بعد ظهور كتاب (داروين) عن (أصل الأنواع) عام 1859 م توجهت زوجة أسقف كنيسة وركستر (BISHOP OF WORCESTER) مذعورةً الى السماء بالدعاء قائلة: يا رب أدعوك أن لا يكون ما يدَّعيه دارون حقيقةً؟ وإن صح ذلك فابتهل إليك أن لا ينتشر خبره بين الناس فيضلوا عن سبيلك ويفتنون... إن دارون لفي ضلال مبين؟
ويبدو أن الدعاء لم ينفع، فقد عم الخبر كالزلزال واعترفت الكنيسة بعد مرور مائة عام على نظريته في التطور كـ (موديل محتمل) لنشوء الأنواع!!.
لم يكتب دارون أكثر من كتابين، ولكن البركان الذي فجَّره لم تكف حممه عن قذف اللافا حتى اليوم.
والخالدون في الفكر عادة لم يكتبوا الكثير؛ فسقراط لم يكتب شيئاً، وترك ديكارت مقالة يتيمة في المقال على المنهج، ويعلق (ديورانت) المؤرخ في (قصة الفلسفة) أن نابليون كان أجدى له لمسيرة التقدم الانساني من كل فتوحاته لو فعل مثل (سبينوزا) فكتب أربعة كتب.
لسنا في صدد تقييم نظرية دارون في هذه الأسطر، ولكن من الأهمية بمكان بناء فكرة (السير في الأرض ـ علم الجينيالوجيا GENIALOGY) لمعرفة كيف تبدأ الأفكار بوزن ملغرام لتصل الى ميجاطن، فالمجرات هي تجمع فلكي للذرات، والإمبراطوريات هي احتشاد طاقة ملايين الأفراد في إنجاز إنساني، والراسخون في العلم يبدءون من تلامذة متواضعين، والجبل العظيم تراكم هائل للحصى والأحجار، والانتصارات العظمى هي محصلة تراكمية لانجازات صغيرة من حجم النانو؟
ما فعله (دارون) بدورانه حول الأرض على ظهر سفينة (البيجل) لثلاث سنين يسير في الأرض؛ فينظر كيف بدأت عملية الخلق، يستنطق طبقات الأرض، كان في الواقع يمارس تطبيقاً عملياً للآية المفتاحية (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق؟).
وحتى الآن لا تناقش نظريته عندنا بدون تشنج، وربما كان الشيخ (نديم الجسر) الوحيد الذي تناولها بهدوء في كتابه (قصة الإيمان)، ولا علاقة لنظرية دارون بكفر وإيمان؛ فهي لا تزيد عن رؤية جديدة للخلق المبرمج... يزيد في الخلق ما يشاء.
وكتاب دارون عن (أصل الأنواع) ثم كتابه اللاحق عام 1877 م عن (أصل الانسان) كان تثويراً كاملاً لإعادة النظر في فكرة الخلق المتدرج بموجب رحلة تطورية، ختمت حتى اليوم بظهور الانسان كسيدٍ للكائنات بدماغ يعتبر أفضل ما أنجبته الطبيعة...
(هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه).
كانت النظرية تتعارض مع ما تبنته الكنيسة عن نشوء الانسان، كما كانت نظرية (كوبرنيكوس) في الفلك سابقاً ضربة مزلزلة لعقيدة الكنيسة في حركة الأجرام السماوية؛ فلاشيء أخطر على الدين من التورط في آراء علمية، خاضعة للحذف والإضافة.
وفي كلام (عابد الجابري) في كتابه (التراث الفلسفي) قدراً من الحقيقة عندما رأى في حركة (ابن رشد) أكثر من توفيق بين الدين والفلسفة؛ فكل منهما يسري في مجراه الخاص ذو طبيعة خاصة به، ويقصدان في النهاية الحقيقة المطلقة، وشعار (أسلمة العلوم) كما تطرحه بعض المعاهد يلقي ظلاً إيديولوجيا على العلم؛ فليس هناك علم بوذي وآخر بروتستانتي، ويجب أن يؤدي الفكر الإسلامي دوره من خلال (فلسفة العلم).
أربعة اختراقات معرفية هزت الفكر الانساني ومازالت في(الفلك) و(الجغرافيا) و(التشريح) و (الخلق):
نظرية كوبرنيكوس ومن بعده جاليلو عن النظام الشمسي، واختراق ماجلان بحر الظلمات ليقلب خرائط الجغرافيا ومحاور الأرض، ومبضع (فيزاليوس) لإرساء علم التشريح، وأخيراً دارون في نظرية النشوء والترقي (EVOLUTION)
واعتبر المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) عام م453 م سنة العجائب، ففيه تمت الاختراقات الثلاث الأولى ؛ فلم يعد الجسم البشري (تابو)، ولم تعد أعمدة هرقل نهاية العالم، وانهار النظام الكوني، لتصبح الأرض كوكب بسيط في مجرة عامرة، ويصبح الانسان أكثر تواضعاً في تقدير نفسه؛ فلم يعد قيمة مركزية؛ وعندما سطعت نظرية دارون اكتمل كسوف شمس الكنيسة، فهي تحاول بزوغا كاذبا الآن..
كانت محاضرات (فيزاليوس) في ايطاليا في التشريح عن الأعضاء التناسلية مثيرة للرهبان؛ فكانوا يحضرون متسللين نصف مختبئين يسترقون السمع، وعندما هرب فيزاليوس الى اسبانيا واجهته مشكلة جراحية عندما سقط ابن الملك فيليب الثاني فاقترح ثقب رأسه لاستخراج الدم المتجمع؟
كان الأطباء ورجال الدين يومها، يعزون الأمراض الى تعكر مزاج المريخ أو اضطراب البروج أو كثرة الذنوب، ويعالجون السعال الديكي بلبن الحمير والطاعون بجلد الذات؛ فطلبوا من الملك قتله، وكان فيزاليوس يرى أن (الواقع) هو الذي يبوح بالسر، وأن الرجوع الى الظاهرة المرضية كفيل بإماطة اللثام عن معضلة حلها، ولا علاقة للذنب في حدوثها، وبذا قلب مفهوم الذنوب لتصبح مخالفة سنن الله في خلقه في إطار أكبر من المخالفات الجنسية.
