منذ أن كان في الصحراء حتى الآن، لم يعرف العربي أبدا الديمقراطية، والاختيار الحر، وثقافة التنوع والتعدد. فالرأي أوحد، والتطلع أوحد، والإيمان أوحد، والعلم أوحد، والفهم أوحد. والبيعة أبدية، والزعامة بالوراثة، ومشيخة القبيلة بالوراثة، ومشيخة الدين بالوراثة، والخلافة بالوراثة، وحتى الأولياء والصالحون هم بالوراثة أيضا. ولهذا فهي ثقافة دخيلة على نمط تفكيرنا وأسلوب حياتنا، ومخالفة كل المخالفة لتراثنا الفكري والفقهي والتاريخي، وللعادات والتقاليد البدوية القبلية الراسخة في النفوس، التي اعتدنا عليها، وألهبتنا بسياطها، والتي تقضي أن يتولى شيخ القبيلة تصريف شؤون حياة القبيل. والتي استمرت على هذا المنوال حتى بعد تشكل الدولة العربية الإسلامية، إذ اتبع الخليفة الإسلامي الأسلوب ذاته، وسار على نهج شيخ القبيلة في تصريف شؤون الحكم والناس. وبعد انهيار الخلافة العباسية، وتمزق الدولة الموحدة إلى كيانات ودويلات صغيرة، صار الأمير يصرّف شؤون الإمارة، وشيخ الحارة يصرّف شؤون الحارة.
ولأن الديمقراطية التي تعني حكم الشعب، ثقافة دخيلة على ثقافتنا، وأسلوب حياة مغاير لأسلوب حياتنا، فهي مرفوضة بالمطلق من كثير من الناس، وخاصة من الجماعات السياسية الإسلاموية المتعصبة، لأنها كما يرون تخالف شرع الله الذي له الحاكمية من قبل ومن بعد، وهم يتخوفون من أن الشعب قد يرغب أو يقر أو يبيح أشياء وقوانين لا يقرها الله وتخالف شرعه. لكن هؤلاء في بعض الظروف والحالات- أي هؤلاء الإسلامويين المتعصبين الذين لا يرون في الديمقراطية سوى صندوق اقتراع- يطالبون بها، ولكن لمرة واحدة فقط، بعد أن توصلهم إلى السلطة (أنظر موقف حماس ورفضها الانتخابات التشريعية المبكرة). إضافة إلى ذلك فإن كثيرين من المثقفين العرب المنادين بالديمقراطية على الورق، إنما هم معادين للديمقراطية في تعاطيهم مع القوى السياسية والاجتماعية المخالفة لهم، وفي تعاملهم مع أسرهم وزملائهم وموظفيهم، ولعل هذا مرجعه التربية الدينية والاجتماعية والسياسية التي علمتهم رفض للآخر.
وقد يظن بعض الناس أن نظام الشورى من حيث هو عرف قبلي قديم سابق على الإسلام، يتطابق مع الديمقراطية، أو يشبهها، أو لعلهم يظنون أنه خير منها! لكن الحقيقة أن الاختلاف بين الديمقراطية والشورى اختلاف كبير جسيم. فالأولى التي تعني حكم الشعب من خلال مجالس منتخبة مباشرة منه، تفرض على الحاكم الالتزام برأي الأكثرية دون أن ينتقص هذا الرأي من حقوق الأقليات. بينما يعني نظام الشورى أن يستشير الحاكم من يراهم أهلا للثقة والرأي السديد، بغية استخلاص الرأي الذي يراه الحاكم أفضل الآراء، دون أن يكون هذا الحاكم ملزما لا في الاستشارة، ولا في الأخذ برأي من استشارهم. وكثيرا ما كان الخليفة أو الحاكم يعمل بخلاف ما نصحه أهل الحل والربط، دون أن يلام في ذلك، فذلك من حقه، وتلك هي قواعد الشورى، ومنها اشتق المثل العربي الذي يقول: (استشر الكبير والصغير، وارجع لرأيك).
إن طبيعة البدوي، ونمط حياة القبائل الرعوية التي تسيطر ثقافتها على ثقافة المجتمعات وأنظمة الحكم العربية، تقوم على عدم الارتباط بالمكان والسكان المستقرين، والحذر من الآخرين، والابتعاد عمن لا يمت لها بصلة قرابة أو نسب، خوفا من الغزو، أو خوفا من مزاحمتهم على مصدر الرزق وطعام الماشية (الماء والكلأ) ولذلك فهي ترغب دائما بالانفراد والعزلة والاستقلال عن الآخرين، وقد كان النسب سبب الخلاف والعداء بين عرب الشمال وعرب الجنوب، بين العدنانيين والقحطانيين.
