خلال شهر واحد احترق أثران ورمزان بالغا الأهمية في ذاكرة أي أمة متحضرة، الأول هو مبنى أول مجلس نيابي ليس في مصر وحدها، بل وفي المنطقة برمتها، أما الثاني فهو المسرح القومي، الذي كانت له الريادة أيضاً في نشر المسرح الحديث بالشرق الأوسط، وقبلهما احترق مسرح قصر الثقافة بمدينة quot;بني سويفquot; الذي راح ضحيته عشرات الفنانين والمشاهدين، وظل المتهم واحدا في كل هذه الحالات، تطلق عليه الحكومة اسم quot;الماس الكهربائيquot;، ويسميه المصريون quot;الإهمالquot;.
قبلها احترقت رموز وبنايات وقطارات وأشياء أخرى، مما يعود بذاكرة المصريين الجماعية لتلك الأجواء التي سبقت انقلاب 1952، والتي توجت بحريق القاهرة الشهير الذي التهم ضمن ما التهمه، المبنى القديم لدار الأوبرا المصرية.
زميلنا الصحافي المخضرم الذي يحرص على تغطية الأحداث المهمة ميدانياً رغم قضائه أكثر من 35 عاماً في بلاط صاحبة الجلالة، وقف يتأمل النيران تلتهم المسرح القومي، وقد بدا من فرط الأسى المرسوم على وجهه أكبر كثيراً مما عهدناه، وفجأة انتحى ركناً قصّياً وراح يبكي بحرقة فاجأت جميع زملائه وتلاميذه.
وبحضن لا يخلو من بعض الخشونة لإجباره على مرافقتنا، شاركني زميلان في اصطحاب الرجل إلى السيارة، ورحت أقودها دون هدف محدد، في مدينة تبدو مثل غابة من الأسمنت، تخترق باطنها الأنفاق، وتعتليها الكباري، وتمرح في ربوعها سيارات تبدو أكثر خطورة من الوحوش الكاسرة في الغابات.
ساد الصمت دقائق لنمنح الرجل حقه في التأمل ولملمة مشاعره، وبعدها تحدثنا كثيراً وضحكنا أكثر كعادة المصريين في كل الكوارث، وفجأة quot;نقح عليّquot; ميكروب الفضول الصحافي، فسألته عن سبب بكائه بهذه الحرقة في هذا الحادث تحديداً، وهو الذي رأى كوارث وحوادث لا حصر لها، ومازحته متعمداً استفزازه بقولي، إنه ربما أصبح عجوزاً، لم تعد تحتمل مشاعره المشاهد الصعبة، لكنه رد بهدوء قائلاً إن الأمر يرتبط بذكريات شخصية لا ينساها، فقد كان هذا المسرح هو أول مكان يمارس فيه الصحافة حين أجرى سلسلة حوارات مع كبار الفنانين، هي التي مهدت أمامه الطريق ليحترف الصحافة، أما الأهم من ذلك فإنه تعرف في ردهاته على رفيقة عمره أثناء مشاهدتهما لأحد العروض، وقضى مع تلك السيدة التي تزوجها قبل ثلاثين عاماً أمسيات لا تنسى في هذا المكان، بل وأورثا أبنائهما عشق المسرح، لدرجة إن ابنه الأكبر يعمل كمساعد مخرج الآن، وبالتالي فقد كان المسرح القومي شريكاً وشاهداً على أجمل سنوات عمره.
وبعيداً عن هذه المشاعر الشخصية فإنه يرى أن المسرح القومي تحديداً، مسرح البسطاء المحترمين المتحضرين، وهاهو الآن يرى جزءاً عزيزاً من عمره وذكرياته ولحظات السعادة في حياته، كلها تحترق أمام عينيه، بينما يعجز عن القيام بأي شئ للتصدي لتلك النيران الشرسة.
يتابع: quot;تشغلني كثيراً هذه الأيام تفاصيل حالة الانحطاط الحضاري التي انزلقنا إليها في مصر خلال العقود الماضية، وكيف تحولت مصر خلالها من منصة لإطلاق الحريات والفنون، وبورصة للأفكار والإبداع، إلى مخزون هائل للتعصب والكراهية، وانعدام الرغبة في الحياة والانسحاب منها، وراح أشرار ينفثون سمومهم لتعميق هذه الحالة، وهكذا تربعت على عروش قلوب الشباب أسماء من فصيلة: quot;أبو الأشبال السلفيquot; وquot;أبو سراقة الأثريquot;، بعد أن كانت تلك القلوب مسكونة بعشاق الحياة، وباختصار أصبحنا الآن في مصر من أكثر شعوب المنطقة كآبة، وصار المصري المرح مجرد تراث، وأصبحنا مستفزين لدرجة التلذذ بإيذاء بعضنا البعض، ولو لم نحقق من ذلك أي منفعة.. هكذا تحدث الصحافي المخضرم بما يشبه quot;مونولوغquot; ذاتي تعليقاً على عمر عاشه في كنف هذا البلد، وراقب كل أحداثه عن كثب.
كان الزميل المخضرم يتحدث كأنه يفكر بصوت مرتفع، تتدفق كلماته بسلاسة مريرة، يتوقع كارثة كبرى، مبدياً أسفه للعجز عن تسميتها، لأنه ببساطة لا يعرف لها اسماً محدداً، لكنه يتوقع خطوطها العريضة وملامحها التي يؤكد أنها ستأتي على الأخضر واليابس.
لعلها الفوضى العارمة التي تتغذى على الإهمال المتكرر، والضمائر التي استمرأت البلادة، ولعلها أشياء أخرى كانت تدور في مخيلته لكن المؤكد كما يتنبأ الرجل، ويؤيده كثيرون في هذه النبوءة الشريرة ـ التي ندعو الله ألا تتحقق ـ أن كارثة هائلة بانتظار هذه البلاد، فقد انفصلت تماماً نخبته الحاكمة عن الشارع، فهؤلاء يعيشون في قصور حصينة خارج القاهرة، تحميهم سيارات مصفحة، ويرافقم شباب أشداء لحراستهم في كل مكان، فأنى لشخص يعيش هذا النمط من الحياة، أن يرى ما يعانيه ملايين الفقراء وجحافل العاطلين عن العمل، الذين تقودهم ظروفهم الصعبة إلى دهاليز التطرف الديني، أو التفلت الأخلاقي، أو السقوط في فخ العدمية والانسحاب من الحياة.
أخيراً وصلنا إلى منزل شيخنا المخضرم، فترجل يمضي متثاقلاً، وبعد أن ودعناه كان علينا أن نفترق، وقبل أن يمضي كل منا لحال سبيله، فوجئت بزميلي يكسر حاجز الكآبة بتعليق ساخر لا يخلو من المرارة قائلاً: quot;نلتقي إذن في الحريق المقبلquot;.
[email protected]
قبلها احترقت رموز وبنايات وقطارات وأشياء أخرى، مما يعود بذاكرة المصريين الجماعية لتلك الأجواء التي سبقت انقلاب 1952، والتي توجت بحريق القاهرة الشهير الذي التهم ضمن ما التهمه، المبنى القديم لدار الأوبرا المصرية.
زميلنا الصحافي المخضرم الذي يحرص على تغطية الأحداث المهمة ميدانياً رغم قضائه أكثر من 35 عاماً في بلاط صاحبة الجلالة، وقف يتأمل النيران تلتهم المسرح القومي، وقد بدا من فرط الأسى المرسوم على وجهه أكبر كثيراً مما عهدناه، وفجأة انتحى ركناً قصّياً وراح يبكي بحرقة فاجأت جميع زملائه وتلاميذه.
وبحضن لا يخلو من بعض الخشونة لإجباره على مرافقتنا، شاركني زميلان في اصطحاب الرجل إلى السيارة، ورحت أقودها دون هدف محدد، في مدينة تبدو مثل غابة من الأسمنت، تخترق باطنها الأنفاق، وتعتليها الكباري، وتمرح في ربوعها سيارات تبدو أكثر خطورة من الوحوش الكاسرة في الغابات.
ساد الصمت دقائق لنمنح الرجل حقه في التأمل ولملمة مشاعره، وبعدها تحدثنا كثيراً وضحكنا أكثر كعادة المصريين في كل الكوارث، وفجأة quot;نقح عليّquot; ميكروب الفضول الصحافي، فسألته عن سبب بكائه بهذه الحرقة في هذا الحادث تحديداً، وهو الذي رأى كوارث وحوادث لا حصر لها، ومازحته متعمداً استفزازه بقولي، إنه ربما أصبح عجوزاً، لم تعد تحتمل مشاعره المشاهد الصعبة، لكنه رد بهدوء قائلاً إن الأمر يرتبط بذكريات شخصية لا ينساها، فقد كان هذا المسرح هو أول مكان يمارس فيه الصحافة حين أجرى سلسلة حوارات مع كبار الفنانين، هي التي مهدت أمامه الطريق ليحترف الصحافة، أما الأهم من ذلك فإنه تعرف في ردهاته على رفيقة عمره أثناء مشاهدتهما لأحد العروض، وقضى مع تلك السيدة التي تزوجها قبل ثلاثين عاماً أمسيات لا تنسى في هذا المكان، بل وأورثا أبنائهما عشق المسرح، لدرجة إن ابنه الأكبر يعمل كمساعد مخرج الآن، وبالتالي فقد كان المسرح القومي شريكاً وشاهداً على أجمل سنوات عمره.
وبعيداً عن هذه المشاعر الشخصية فإنه يرى أن المسرح القومي تحديداً، مسرح البسطاء المحترمين المتحضرين، وهاهو الآن يرى جزءاً عزيزاً من عمره وذكرياته ولحظات السعادة في حياته، كلها تحترق أمام عينيه، بينما يعجز عن القيام بأي شئ للتصدي لتلك النيران الشرسة.
يتابع: quot;تشغلني كثيراً هذه الأيام تفاصيل حالة الانحطاط الحضاري التي انزلقنا إليها في مصر خلال العقود الماضية، وكيف تحولت مصر خلالها من منصة لإطلاق الحريات والفنون، وبورصة للأفكار والإبداع، إلى مخزون هائل للتعصب والكراهية، وانعدام الرغبة في الحياة والانسحاب منها، وراح أشرار ينفثون سمومهم لتعميق هذه الحالة، وهكذا تربعت على عروش قلوب الشباب أسماء من فصيلة: quot;أبو الأشبال السلفيquot; وquot;أبو سراقة الأثريquot;، بعد أن كانت تلك القلوب مسكونة بعشاق الحياة، وباختصار أصبحنا الآن في مصر من أكثر شعوب المنطقة كآبة، وصار المصري المرح مجرد تراث، وأصبحنا مستفزين لدرجة التلذذ بإيذاء بعضنا البعض، ولو لم نحقق من ذلك أي منفعة.. هكذا تحدث الصحافي المخضرم بما يشبه quot;مونولوغquot; ذاتي تعليقاً على عمر عاشه في كنف هذا البلد، وراقب كل أحداثه عن كثب.
كان الزميل المخضرم يتحدث كأنه يفكر بصوت مرتفع، تتدفق كلماته بسلاسة مريرة، يتوقع كارثة كبرى، مبدياً أسفه للعجز عن تسميتها، لأنه ببساطة لا يعرف لها اسماً محدداً، لكنه يتوقع خطوطها العريضة وملامحها التي يؤكد أنها ستأتي على الأخضر واليابس.
لعلها الفوضى العارمة التي تتغذى على الإهمال المتكرر، والضمائر التي استمرأت البلادة، ولعلها أشياء أخرى كانت تدور في مخيلته لكن المؤكد كما يتنبأ الرجل، ويؤيده كثيرون في هذه النبوءة الشريرة ـ التي ندعو الله ألا تتحقق ـ أن كارثة هائلة بانتظار هذه البلاد، فقد انفصلت تماماً نخبته الحاكمة عن الشارع، فهؤلاء يعيشون في قصور حصينة خارج القاهرة، تحميهم سيارات مصفحة، ويرافقم شباب أشداء لحراستهم في كل مكان، فأنى لشخص يعيش هذا النمط من الحياة، أن يرى ما يعانيه ملايين الفقراء وجحافل العاطلين عن العمل، الذين تقودهم ظروفهم الصعبة إلى دهاليز التطرف الديني، أو التفلت الأخلاقي، أو السقوط في فخ العدمية والانسحاب من الحياة.
أخيراً وصلنا إلى منزل شيخنا المخضرم، فترجل يمضي متثاقلاً، وبعد أن ودعناه كان علينا أن نفترق، وقبل أن يمضي كل منا لحال سبيله، فوجئت بزميلي يكسر حاجز الكآبة بتعليق ساخر لا يخلو من المرارة قائلاً: quot;نلتقي إذن في الحريق المقبلquot;.
[email protected]
التعليقات