيا وسويسرا واليابان ورام الله واسرائيل والأردن، صيغت هذه الوثيقة خطيا، وبصورة نهائية غير قابلة للتأويل.
وهي أشبه بمسودة اتفاق وضعت أرضية مشتركة للحل النهائي والشامل للصراع، وفق جدول زمني واضح. فقد أثبتت أن الصراع ليس quot; أبديا quot; أو ميتافيزيقيا، كما يريد له أصحاب الأصوليات المختلفة، وان هناك دائما عناصر مركزية في الجانبين ليسوا علي استعداد لتخليده مهما كانت الأسباب، وفضلا عن ذلك، أكدت أن فرص السلام لم ولن تضيع وسط غبار الدمار والخراب، أو في دوامة الانشغال بالذات في الحرب علي الإرهاب.
كما كانت أول وثيقة تقتحم quot; اللب النووي للصراع quot;: اللاجئين، القدس، الحدود الثابتة. وحسب quot; عاموس عوز quot;: quot; ففي كل الاتفاقيات السابقة، بما فيها أوسلو، تجنب الطرفان ذلك، واكتفوا بمد شريط أبيض حول حقول الألغام تلك، وأجلوا حلها إلي حين نشوء مستقبل أفضل. أما قمة quot; كامب ديفيد quot; فقد تحطمت عند ملامستها لهذه الألغام quot;.
الأهم من ذلك أنها حددت بالتفصيل الثمن المطلوب دفعه من أجل السلام، والتنازلات المؤلمة والحساسة للوصول إلي الحل النهائي. وتصدت بشجاعة للمزاعم الأسطورية العقائدية ndash; التي كان يتم التهرب منها دوما، إما بتجنبها أو بإنكارها ndash; من ذلك أسطورة أن القدس هي العاصمة الأبدية للشعب اليهودي، وبالتالي لا تعرف التقسيم.
لقد كانت هي quot; الفعل quot; الوحيد في ظل صمت عربي عالي الصوت، الذي quot; هز بقوة quot; عمق الوعي والموروث والمستقبل، وأدرك ضخامة المتغيرات الإقليمية والعالمية التي تتطلب ابتكار رؤي جديدة مبدعة تؤثر في عوامل القوي المحيطة بالصراع. فضلا عن انها وفرت الظرف والأداة السياسية الملائمة للتحقيق، في يوم من الأيام، هذا الهدف هو احياء اليسار الإسرائيلي وتعبئة قواه، وايجاد قضية سياسية له تجمع بين اطرافه، لتفعيل المواجهة مع معسكر اليمين وتفكيكه.
أضف إلي ذلك، أنها نهضت علي مبادئ الشرعية الدولية، وصيغت علي أسس تنطلق من مكونات ومبادرات (رسمية وغير رسمية) وأفكار تسوية سبق طرحها، ومن رصيد مفاوضات جرت في مراحل سابقة. وحسب الوصف البليغ quot; ليوسي بيلين quot;: quot; فقد كان يوم توقيع الاتفاق مع الفلسطينيين بالنسبة لي هو اليوم الثامن لمحادثات طابا التي استغرقت سبعة أيام وتوقفت في مطلع فبراير 2001 quot;.
ويعني ذلك أن توقيع quot; تفاهمات quot; وثيقة جنيف في 12 اكتوبر عام 2003، كان اليوم الأخير (الإضافي) لمحادثات طابا، وبالتالي فإن قرابة السنوات الثلاث التي نفصل بين التاريخين فترة ضائعة، توقفت فيها المفاوضات بفعل عوامل كثيرة.
بيد أن كلام بيلين لا يعني حرفيا أن الفترة من ( 2001 ndash; 2003) كانت سنواتا عجافا، فلم تتوقف المسيرة التفاوضية قط، بل شهدت كثافة من المبادرات والحوارات غير المسبوقة، فقد عرفت تفاهمات (بيريز ndash; أبو العلاء) أحمد قريع في مطلع 2002، وشهدت اعلان (نسيبة ndash; أيالون) أواخر عام 2002، كما طرحت أهم مبادرة رسمية فلسطينية (أحادية) بشأن التصورات التفصيلية المتعلقة بقضية التسوية مع اسرائيل، وهي الوثيقة التي قدمها الوزير الفلسطيني نبيل شعث إلي إدارة الرئيس بوش، ممثلة بوزير الخارجية وقتئذ quot; كولن باول quot; ومستشارة الأمن القومي quot; كوندليزا رايس quot; أواخر مايو 2002.
