أرسل لي طبيب عربي يختص بأحدث الأبحاث في مجال السرطان وأمراض الدم من أمريكا، إعجابه اللامحدود بواعظ جديد، لا يعتمر عمة، أو يلبس قفطانا ويحمل الكشكول والمسبحة، بل تتدلى من عنقه كرافتة أمريكية وبدون لحية، فتعجبت بين طب القرن الواحد والعشرين، ووعظ فقهاء عصر المماليك البرجية.
قال الطبيب انظر إلى كثرة المتأثرين وعظم التابعين؛ فعرفت أنه وقع في خطأ منهجي، نهانا الله عنه؛ بأن الكثرة والقلة ليست هي ميزان الصدق والصواب..
ولا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث.
وحينما هزم جالوت على يد طالوت وداود، كان من بقي هم واحد بالمائة من الجنود بعد ثلاث تصفيات، كما داء في قصتهم بالتفصيل في سورة البقرة.
وأنا أعرف مقدار الصدمة التي يعاني منها كل من يسمع رأيي في موجة الوعاظ الجدد، فهم يتشدقون بكلمات من العلم الحديث، وهم بعيدون عنه مسافة ثلاث سنوات ضوئية.
وفي اليمن كاد أن يضربني أحدهم حينما سمع رأيي في واعظه، لولا أنه كان على التلفون، فحال بني وبين (الكف) سلك بعيد؟
والحديث عن الفتوحات والغزوات لذيذ، ولكن من يُغزا اليوم في عقر دارهم هم المسلمون. ونموذج أفغانستان والعراق شاهد مؤلم؟
ولو كانت الكثرة هي العبرة، لما سمعنا الحديث الذي يقول: يأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، ويأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد؟!
وثقافتنا ثقافة مشافهة لا تعتمد الحرف والسطر والكتاب، مع أن أول كلمة كانت اقرأ وليس اسمع.
ومع أن القرآن أقسم بالقلم وما يسطرون، والطور وكتاب مسطور في رق منشور؛ ولكن لم نفقه مغزى هذه الكلمات بعد؟
وكتب الفلسفة تبني، ولكنها تصدع الرأس.
وعندما زرت الفيلسوف السعودي إبراهيم البليهي في بيته، فاجأتني كتب الفلسفة، وكتبه عديدة الألوان مختلفة الأحجام واستفدت من مكتبته الكثير، فعرفت أن الرجل يعيش العصر.
ومن امتلأ بيته بالكتب ذات الأعقاب الذهبية، فهو يعيش أيام الممالك البرجية، زمن الوالي سعيد جقمق.
وفي بلد عربي ثوري اشتهر واعظ زلق اللسان، خدم الطغيان كل حياته، أكثر من مائة فرقة حزبية، وأتباعه أكثر من رمل عالج، وشبابنا مخدرون إما بالحشيش وحشيش الكاسيت. مثل معظم الفقهاء، وفي بعض المناطق مخدرون على مدار الساعة.
وفي الحديث أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان.
وفي مسجد الشعلان في دمشق، وحتى لا أقيم درسي، قاومني وعاظ السلاطين؛ فلما أعيا فقيه المسجد طردنا، مع احتشاد الشباب، جاء برجل مخابرات، معتمر بلباس الفقهاء فانتصب فوق رأسي وانقض علي مثل باشق، وكادت أن تنفجر معركة بالأيدي والأكواع، وأخيرا طردنا مذؤومين مدحورين من صحن المسجد، وفاز رجال المخابرات والفقهاء، يدا بيد في رقصة شيطانية..
والشباب يتنقلون من واعظ إلى واعظ إلى عمل تفجيري؟!
ويتساءل الناس لماذا تحدث الأعمال الإرهابية؟ وهي تغذى على مدار الساعة بثقافة مزورة؟!
والدجال سوف يؤمن به غالب الناس، وفي شتاء 2008م هتف الشيعة في جنوب العراق بأن المهدي أخيرا خرج من السرداب حيا بعد ألف عام وهو يهتف بقيام الدولة الإسلامية العادلة، فاستعد الناس وخرطشوا السلاح؟
وفي الحديث أنه سوف يقوم بالمعجزات، بما فيها شق إنسان نصفين، ثم أحياء الأموات أكثر من معجزات عيسى بن مريم، ولكنه يبقى الدجال الأعور الكذاب.
والمشعوذون الجدد درجات، فمنهم من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب، ومنهم امرأة تدعي أن الباذنجان فيه كمية من النيكوتين أكثر من سيجار كوبا، وابتلانا الله بها في عقر دارنا، فعندي ثلاث من النساء ممن أعرف تابعنها فأصبن بفقر الدم، ونكبت صحتهن فهن عليلات، ولكن الهوس علاجه الدخول إلى مصح أمراض نفسية، لمريض لا يظن نفسه إلا سليما معافى.
وفي الإسعاف جاءني طفل مع والده قلت له ما الخبر؟ قال هذان أخوان تخاصما فطعن الكبير الصغير في قدمه، وكانت أم دم نابضة تحتاج لعملية جراحية إسعافية، ولما سألت الطفل عن اسمه وعمره عرفت أنه عيي قاصر عقليا، فلما اشتم الوالد رائحة ذلك مني قال عني أنني أنا القاصر عقليا، وأنني أتهم ابنه بما ليس فيه؟ وأنا عذرته وليس على المريض وأهله حرج، وهم يظنون أنه كشف عورات، ونحن الأطباء نريد معرفة الحقيقة عن مريضنا عضويا وعقليا، فكما يعتل البدن تسقم الروح ويقصر العقل، ولكن الناس يعترفون بأمراض البدن، ولا يصرحون عن القصور العقلي ويعتبرونها مذمة.
وأنا ليس أمامي سوى أن أضحك كما يقول أرسطو، فالدنيا لمن يفكر كوميديا، وهي تراجيديا لمن يشعر.
وهناك من الوعاظ الجدد من يزعم أن القمر انشق جيولوجيا ليثبت ما جاء في سورة القمر، وهو تفسير لم يتفق عليه العلماء، ولكن صاحبنا يقسم بالذي فطر السموات العلى، أن العلم الحديث ووكالة ناسا كشفت ذلك، من أين لا أعلم؟؟ ويزعم أن هناك من الأدلة الجيولوجية ما جعلت عالم أوكراني يعلن إسلامه؟؟ وهذا قد يرضي رغباتنا، ولكن من يغير دينه اليوم كثيرون، والدلاي لاما يكسب الأتباع بدون توقف، وإذا جاء إلى نيويورك استقبله عشرات الآلاف من الناس، وهو ليس دليلا على صحة الأفكار بل فعالية الأفكار.
ويذكرني الوعاظ الجدد بالواعظ الشعبي كشك رحمه الله تعالى الذي سمعته في القاهرة يتكلم أن فاطمة لم تحض قط، والجمهور يهتف الله أكبر، وهذا ليس دليلا على شيء، وفي الطب يعرفون أن النساء اللواتي لم يحضن عنهن مشكلة فيزيولوجية أو تشريحية،وهذا ليس رفعة ولا إنقاصا من مكانة فاطمة رضي الله عنها، هذا إن صح الخبر؟ كما أنني أتذكر من القامشلي حين جاءنا واعظ مصري أيام الوحدة المشئومة، فذهلنا من نعومة كلامه، وزلاقة لسانه، وكثرة مرادفاته، وهي خصلة معروفة فيهم، ولا يستبعد أن يكون من مخابرات العجل الناصري، فإن تكلم أحدهم لدقائق، لا يكون قد بدأ بعد كلامه من شدة رغو الكلام، وكان هذا الواعظ الشعبي بعمة أزهرية وليس كرافتة عصرية، إذا مر بآية من القرآن، بدأ يغني مثل مطرب على مسرح يوناني، فكان الناس يتمايلون، ولما رآني لا أترنح من وقع الكلام نهرني بيده، فتأدبت ولم يكن أمامي إلا التمايل مع المحششين خوف عكازته الذهبية؟ وعندما كنت طالبا في الثانوية سمعت قيادي إسلامي في خطبة له، فشعرت كأنني أطير في السماء، حتى منّ الله علينا بالعقل، فعرفنا أننا كنا مسحورين مخدرين. والعالم الإسلامي اليوم مثل المارد المخدر، بالطبل والصنج، والحشيش وكاسيت الوعاظ وجنود المخابرات، عن اليمين والشمال عزين، حريصون على هذا الشخير العام. وهذا التعانق لذيذ ومخدر لمواطن أعمى، يسمع الواعظ الشعبي الجديد يتحدث عن فواكه الجنة وانتصارات الصحابة، ولكن كل المشكلة أن المواطن يعيش في جهنم أرضية، ويصب على رأسه الذل مع شروق كل شمس؟!وحينما يخدره الواعظ فإنه يسحب به إلى العناية المشددة التاريخ في حالة موت دماغية إلى أجل غير مسمى. قلت للطبيب الذي راسلني من أمريكا: أعرف أنك تمارس طب القرن الواحد والعشرين، ولكن تمنيت عليك أن تكون لك زاوية تشرف بها على آخر إصدارات الفكر للقرن، أبعد مسافة من وعظ هذا المسكين الذي يمثل حالة العالم الإسلامي البئيسة، وأنا سأقطع مسافة عشرين ألف ميل إلى منتصف أمريكا في أوماها ليس لسمع واعظ مثل جيمس سواكرت، فالدجاجلة كثر، في مصر أو لبنان أو أمريكا، ولكن إنني قادم كيف أتعلم منهم علما فأنقذ به مريضا من احتشاء قلب وساقا من بتر.