الثورة السلمية في ميانمار
نصف مليون جندي مسلح بالغدارة والطبنجة على طريقة القراصنة، يقابلهم نصف مليون راهب أعزل، متلفع بثوب أصفر يستر عورته، وصلعته تلمع مثل صلعة سقراط تحت ضوء الشمس والحقيقة.. أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
وبالنظر إلى الخريطة لتفقد موقع ميانمار أو بورما من الشرق الأقصى، نجد أنها لا تبعد كثيرا عن أرض طالبان حيث الجهاد الأمريكي وضد الأميركان، لا يفهم إلا لغة واحدة يَقتلون ويُقتلون..
وكل المشكلة ليست في الجغرافيا بل العقلية، وفي الرأس توجد أعصاب للكلام وأعصاب للسعال والقضم والمضغ فهذا هو الفرق..
هذا هو الوضع الحالي من المواجهة المدنية ضد العسكر في بورما أرض ميانمار..
مثل عصفور مصوب إلى رأسه مسدس؟
العسكر يملكون السلاح والذخيرة للقتل، والرهبان يملكون أذرعا عارية وصدورا جاهزة لاستقبال الموت..
بدون أن يمدوا أيديهم بالقتل، فأحيوا مفهوم القرآن الذي قتله الفقهاء والمفسرون في ثقافة ميتة، في قصة ابن آدم المذكورة في سورة المائدة، الذي قال لمن مد يده بالقتل وقال: لأقتلنك:
لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إلي لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين.. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين.. فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله..
فمن أين تأتي هذه القوة في المواجهة؟؟ وما هي مصادرها؟؟
إنها قوة الروح في وجه المادة وهي روح الله في الإنسان..
لقد تحدثت المناضلة السلامية (أوانج ساسو كايا) في سؤال لها من الإعلام الغربي من أين لك كل هذه الطاقة في مقاومة العسكر؟
أجابت أنها تستمد هذه الطاقة من مصدر الطاقة الذي لا ينضب.. من الله الخلاق الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا تعب ولانصب، وليس لطاقته من نفاد..
وما عندكم ينفد وما عند الله باق..
وهذه السيدة اتتبع أخبارها منذ زمن، فهي من المؤمنات اللواتي تحدث الله عنهن، إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق..
لقد حيل بينها وبين رؤية زوجها وهو يحتضر بالسرطان، كما حرمت من أولادها، ووضعت تحت الإقامة الجبرية منذ أربع سنوات، ومع المواجهات الجديدة في خريف 2007م تم اقتيادها إلى مراكز مخابرات العسكر وسجونها التي تتعفن فيها العظام..
ولكن لا ضير فهي تكرر قصة السحرة مع فرعون..
إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا، فاقض ما أنت قاض إنما تقض هذه الحياة الدنيا..
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى.. وهو أسلوب دشنه الأنبياء، وعلى طريقهم (غاندي) و(عبد الغفور خان) منذ أمد بعيد في اقتلاع شجرة الديكتاتورية..
وفي الوقت الذي دلفت الهند إلى الديموقراطية إشعاعا من روح غاندي فهي تتربع مكانها تحت الشمس، وتتحول ببطء إلى دولة ذات قرار ومعين، فإن تراث (جناح) مازال تحت (جناح) العسكر، ويتربع مشرف بدون شرف، سدة العرش بدون خجل، ويردد هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي؟؟
وبكل أسف فإن الضمير العربي مصاب بلوثة العنف، قد توطنت فيه كما هي في مستنقعات الملاريا وطاعون الجرذان، فليس من سبيل بينه وبين هذا النور في التغيير، فاحتكم الحاكم والمحكوم إلى السيف، فهو أصدق أنباء من الكتب، في حده الحد بين الجد واللعب، كما قال جدنا الشاعر منذ أيام الحمدانيين..
وفي العالم حاليا تنشأ مؤسسات لتشجيع الديموقراطية، وينتظم جنود اللاعنف من جورجيا وصربيا والجبل الأسود إلى الجبل الأحمر في الصين، من أجل اقتلاع أشجار الديكتاتورية من كوريا إلى سوريا.. وإن شجرتها تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين..
في الواقع إن هذا الأسلوب غريب علينا، وفي يوم كنت في مؤتمر في عمان؛ فقام رجل من الاتجاه الإسلامي، فقال عني احذروا هذا الشيطان فنبيه غاندي من الهند، وقرآنه آيات منسوخات بآية السيف..
ومن العجيب الغريب أن (ست آيات) موجودة في تراثنا، من سورة المائدة، ومن أواخر ما نزل، ليست في حديث ضعيف يعرج معنعن مرسل، بل آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، تقول أن هناك أسلوب جديد للمقاومة وفض النزاعات، في قصة ولدي آدم، وهو ما يفعله الرهبان البوذيون في (ميانمار) في خريف 2007م وهم يستقبلون الرصاص في صدورهم، ولا يعتبرون أنفسهم أنهم يذبحون مثل الخرفان؟؟
فالموت في النهاية واحد وحق على الخرفان وبني آدم..
وهو نفس الأسلوب الذي استعمله الخميني في الثورة الإيرانية فنجح، ولم يتفطن لهذا أحد، لا الخميني، ولا الإخوان المسلمون، ولا حزب التحرير، ولا حزب الله، ولا شيخ الجامع الأزهر، ولا يزيدو جبل سنجار، وشيعة كربلاء، وانتحاريو فلسطين، ولا علماء القيروان والبطحاء والجبل الأخضر.. فمرض الثقافة شديد السمية، عميق الجذور في كل الأعصاب الإسلامية، شيعية وسنية، وسلفية وجهمية، وطالبانية وخوارج، وقدرية ومجاهدة، ومعتزلة ومرجئة...
ولذا تورط الخميني في الحرب فخسر خسرانا مبينا، حتى جاءت أمريكا مبتهجة بالفتح العظيم، فتخلصت من الخميني بالحرب والضرب، ومن صدام بالشنق والخنق..
وكل وعاظ وخطباء مساجد العالم الإسلامي يصعدون المنبر بالسيف الخشبي، تقليدا لبني عثمان ومروان أكثر من المصطفى العدنان، يمرون على هذه الآيات وهم عنها معرضون، فتموت في الثقافة وتبقى في الحرف، وهو دليل على موت الثقافات مع وجود الحروف والأرقام..
(واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق.. إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك.. قال إنما يتقبل الله من المتقين..)
وفي آيتين متتابعتين يذكر القرآن قصة القاتل أنه تحول من (الخاسرين) إلى (النادمين)؛ فلم يعد القاتل بطلا بل مهزوما أسفا، ولم يبق القاتل على موقفه، بل بكى وتاب وندم وأناب.
وهذا يشرح (سيكولوجية الدفاع والهجوم)، وهو يعني أن النزاع إذا انطلق من نفس القاعدة النفسية، تحول القاتلان أحدهما إلى بطل، والثاني إلى مقتول، حسب سرعة الطلقة والسطرة؟
والقاتل والمقتول في النار في معركة الأردين أو تحت شعارات لينين..
أما إذا كف أحد الطرفين عن القتل، وتقبل الموت بدون أن يدافع عن نفسه، كما فعل سقراط والأنبياء في التاريخ، حتى وصل يسوع إلى حافة المصلبة فرفعه الله إليه وقال إني متوفيك، وهو يقول إلهي اغفر لهم فهم لا يعرفون ما يفعلون؟
فإن القاتل لا يبقى بطلا، بل يتحول إلى مجرم، لا يجد الراحة إلا في التوبة، وهو إعلان الندم، والدخول في مذهب المقتول، كما قالت الآية (فأصبح من النادمين)..
ولكن بين المسلمين وهذا الفهم مسافة ثلاث سنوات ضوئية..
وفي ذلك اللقاء في عمان، التفت إلي كل من (القبيسي) و(العوا) وهما من رموز الفكر الإسلامي؛ فقالا إنه تفسير لم يقل به أحد من المفسرين؟
قلت لهما وهو ما قاله فرعون لموسى فما بال القرون الأولى؟؟
أي أن كل من سبقك لم يكن يدرك ما أدركته أنت؟؟
فكان الدليل على الأفكار الأشخاص، وهي هزيمة نكراء للفكر..
وفي مؤتمر النخبة في أبو ظبي عام 2006م، قال لي أستاذ معتبر في كرسي الفلسفة في القاهرة، يدرس الطلبة منذ نصف قرن، وترجم عن سبينوزا بحثه في اللاهوت والسياسة، وعن هيجل مقولاته، وعن (شوبنهاور) تشاؤمياته، أن ما ينفع في هذا الأسلوب في مكان لا ينفع في مكان آخر؟!
وهو يذكرني في مجال الطب، أن حبة الأسبرين تنفع في صداع الهندي ولا تفيد رأس الصيني بشيء؟
وهو أسلوب يجعلنا نطلق الطب، ونقفل أبواب التشريح ومعاهد الفسيولوجيا وعلم النسج، فلينتظر الأطباء المصير..
وليخلعوا المعاطف البيضاء.. ويستبدلونها بقمصان موسوليني السوداء..
ولتعلمن نبأه بعد حين..
التعليقات