وفي عام 1865 م تقدم راهب دومينيكاني هو (جريجوري ماندل) ببحث مكون من 55 صفحة عن خلاصة تجاربه على نباتات البازلاء توصل إليها بجهود سنوات مضنية من العمل الكثيف المتابع، يزعم فيها اهتداءه الى ثلاثة قوانين أساسية في توريث الصفات، تصلح قاعدة لفهم انتقال الصفات عند الانسان.
وأرسل بحثه الى 133 معهداً عالمياً كان جوابهم عليه الإهمال؛ فالعلم لم يكن قد نضج الكفاية لينتبه الى أهمية القوانين التي اهتدى إليها مما جعله يكتب في مذكراته مغتاظاً مستعجلاً: 'أيامي لم تأت بعد، وسيأتي الوقت الذي يعترف العالم بي؟! '.
وإذا كانت أعمال (جريجوري ماندل) قد أخذت 35 سنة حتى أعيد أحياءها فإن مقدمة (ابن خلدون) في علم الاجتماع نامت لفترة خمسة قرون، بأطول من نومة أهل الكهف التي دامت ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا؟
ليعيد اكتشافها عالم بريطاني هو (توينبي TOYNBEE) فيصف عمله أي عمل ابن خلدون بأنه (أعظم عمل من نوعه أنتجه أي عقل في أي زمان أو مكان).
أما رسالة (لابواسييه) في علم الاجتماع عن آلية الطغيان والاستعباد في المجتمعات في كتابه (العبودية المختارة) في تحليل آلية الاستبداد وترياق هزيمته بـ (سحب الطاعة) من الطاغية، والامتناع عن التعاون معه وليس التآمر عليه وقتله؛ فقد كتبها عام 1562 م لتنشر بعد موته بـ 273 سنة ويعاد أحياءها في التراث العربي مترجمة بعد أربعة قرون ونصف، مذكراً بظاهرة السوبرنوفا الاجتماعية، مما يعلمنا أن بذور الديموقراطية كانت ثمرات مباركة من كتابات اتيين لابواسييه وايرازموس وفولتير وأمثالهم، ورصيد الديموقراطية هو الوعي قبل أن يكون صناديق الاقتراعات، أما ماكس بلانك الذي توصل الى الثابت الكوني في ميكانيكا الكم فلم يعترف به إلا بعد موت جيل العلماء المعاصرين له.
جريجوري مندل اكتشف قوانين الوراثة متزامناً مع اكتشافات (دارون) ولم يتفطن كل منهما الى أهمية اكتشاف الآخر، واكتمل العمل بتجارب (باربارا مك كلينتوك BARBARA McCLINTock) باختراق مثير في فهم الجينات بطرح مفهوم (الطفرة MUTATION (أنها مسئولة عن نقل الصفات، موزعة بشكل عشوائي على أعمدة الكروموسومات، في ما لايقل عن خمسين إلى 140 ألف موضع، تشكل خارطة الخلق الكاملة؛ ليست كـ (حبات لؤلؤ في جيد حسناء) بل تغير أماكنها وطبيعتها، فأضافت بذلك فصلاً جديداً في تعانق فكرة (مندل) في الصفات الوراثية و(التطور) عند دارون، وتبقى (الطفرة) هي التي تنقل إمكانية التغير والتكيف الأفضل لجيل بعد جيل.
وهذه الفكرة تشرح ظهور أكثر من 11 نوعا إنسانيا انقرض، وكان آخرهم إنسان نياندرتال، قبل أن يظهر نوعنا العاقل، الهومو سابينز، فالطبيعة كانت تقوم بإجراء تجارب على إنتاج نسل إنساني يترقى مع الوقت، وحين نقول الطبيعة أصد تلك القوانين الأزلية التي غرسها الله في الوجود ومنها الصيرورة والتغير..
بين كشف قوانين الوراثة على يد مندل عام 1865 م والانطلاق بمشروع (الهوجو) عام 1989 م في لوس آلاموس لفك الشفرة الوراثية رحلة مثيرة لتطور الأفكار وتراكمها وتفاعلها باتجاه (العالم الأصغر) في بعثة الى نهاية التشريح؛ لدخول مكتبة في نواة كل خلية تضم عشرة آلاف كتاب، كل كتاب بـ 300 صفحة، في كل صفحة ألف رمز بطلاسم من لغة سرية من ثلاث مليارات حرف.
وحاليا يقفز العلم في اتجاهين الأول: وضع خريطة جينية للكائنات، أما العالم ادوارد أوسبورن ويلسون من جامعة هارفارد فهو طريقه لإنتاج انسكلوبيديا إلكترونية لكل الكائنات، مثل النمل الذي يعتبره حقله المفضل فالرجل قضى عمره في دراسة النمل ووصل إلى 14 ألف نوعا منهم 428 اكتشفها هو بالذات..
مشكلة الكنيسة والتيولوجيا والدوغمائية أنها فرامل لإعاقة العلم، ولن تتحرر علاقة الدين ـ العلم، حتى يتحول الدين إلى علم، عندها يصبح عالميا مثل حبة الأسبرين وأشعة رونتجن وعصيات السل والكود الوراثي والكوارك في الذرة والفيمتو ثانية..