فقد سعي بيلين وفريقه إلي تطوير وتجديد ndash; مبادرة بيل كلينتون ndash; الذي حاول اقناع الرئيس الراحل عرفات بمشروع تسوية ناقص وغامض، أيده quot; باراك quot; في الربع ساعة الأخير من ولايته آنذاك، وأراد سد نواقص هذه المبادرة بإجتراح مشروع تسوية يعطي لكل الجانبين: الفلسطيني والإسرائيلي، مطلبا جوهريا ويبدد لديه هاجسا مقلقا.
مطلب الفلسطينيين الجوهري السيادة أو السيطرة الكاملة علي الحرم القدسي الشريف، لأنه رمز فلسطين وعنوان حيويتها، ومطلب الإسرائيليين الجوهري تخلي القيادة الفلسطينية عن حق العودة إلي ديارهم، بذلك تتفادي طغيان الفلسطينيين علي اليهود عدديا، وتحول بالتالي دون الغاء الهوية اليهودية لإسرائيل.
لقد كانت هذه الوثيقة في النهاية، بمثابة خطوط عامة موسعة للنقاط التي كان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قد طرحها في مقال نشر في صحيفة quot; نيويورك تايمز quot; فبراير 2002 تحت عنوان: quot; هذه هي رؤيتي للسلام quot;. ومن سوء الحظ أن النشر تزامن مع مناخات الحرب الأمريكية علي الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، ومع اتهام القيادة الفلسطينية بدعم الإرهاب، إثر الكشف عن باخرة السلاح quot; كارين أي quot;، ومع بداية السعي الإسرائيلي لعزل الرئيس عرفات وتدمير مؤسسات السلطة الفلسطينية، وأيضا (وهو الأهم) محاولات الإدارة الأمريكية طرح تصوراتها الخاصة بحل الصراع الفلسطيني ndash; الإسرائيلي، وهو ما نتج عنه القرار (1397) الصادر من مجلس الأمن في مارس 2002، وخطاب الرئيس بوش في يونيو 2002، وكلاهما أكد علي quot; حق الفلسطينيين في إقامة دولة لهم في الأرض المحتلة عام 1967.
وهذا هو جوهر وثيقة جنيف، التي كانت أشبه بإتفاق شامل وليس اتفاقا مرحليا، وهو اتفاق يتضمن جدولا زمنيا واضحا. ولم تكن هذه الوثيقة في الواقع ndash; حسب وصف عوز نفسه ndash; اعلان شهر عسل بين الشعوب، بقدر ما هي حصول الطرفين علي وثيقة quot; طلاق quot; منصفة.
وأخيرا فإن هذه الوثيقة هي quot; نموذج quot; لحل (موديل)، وليست وثيقة رسمية بين الحكومات. أي أنها مشروع لتسوية مقبولة بين الطرفين. وتكمن خصوصيتها حين نقارنها مع مبادرات أخري، في أمرين: الأول أنها تؤشر إلي نهاية النزاع، والثاني أنها لا تبقي أية علامات استفهام، من حيث كونها قد أجملت جميع التفاصيل العالقة بحيث لا يظل لأي طرف مطالب إضافية بعدها.
ثمة أفضلية أخري كامنة في حقيقة أن الطرف الفلسطيني تمثل وقتئذ، من خلال قيادة فلسطينية أصيلة وواسعة، تحظي بتأييد وتغطية سواء من جانب قيادة السلطة الوطنية أو من جانب النشطاء الميدانيين المركزيين، وعلي سبيل المثال، فقد مثل الجانب الفلسطيني: ياسر عبد ربه ونبيل قسيس وزهير مناصرة وقدورة فارس ومحمد حوراني وهشام عبد الرازق وغيرهم.
لكن يبدو ان اجتياز المئة متر الأخيرة، هي الأكثر صعوبة في كل المفاوضات، ليس بالنسبة للمتفاوضين أنفسهم وإنما للمتابعين والمحللين أيضا، لأنها تتطلب تركيزا يأخذ في الحسبان ما تم وما لم يتم، وكل الإحباطات السابقة والمتوقعة، واصرارا وجهدا عقليا أعلي بكثير من المراحل التفاوضية نفسها.... فهل نعاود السباق مرة الأخري من نقطة البداية، أم نسعي لإجتياز المئة متر الأخيرة؟
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]