إن الكيانات العربية التي وجدت في الماضي، والموجودة اليوم، لم تتكون على أسس من العدالة والمساواة بين جميع السكان، مما ولّد وخزّن شعورا بالقهر والظلم والغبن لدى المواطنين. هذه الكيانات وإن ظهرت موحدة شكلا، إلا أنها في حقيقة الأمر كيانات هشة مفككة، لم تتعايش مع بعضها طوعا وبالتراضي، بل بالجبر والإكراه، لأنها عبارة عن تجميع قسري لجماعات غير متجانسة، متعددة الأصول والقوميات والديانات والمذاهب والثقافات واللغات. ولا تربطها وحدة مصالح وتطلعات مشتركة، خضع فيها- بقوة السلاح- الضعيف للقوي، واستبيحت في الماضي أعراض بعضها وممتلكاتهم وأرواحهم، وأكلت حقوقهم. وبعض هذه الجماعات تُمنع من لغاتها، وتخفي عقائدها الحقيقة، وتتستر أو تدعي عقائد ليست لها، ولا تؤمن بها. ولذلك حين يتاح لها من خلال الديمقراطية، حرية الاختيار، وحق تقرير المصير، فإنها لا شعوريا- نتيجة الظلم القديم الذي لحق بها- تنحو نحو الانفصال عن الجماعات الأخرى التي أجبرت على العيش والتعايش معها.
إن هذا هو الذي يحدث في العراق الذي يطالب أكراده، وبعض شيعته بدولة مستقلة لكل منهما، بينما ترفض هذا الانفصال الجماعات السنية أو بعضها، التي كانت مسيطرة على العراق منذ نشوء الدولة العربية الإسلامية إلى حين الاحتلال الأمريكي، وتطالب ببقاء الدولة موحدة، لأسباب إما وطنية، وإما أملا في استعادة سلطتها الماضية، أو لوجود الثروة- البترول في المناطق الأخرى.
وهذا ما حدث أيضا في فلسطين حين مارس أهلها ديمقراطية صناديق الاقتراع. فقد انفصلت غزة عن الضفة الغربية. إذ أن الكيان العربي لا يتسع لقوتين متعارضتين أو لحزبين مختلفين في الآراء ووجهات النظر، فبدلا من أن يُغني هذا التنوع والتعدد في وجهات النظر المجتمع، ساهم في التمزيق والانفصال. ومن يدري فقد تمزق غزة غدا إلى قطعتين، قطعة لحركة الجهاد الإسلامي وقطعة لحماس. كما قد تمزق الضفة الغربية في حال نشوء قوة أخرى موازية لقوة فتح.
وهذا ما يُخشى حدوثه أيضا في دويلة لبنان (الديمقراطية) الذي يضم نحلا وأقواما شتى غير متجانسة، وغير متكافئة، وغير موحدة الأهداف والتطلعات، والذي همّشت واضطهدت في الماضي بعض فئاته الفئات الأخرى، والممزق حاليا- عمليا ونظريا- ويخشى أن يتكرس هذا التمزيق على الأرض، ويُفتت لبنان إلى كانتونات صغيرة. وقد مزقته وأنهكته فيما مضى الحروب الأهلية.
ومن حقنا أيضا بعد الذي نراه يحدث في دول عربية أخرى، ذات برلمانات منتخبة ديمقراطيا، أن نخشى على هذه الدول، حيث الديمقراطية البرلمانية فيها، تهدد استقرارها ونظامها السياسي، إن لم نقل تهدد وجودها وبقاءها كدول موحدة.
إن هذا العرض لواقع الحال لا يعني أبدا نبذ الديمقراطية، ولا ينفي أهميتها وضرورتها لمجتمعاتنا، التي لا يمكن للفرد بدونها أن ينال حقوقه، أو يحترم نفسه. وبدونها سنبقى أيضا عاجزين هائمين على وجوهنا في سراديب صحرائنا اللاهبة، نتجرع حليب النوق، ونزدرد الثريد، ونقرض شعر الخنساء، ونبكي على الأطلال، مجترين حكايات داحس والغبراء وحرب البسوس.

إن هذا العرض لواقع الحال يعني في صلب ما يعني إزالة كل العوائق، وتمهيد الأرضية اللازمة للديمقراطية بصفتها ثقافة ونظام حكم وأسلوب حياة، وبصفتها الخيار الوحيد والأمثل لنشر العدالة والمساواة، والقضاء على الحقد والكراهية، والتحارب القومي والديني والمذهبي والقبلي. وتعليمها للتلاميذ في المدارس منذ المرحلة الابتدائية. وتعليمهم أيضا قبول واحترام الآخر، ذكرا كان أم أنثى، وتمكينه من الوصول إلى حقوقه وممارستها كاملة غير منقوصة، وتعليمهم كذلك أن الديمقراطية لا تعني إخضاع الأقلية، وفرض قوانين الأكثرية واستئثارهم بالثروة والسلطة، بل هي التزام الأكثرية بضمان وحماية حقوق جميع المواطنين.
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية