في إستفتاء إيلاف بشأن الإنتفاضات الشعبية العربية
إنقسام حاد بين القراء بشأن إمكانية تحرك الجماهير
إستفتاءات سابقة الكنائس لا تهدد الهوية الدينية لدول الخليج الانقسام حول عماد مغنية: خلاف حادّ على تقديره ذمّاً أو مدحًا
كتب ـ نبيل شرف الدين: البداية ثلاثة أشخاص من عوالم مختلفة تمامًا، وإن كانوا يعيشون معًا تحت سماء quot;مصر المحروسةquot;، غير أن كلاً منهم ينتمي إلى كوكب خاص، فالأول quot;يساري بالوراثةquot; إذا صح التعبير، فعلى الرغم من تخرجه في الجامعة الأميركية بالقاهرة لكن وعيه على العالم تفتح على أدبيات اليسار، فوالده ووالدته جمعهما الانتماء الإيديولوجي وسجون عبد الناصر والسادات قبل أن يجمعهما الزواج .
أما الثاني فهو سليل أسرة تنتمي بشكل تاريخي إلى الحكم، بغض النظر عمن يحكم البلاد، فجده كان ضابطًا كبيرًا في الحرس الملكي، ووالده كان من المحسوبين على الصفين الثاني والثالث من quot; الضباط الأحرارquot;، وهو بدوره ضابط شرطة كبير، عمل في عهدي السادات ومبارك، ولأبناء هذه الأسرة دائمًا نصيب تاريخي وعرفي من السلطة، ملكية كانت أو جمهورية، اشتراكية أو انفتاحية، هذا ليس مهمًا، المهم هو المنصب.
يبقى النموذج الثالث ممثلاً في شاب شاءت له الأقدار أن يكون إخوانيًا من جهتي الأب والأم، وبالأحرى تمتد جذوره لنشأة الجماعة، فجده لأمه من رفاق حسن البنا مؤسس quot; الإخوان المسلمين quot; وكذا جده لأبيه من الرعيل الأول، وبالتالي فقد نشأ صاحبنا لأسرة كافة أبنائها من نشطاء الإخوان، وقبل أن ينهي دراسته عمل في شركة يملكها شركاء من الإخوان، وتزوج كريمة أحدهم، لذا صارت الجماعة قدره المحتوم.
هؤلاء الثلاثة يحملون بالتأكيد رؤى متباينة تمامًا للعالم والأحداث والقضايا الملحة على الساحة، لكن لعل أكثر المسائل الخلافية التي تكشف حجم الهوة بينهم هي مسألة quot;تحرك الجماهيرquot;، ومدى التوقعات بأن تنتفض تلك الجماهير إذا ما بلغت الأزمات الاقتصادية وموجات الغلاء في أسعار السلع والخدمات حداً معيناً، هنا يتخذ كل منهم زاوية من المشهد لا يكاد يرى سواها، ويحسب ما دونها مجرد أوهام وخرافات .
الجماهير والإيديولوجيا
أحد الأسواق في العاصمة المصرية |
أما صاحبنا الإخواني فهو لا يفكر على هذا النحو الطوباوي اليساري، بل يصنع الزحف، فهو محرض محترف، يعرف كيف يجعل البسطاء يؤمنون بأن التظاهر فريضة شرعية، والاحتجاج من النوافل، كما يتقن مهارات تنظيمية لدرجة تجعل المرء يتصور أن قوى كونية، وربما قطاعات شعبية هائلة تقف خلفه، وبالتالي فهو يرى أن انتفاضة الجياع مسألة ليست عملية تلقائية بالضرورة كما قد يتصور اليساريون، بل هي مجرد quot;تكئةquot;، بوسعه أن يستغلها للتحريض، وبوسعه أن ينزع عنها فتيل الخطر بالحديث عن الرزق المقسوم والمقدر والرضا به .
يبقى أخيرًا صاحبنا quot;ابن الحكومةquot;، الذي يحمل قدرًا هائلاً من الاستخفاف بالجماهير والناس، وهو موقن أن هؤلاء quot;الدهماءquot; لم يصنعوا تاريخًا ذات يوم بل هم quot;مجرد أدواتquot; يمكن حشدها في هذا الاتجاه أو ذاك، وبالتالي فإن الحديث عن ثورة جياع تلقائية هو بتقديره مجرد خرافة، وأن المسألة ليست أكثر من نشاط تحريضي، يتصدى له بعض quot;الأشرارquot; كالإخوان أوالشيوعيين أو الفوضويين، وأن إقرار الأمن والنظام يقتضي التوجه مباشرة لإخماد نيران المحرضين، وعزلها عن وقود الدهماء حتى لا تقع الفأس في الرأس في لحظة عبثية غير محسوبة بشكل دقيق .
إذًا فهذه الرؤى الثلاث تعكس حجم الانقسام الحاد الذي يصل إلى حد الاستقطاب، حيال الرهان على تحرك الجماهير في حال استفحلت أزمات الغلاء وتصاعدت موجاته في الدول العربية، وهو ما عكسته أيضًا نتائج استفتاء (إيلاف) لهذا الأسبوع حين طرحت سؤالاً يقول: هل تنذر موجة الغلاء بانتفاضات شعبية عربيًا؟ .
الثقافة العربية والاحتجاج
وبتقديري، فإن أهم ما في السؤال هو صفة quot;عربيًاquot;، فقد حدث بالفعل أن انهارت أنظمة حكم ديكتاتورية على يد حركات شعبية في مختلف أنحاء العالم، بداية بانهيار الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينات على أثر قيام انتفاضات شعبية أطاحت بالنظم الستالينية في بلدان أوروبا الشرقية ودول آسيوية وأخرى في أميركا اللاتينية، إلا أن هناك من يستبعد حدوث ذلك في المنطقة العربية، استنادًا إلى أن الثقافة السائدة في هذا الإقليم هي quot;ثقافة السمع والطاعةquot;، وبالتالي فلعبة التحريض الشعبي تلك لن تلقى قبولاً واسعًا لدى ملايين البشر الذين يؤمنون بأن طاعة ولي الأمر واجب ديني، ما دام يرفع راية الدين ويقيم حدود الله، وأن الأمور السياسية مثل الغلاء وانتشار الفساد وغيرها مما يمكن التسامح بشأنها، بالنظر إلى أنها لا تجيز للناس الخروج على الحاكم والنظام، وإشاعة الفوضى، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
لكن في المقابل، فإن التجربة المصرية تحمل خبرة أخرى مغايرة لتلك الرؤية، فالانتفاضة الشعبية التي جرت في نهاية عهد الرئيس الراحل أنور السادات، ترجع لظروف مماثلة، منها أن الحكومة في ذلك الوقت أعلنت، في الصحف الرسمية الصادرة صباح يوم 18 كانون الثاني (يناير) عام 1977 عن قرار برفع أسعار عدة سلع أساسية، منها الخبز والزيت والسكر والأرز والبنزين والسجائر، وبالتالي انفجر الوضع، ولم يجد السادات حينها مفرًا من التراجع عن تلك القرارات حتى يمتص غضبة الجماهير .
وكأن الزمن يعيد نفسه، فبعد أن أصبح لحرب الخبز في مصر quot;ضحايا وشهداءquot;، أسرع النظام الحاكم إلى توفير 4 مليارات جنيه لحل هذه الأزمة على نحو عاجل، خشية أن تتصاعد الأمور على نحو لا يمكن تداركه ببساطة .
وبين ثقافة quot;السمع والطاعةquot;، وخبرات الانفلات الشعبي المباغت، كان منطقيًا أن تأتي نتائج استفتاء (إيلاف) متقاربة إلى حد الاستقطاب الحاد بين المشاركين، فقد أجابت نسبة قوامها 51%، يمثلون (1815 مشاركًا) بالإيجاب، واختارت (نعم .. يمكن أن تنذر موجات الغلاء بانتفاضات شعبية عربيا)، بينما ذهبت نسبة تقترب منها كثيرًا إلى الاتجاه المعاكس تمامًا، وهو الخيار (لا)، الذي صوت لصالحه (1664 مشاركًا) يشكلون نسبة 46%، بينما ظلت نسبة هامشية لم تتجاوز 3% في المنطقة الرمادية (لا أدري) وتمثل (108 مشاركًا) من أصل 3587 شخصًا شاركوا في الاستفتاء، ولعل هذه النسب المتقاربة بين توقع الهبات والانتفاضات الشعبية واستبعادها، يعكس حقيقة مؤكدة مفادها أن هناك بالفعل انقسامًا حديًا، حول مدى الرهان على انتفاضة الجماهير في المنطقة العربية، كتأثير مباشر لقضايا حياتية ملحة مثل غلاء الأسعار، التي طالما كانت محركًا لشعوب أخرى.
التعليقات