كان أكثر الأفعال استخداماً في كارثة انهيار صخور من هضبة quot;المقطمquot; على عشرات المنازل ومئات الضحايا بمنطقة quot;الدويقةquot; العشوائية، التي تتربع كأنها quot;ذنب عظيمquot; وسط القاهرة، كان هو فعل quot;إنهارquot;، الذي ظل قاسماً مشتركاً متكرراً في كافة التغطيات والتعليقات الصحافية المرتبطة بهذا الحدث المأساوي.
كما كان الفعل الأبرز في عملية اختطاف السياح الأوروبيين ومرافقيهم المصريين هو فعل quot;اختطفquot;، ثم أعقبته أفعال لا تقل بشاعة مثل quot;ابتزquot;، quot;ساومquot;.
وأيضاً في جريمة quot;الملياردير والمطربةquot;، والتي أُتهم بالضلوع فيها رجل الأعمال الشهير هشام طلعت مصطفى، بالتحريض على قتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم انتقاماً منها، وقد استخدمت خلالها عدة أفعال، كان أبرزها فعل quot;قتلquot;، وquot;انتقمquot;، ناهيك عن أفعال أخرى مثل quot;اتهمquot;، quot;خانquot;.. الخ.
أما في كارثة احتراق المبنى التاريخي والأثر المعماري الفريد لمجلس الشورى، فقد حضر فعل quot;احترقquot;، وبدا أن فعل quot;عجزquot; يلازمه، إذ رأينا كيف ضرب العجز والترهل وقلة الحيلة الجميع، لدرجة تحولوا معها إلى مجرد مشاهدين لا يملكون شيئاً حيال ألسنة اللهب المستعرة التي كانت تلتهم تاريخاً برمته.
كذلك في كارثة quot;العبّارةquot; الشهيرة، التي لقي فيها ما يزيد على ألف ومائة شخص مصرعهم غرقاً، برز فعل quot;غرقquot; كأكثر المفردات استخداماً في وصف الكارثة، التي انتهت وقائعها إلى كارثة أخرى، وهي تبرئة المتهمين فيها، وتحميل quot;القضاء والقدرquot; المسؤولية عنها.
إذن نحن في هذه اللحظة الراهنة من عمر الزمان، وفي المكان الرائع المعروف باسم مصر، وفي عهد فخامة الرئيس محمد حسني مبارك، وفي ظل حكومة quot;الحزب الوطني الديموقراطيquot;، أصبحنا نفرط كثيراً في استخدام أفعال مخيفة من عينة: quot;إنهارquot;، quot;اختطفquot;، quot;قتلquot;، quot;احترقquot;، quot;عجزquot; quot;انتقمquot; فضلاً عن quot;غرقquot;.
ونظراً لتواتر هذه الأفعال، وحضورها اليومي في حياتنا، فالأمر يقتضي التوقف مع الذات، وتأمل اللحظة بعيداً عن الحسابات البراغماتية التي قد تفرضها مصالحنا وأمزجتنا، فالمسألة بالفعل أكبر من تلك الاعتبارات، لأنها تتعلق بوجودنا ومستقبل أبنائنا، وبالتالي فإن الانزعاج ليس مجرد إحساس مشروع فحسب، بل ربما ذهبت لما هو أبعد من ذلك وأعتبرته quot;واجباً وطنياًquot;، وإلا أصبحنا أمة متبلدة لا تقدر للأمور عواقبها، وربما فقدت بوصلتها في مواجهة الأزمات التي تحاصرها، ولم تعد تشعر بما يحدق بها من مخاطر، أو ما قد يتهددها من كوارث.
quot;الدولة ليست الحكومة ولا النظامquot;، هذه القاعدة الذهبية تغيب عن أذهان البعض في بلادنا، ربما من فرط الربط التعسفي المخادع بين الحاكم والوطن، غير أن أحدث طالب يدرس العلوم السياسية أو القانون يعرف أن الدولة هي الكيان الاعتباري الذي يجمع المواطنين تحت رايته، بينما الحكومة ليست أكثر من مجلس إدارة شركة، يمكن أن يتبدل أعضاؤه أو يموتوا، لكن تستمر الشركة بمجلس جديد.
يبدو الحديث عن quot;الدولة والنظامquot; مملاً بالفعل، لكنه ضروري كي ندرك مدى أهمية الأولى مقارنة بالثانية، وهذا هو الوضع الطبيعي للأمور، أن تكون الدولة أقوى من النظام وأكثر رسوخاً، لكن ما يحدث في مصر الآن هو العكس تماماً، فالنظام الحاكم أصبح أقوى من الدولة التي تثبت لنا الشواهد اليومية أنها باتت quot;هشةquot; لدرجة تثير القلق، بينما يستميت النظام والقائمون عليه في تقوية أوضاعهم، وحماية مناصبهم.
النظام قويٌ لدرجة لا يجرؤ معها كائنٌ من كان أن يتعرض له، أو يمس رموزه، بينما الدولة تزداد رخاوة وهشاشة إلى حد عجزها عن ممارسة أبسط مهامها، كضبط قواعد المرور، ومراقبة قواعد البناء، ومواجهة ترهل وفساد الجهاز الإداري، وغير ذلك من الأمور التي تعد من أبجديات مهام الدولة.
وأخيراً تواترت الاعتداءات على هيبة الدولة المصرية من قبل الحابل والنابل، فمثلاً ميليشيات quot;حماسquot; المتأسلمة تقتحم الحدود وتطلق الرصاص على الجنود المصريين وترفع العلم الفلسطيني في العريش المصرية، وعصابات الصحراء تختطف السياح الأجانب وتبتز الجميع للحصول على فدية مالية ضخمة، والمتطرفون اختطفوا المنابر وشاشات الفضائيات ليبثوا خطاباً تحريضياً طائفياً، يستجيب له الملايين من المراهقين والمحبطين والمأزومين وليس مستبعداً أن يصبحوا ذات يوم قريبٍ نواةً لجماعات إرهابية تنتهج القوة لفرض رؤاها العصابية على الجميع، وهانحن نرى كيف يتحول المجتمع بسرعة البرق نحو المسلك والمظهر والقناعات المتشددة، وتمثل هشاشة الدولة فرصة ذهبية لهؤلاء حتى يخترقوا كافة المؤسسات.
باختصار، ودون تقعر، فإن المشهد السياسي والاجتماعي في مصر الآن أصبح بالغ الخطورة دون أدنى مبالغة، وصارت البلاد على وشك الوشك، فالانهيار لم يحدث في منطقة quot;الدويقةquot; وحدها، بل كانت مجرد مظهر من مظاهر انهيار شامل، والاختطاف لم يقتصر على السياح، بل اختطف العائدون من quot;نفطستانquot; المجتمع المصري برمته، وتمكنوا من غزوه بقيم التخلف، والانتقام لا يبدو حكراً على نزوات المليارديرات المنفصلين عن مجتمعهم، بل لعله أوشك أن يصبح سلوكاً شعبياً ينذر بفوضى عارمة، والحرائق لم تقتصر على المبنى الأثري الذي يمثل قيمة رمزية مهمة، لكنها امتدت لتأكل الأخضر واليابس، والغرق لم يكن قدر ضحايا quot;العبّارةquot; المنكوبة، بل أخشى أن يطال وطناً بأسره، يبدو أنه يستحق أبناءً أفضل.
والله المستعان
[email protected]
كما كان الفعل الأبرز في عملية اختطاف السياح الأوروبيين ومرافقيهم المصريين هو فعل quot;اختطفquot;، ثم أعقبته أفعال لا تقل بشاعة مثل quot;ابتزquot;، quot;ساومquot;.
وأيضاً في جريمة quot;الملياردير والمطربةquot;، والتي أُتهم بالضلوع فيها رجل الأعمال الشهير هشام طلعت مصطفى، بالتحريض على قتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم انتقاماً منها، وقد استخدمت خلالها عدة أفعال، كان أبرزها فعل quot;قتلquot;، وquot;انتقمquot;، ناهيك عن أفعال أخرى مثل quot;اتهمquot;، quot;خانquot;.. الخ.
أما في كارثة احتراق المبنى التاريخي والأثر المعماري الفريد لمجلس الشورى، فقد حضر فعل quot;احترقquot;، وبدا أن فعل quot;عجزquot; يلازمه، إذ رأينا كيف ضرب العجز والترهل وقلة الحيلة الجميع، لدرجة تحولوا معها إلى مجرد مشاهدين لا يملكون شيئاً حيال ألسنة اللهب المستعرة التي كانت تلتهم تاريخاً برمته.
كذلك في كارثة quot;العبّارةquot; الشهيرة، التي لقي فيها ما يزيد على ألف ومائة شخص مصرعهم غرقاً، برز فعل quot;غرقquot; كأكثر المفردات استخداماً في وصف الكارثة، التي انتهت وقائعها إلى كارثة أخرى، وهي تبرئة المتهمين فيها، وتحميل quot;القضاء والقدرquot; المسؤولية عنها.
إذن نحن في هذه اللحظة الراهنة من عمر الزمان، وفي المكان الرائع المعروف باسم مصر، وفي عهد فخامة الرئيس محمد حسني مبارك، وفي ظل حكومة quot;الحزب الوطني الديموقراطيquot;، أصبحنا نفرط كثيراً في استخدام أفعال مخيفة من عينة: quot;إنهارquot;، quot;اختطفquot;، quot;قتلquot;، quot;احترقquot;، quot;عجزquot; quot;انتقمquot; فضلاً عن quot;غرقquot;.
ونظراً لتواتر هذه الأفعال، وحضورها اليومي في حياتنا، فالأمر يقتضي التوقف مع الذات، وتأمل اللحظة بعيداً عن الحسابات البراغماتية التي قد تفرضها مصالحنا وأمزجتنا، فالمسألة بالفعل أكبر من تلك الاعتبارات، لأنها تتعلق بوجودنا ومستقبل أبنائنا، وبالتالي فإن الانزعاج ليس مجرد إحساس مشروع فحسب، بل ربما ذهبت لما هو أبعد من ذلك وأعتبرته quot;واجباً وطنياًquot;، وإلا أصبحنا أمة متبلدة لا تقدر للأمور عواقبها، وربما فقدت بوصلتها في مواجهة الأزمات التي تحاصرها، ولم تعد تشعر بما يحدق بها من مخاطر، أو ما قد يتهددها من كوارث.
quot;الدولة ليست الحكومة ولا النظامquot;، هذه القاعدة الذهبية تغيب عن أذهان البعض في بلادنا، ربما من فرط الربط التعسفي المخادع بين الحاكم والوطن، غير أن أحدث طالب يدرس العلوم السياسية أو القانون يعرف أن الدولة هي الكيان الاعتباري الذي يجمع المواطنين تحت رايته، بينما الحكومة ليست أكثر من مجلس إدارة شركة، يمكن أن يتبدل أعضاؤه أو يموتوا، لكن تستمر الشركة بمجلس جديد.
يبدو الحديث عن quot;الدولة والنظامquot; مملاً بالفعل، لكنه ضروري كي ندرك مدى أهمية الأولى مقارنة بالثانية، وهذا هو الوضع الطبيعي للأمور، أن تكون الدولة أقوى من النظام وأكثر رسوخاً، لكن ما يحدث في مصر الآن هو العكس تماماً، فالنظام الحاكم أصبح أقوى من الدولة التي تثبت لنا الشواهد اليومية أنها باتت quot;هشةquot; لدرجة تثير القلق، بينما يستميت النظام والقائمون عليه في تقوية أوضاعهم، وحماية مناصبهم.
النظام قويٌ لدرجة لا يجرؤ معها كائنٌ من كان أن يتعرض له، أو يمس رموزه، بينما الدولة تزداد رخاوة وهشاشة إلى حد عجزها عن ممارسة أبسط مهامها، كضبط قواعد المرور، ومراقبة قواعد البناء، ومواجهة ترهل وفساد الجهاز الإداري، وغير ذلك من الأمور التي تعد من أبجديات مهام الدولة.
وأخيراً تواترت الاعتداءات على هيبة الدولة المصرية من قبل الحابل والنابل، فمثلاً ميليشيات quot;حماسquot; المتأسلمة تقتحم الحدود وتطلق الرصاص على الجنود المصريين وترفع العلم الفلسطيني في العريش المصرية، وعصابات الصحراء تختطف السياح الأجانب وتبتز الجميع للحصول على فدية مالية ضخمة، والمتطرفون اختطفوا المنابر وشاشات الفضائيات ليبثوا خطاباً تحريضياً طائفياً، يستجيب له الملايين من المراهقين والمحبطين والمأزومين وليس مستبعداً أن يصبحوا ذات يوم قريبٍ نواةً لجماعات إرهابية تنتهج القوة لفرض رؤاها العصابية على الجميع، وهانحن نرى كيف يتحول المجتمع بسرعة البرق نحو المسلك والمظهر والقناعات المتشددة، وتمثل هشاشة الدولة فرصة ذهبية لهؤلاء حتى يخترقوا كافة المؤسسات.
باختصار، ودون تقعر، فإن المشهد السياسي والاجتماعي في مصر الآن أصبح بالغ الخطورة دون أدنى مبالغة، وصارت البلاد على وشك الوشك، فالانهيار لم يحدث في منطقة quot;الدويقةquot; وحدها، بل كانت مجرد مظهر من مظاهر انهيار شامل، والاختطاف لم يقتصر على السياح، بل اختطف العائدون من quot;نفطستانquot; المجتمع المصري برمته، وتمكنوا من غزوه بقيم التخلف، والانتقام لا يبدو حكراً على نزوات المليارديرات المنفصلين عن مجتمعهم، بل لعله أوشك أن يصبح سلوكاً شعبياً ينذر بفوضى عارمة، والحرائق لم تقتصر على المبنى الأثري الذي يمثل قيمة رمزية مهمة، لكنها امتدت لتأكل الأخضر واليابس، والغرق لم يكن قدر ضحايا quot;العبّارةquot; المنكوبة، بل أخشى أن يطال وطناً بأسره، يبدو أنه يستحق أبناءً أفضل.
والله المستعان
[email protected]
التعليقات