الاكتفاء بالكلمة بديلاً عن الفعل هو أحد ملامح العقلية الشفاهية السائدة في عموم الشرق، وفي القلب منه مصر المحروسة، فجمال عبد الناصر مثلاً صار زعيماً وملكاً متوجاً على قلوب الملايين من المصريين ومن المسمين عرباً، ومازال بعد ما يقرب من أربعة عقود من رحيله، يلهب اسمه وذكراه الحماسة المفعمة بالحب والتبجيل، كل هذا بفضل إنجازات الرجل في عالم الكلام، فقد أطلق عبر حنجرته العظيمة وأبواقه الإعلامية المناضلة شعارات سيادة الشعب والحرية والكرامة للأمة، ومناهضة الاستعمار وأعوان الاستعمار وإلقاء إسرائيل في البحر، كل هذه الإنجازات العظيمة على مستوى الشعارات لم يقلل منها أن ما حققه الرجل على أرض الواقع معاكس تماماً لكل ما تشدق به، ورغم أن الجماهير عايشت الواقع المزري والأليم الذي جلبه لها بطلها، إلا أن تأثير الواقع على عقليتها لم يكن ذا وزن، مقارنة بتأثير الشعارات والكلمات، التي كانت تعيش بها وعليها، هروباً من بؤس والواقع وترديه، فهكذا المجتمعات ذات الثقافة والعقلية الشفاهية، تعطي للكلمة المنطوقة قوة متصورة، وتجسدها لتكون جزءاً من الواقع، أو بالأصح بديلاً له، وقد تكلف أو لا تكلف نفسها عناء تأويل الواقع المادي، ليتطابق مع الواقع المتوهم، الذي اختارت أن تعيش داخل كهوفه.
هكذا أدرجت حكومتنا الرشيدة في سعيها لتحديث مصر ndash; إرضاء للغرب المتربص- مفهوم المواطنة في المادة الأولى من الدستور، لتنص على أن ' جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم علي أساس المواطنة'، ومن الواضح أنها تصورت أنها قد أدت كل ما عليها، بدليل ما يبدو وكأنه قد أصابها الصمم والعمى والخرس، بعد أن أنجزت مهمتها النصية المقدسة، إذ سرعان ما توالت الأحداث على البلاد فور إقرار ذلك التعديل الدستوري، فقد قامت الغوغاء بحرق منازل الأقباط في إحدى قرى صعيد مصر، إثر شحن وتحريض أثناء صلاة الجمعة، من قبل خطيب مسجد يتبع وزارة الأوقاف المصرية، فكان رد فعل الدولة إزاء الجريمة يشكل جريمة في حد ذاته، لكنها هذه المرة جريمة دولة، وليست جريمة بسطاء وغوغاء، فلم يتم محاكمة مقترفي الحرق والتدمير والنهب، كما لم يتم محاكمة الواعظ الموظف بوزارة الأوقاف، والذي أشعل النيران فيما يؤدي وظيفته، التي يتقاضى عليها ورؤسائه راتباً شهرياً من أموال دافعي الضرائب، والأسوأ كان تراجع الدولة عن وظيفتها في فرض سيادة القانون وحماية أرواح مواطنيها وممتلكاتهم، لتنكمش خلف ورقة توت لا تستر عورة، فيعقد جهاز الأمن مجلس عرفي للصلح، تفرض فيه الأغلبية الباغية شروطها على الضحية، التي تضطر للتنازل حتى عن البلاغات المقدمة للنيابة ضد الجناة، ليصير الطريق مفتوحاً وممهداً لتكرار التخريب والتدمير ضد الأقباط، الذين حصلوا للتو على حق المواطنة، وفقاً للتعديلات المجيدة للدستور.
هكذا تتقدم مصر وتقدم نفسها إلى عالم الألفية الثالثة، تضرب المواطنة في مقتل بتقصيرها وتنازلها عن سلطة وسيادة القانون على أرض الواقع، وفي ذات الوقت تركز تصريحات المسئولين ووسائل الإعلام المدعاة قومية على المواطنة الدستورية، وعلى الشعب الواحد والنسيج الوطني الواحد، في محاولة لجر الجماهير والعالم، لعيشوا معها في عالم الكلمات والشعارات، وليغضوا النظر عن تأمل الواقع وما يرتكب فيه من جرائم، في تكرار طريف لانتصارات عبد الناصر على الاستعمار وأعوان الاستعمار، والتي كان لمذيع صوت العرب أحمد سعيد الفضل الأكبر في تحقيقها، أما من يتجرأ على الخروج على السياق، ويحاول الحديث عن المجتمع الذي يتحلل ويتفكك، وعن الفوضى التي تضرب أطنابها في كل مناحي الحياة المصرية، فهو من العملاء المشككين والمدفوع لهم لخدمة قوى الإمبريالية الصهيوأمريكية، وقد يكون من أقباط المهجر الموتورين، الذين يؤلبون العالم الغربي على بلادهم وأمتهم السعيدة الهانئة، بما ترفل فيه من سلام ومحبة وعدالة وسيادة قانون.
لكي ننتقل من عالم الكلمات إلى الواقع، وبالتحديد من المواطنة كمجرد كلمة في الدستور، إلى فلسفة حياة ونظام وثقافة، فإنه يلزمنا تحويل ما يتضمنه مفهوم مواطنة، إلى مجموعة إجراءات وتشريعات تعيد تنظيم الحياة المصرية، وتعيد تأهيل المواطنين ثقافياً وسيكولوجياً، ليكونوا قادرين على تفعيل النظم والقوانين الجديدة، فلا القوانين وحدها كفيلة بالتحديث في ظل ثقافة عتيقة وفاشية، ولا الثقافة وحدها بقادرة على تأسيس حياة أرقى، دون أن يتواكب معها تحديث للنظم والقوانين واللوائح، التي يرجع بعضها لعهد الحكم العثماني أو ما هو أبعد في غياهب التاريخ.
نحتاج إذن إلى غربلة كل ما يحكمنا من قوانين ولوائح، لتفعل التعديلات الأخيرة في الدستور وتتوافق معها، وفي مقدمتها مفهوم المواطنة، والذي يعني أن الدولة هي وكيل المالكين لهذا الوطن أي المواطنين، وأن وظيفتها الوحيدة هي تمكين جميع الملاك من التمتع على قدم المساواة بالوطن الذي يمتلكونه جميعاً، ومهمة مراجعة القوانين والنظم هذه لا يقوى ولا يصح أن يقوم بها فرد أو بضعة أفراد، بل ينبغي إسنادها إلى مؤسسة قومية تضم الكفاءات المناسبة من جميع التخصصات ذات العلاقة، سياسيين وقانونيين وعلماء اجتماع، على أن تستبعد المجموعة في عملها أي اعتبارات عدا تمكين المواطن الفرد من الاستمتاع والاستفادة من حق ملكيته للوطن كاملاً، بغض النظر عن أي انتماءات عرقية أو دينية أو ما شابه.
لو أردنا في هذه العجالة أن نمس بعض جوانب هذا الموضوع المترامي الأطراف، فسنجد مثلاً أن دولة المواطنة تتأسس على أن تقتصر أنشطتها وإنفاقها لميزانيتها على كل ما هو عام، ويخص الإنسان المصري بصفته مصري، وليس بأي صفة أخرى كالدين مثلاً، فمؤسسة الأزهر ينبغي تعديل وضعها القانوني والإداري والمالي، لتكون مؤسسة أهلية يمتلكها ويديرها المسلمون، متحررين ومستقلين عن سلطة الدولة، فلا يربطها بالدولة إلا قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية، ومن الواضح أن الأزهر الشريف كالكنيسة القبطية، في غير حاجة إلى أموال الدولة، التي هي ملك لجميع المصريين باختلاف أديانهم، لكن الأساس أن مهمة الدولة التي تتأسس على المواطنة تنحصر فيما هو عام لجميع المصريين، وتمتنع عن التدخل فيما هو خاص مثل الدين، وليس لها أو عليها إلا مهمة حفظ النظام، وتمكين الجميع من ممارسة حرياتهم ونوال حقوقهم.
ليست مسألة امتلاك الجميع للوطن كمثال اقتسام كعكة بين عدد من الأفراد، تأخذ كل مجموعة منها على قدر عدد أفرادها، فالوطن لا يقسم لأنه ملك مشاع، يمتلكه كاملاً كل فرد فيه، بما يحوي من وديان وصحارى وجبال وأنهار، وبالتالي ليس من حق فرد مهما بلغت قوته، أو طائفة مهما كان عددها أو نسبتها الغالبة، أن تحتكره أو تدعيه لنفسها، مما يحد من ملكية ولو مواطن واحد فرد، والدولة هي الحارس والضامن لحقوق الملكية الكاملة للوطن هذه لكل أفراده، وفقاً للمادة (40) من الدستور، والتي تنص على: 'المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة.'، وبالتالي يمتنع عليها أن تتدخل فيما هم ليسوا فيه سواء من مختلف جوانب الحياة الإنسانية، فالخصوصيات مجالها المؤسسات الخاصة الأهلية، كالنقابات العمالية والمهنية والاتحادات، وسائر المؤسسات الأهلية التي ينشئها المواطنون لرعاية مصالحهم.
نفس هذا يقال على الجرائد القومية والراديو والتليفزيون، وسائر المؤسسات الرسمية ذات النشاط الثقافي أو الاجتماعي، إذ يقتضي مفهوم المواطنة أن تتجنب تلك المؤسسات ممارسة أي نشاط يتعلق بخصوصيات الأفراد أو المجموعات، سواء كانت دينية أو عرقية، ولا يقبل هنا أيضاً اقتسام الكعكة بين مجموعتين أو أكثر، فكعكة الوطن كما قلنا غير قابلة للتقسيم، وهناك الآن الجرائد الخاصة والقنوات الفضائية الخاصة والمتخصصة في الخطاب الديني مثلاً، أما تسلل الخطاب الديني أياً كان لونه إلى المؤسسات والأجهزة القومية، فهذا هدم لمقومات الدولة الحديثة ولمفهوم المواطنة.
ما استعرضناه عاليه مجرد مثال واحد من مئات أو آلاف الأمثلة مما يحتاج إلى تعديل في القوانين ونظم وعلاقات الحياة المصرية، وإذا كانت القوانين واللوائح التي تحكم المجتمع لابد وأن تؤدي إلى تغيير الثقافة باتجاهها، فإن تطور الثقافة ضروري أيضاً لتفعيل القوانين والنظم، وإلا تم تفريغها من مضمونها، وصارت كما يقولون مجرد حبر على ورق، أو شعارات يتم التزين بها في المناسبات، دون مضمون أو فاعلية حقيقية، وإلى أن يصدر قرار جمهوري بتشكيل لجنة قومية لدراسة كافة القوانين واللوائح والنظم المصرية، لتعديلها للتوافق مع مفهوم دولة المواطنة، وإلى أن تبدأ فعاليات هذه اللجنة تأخذ طريقها للتطبيق العملي تدريجياً، ولكن بثبات وإصرار، إلى أن يتحقق هذا سيظل الحديث عن المواطنة والدولة الوطنية مجرد لغو فارغ، لا مردود له إلا التضليل والتخدير.
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية