اقترب موعد الانتخابات البرلمانية الأردنية القادمة (20 نوفمبر) وهي مناسبة الوعود الغفيرة للجماهير الغفورة من قبل المرشحين، وكما تعودنا في كافة أقطار الوطن الموصوف ب(العربي)، فإن غالبية المرشحين يشغلون الناخبين ببيانات خطابية تعتمد أجمل وأقوى ما في اللغة العربية من إعجاز وبلاغة، يقدمون من خلالها للمغلوبين على أمرهم برامج وخطط استراتيجية لحل كافة مشاكلهم الشخصية والعائلية، ومشاكل البلد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والتنموية والشبابية، دون أن ينسى بعضهم كيفية مواجهة اتساع ثقب الأوزون، فهو لديه الحل المثالي لكل هذه المشاكل وبسرعة ضوئية، و بعد إقفال باب الترشيح الإسبوع الماضي تمت الموافقة على تسجيل واعتماد 997 مرشحا سوف يتنافسون على 110 مقعدا يتكون منها مجلس النواب الأردني، وعدد المرشحين الذي يقترب من رقم الألف يتوزعون على 45 دائرة انتخابية، أي في المتوسط بمعدل 20 مرشحا في كل دائرة، وهذا يعني أن الناخب الأردني مطلوب منه قراءة وتمحيص عشرين برنامجا انتخابيا، كلها تتضمن الوعود بأن الخير والصلاح والنمو والرغد والرفاهية لن تتحقق إلا بنجاح هذا المرشح دون ذاك، و إلا فلا يلوم الناخب إلا نفسه إن سقط المرشح في الامتحان مما يعني تعطل حياة المواطن التي وعده بها، وهناك من المرشحين من يلجأ إلى أساتذة لغة عربية لهم خلفية سياسية واجتماعية كي يكتبوا لهم برنامجهم الانتخابي الذي عندما يقرأه المرشح من المؤكد أنه يفرط من الضحك لأن بعض التعبيرات والجمل لا يفهمها، ولكنها ذات موسيقى خطابية عالية تجلب انتباه الجماهير الغفورة فتصوّت على المرشح بدلا من أن تصوّت له.
مزايدات ما قبل الانتخابات
المحظوظون أكثر من غيرهم هم المرشحون الذين ينتمون إلى (جبهة العمل الإسلامي) الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، فلدى ذراعهم السياسي ماكينة إعلامية أقوى من (كتائب القسّام) الذراع العسكري ل (حركة المقاومة الإسلامية ndash; حماس)، لذلك بدأت هذه الماكينة ما يمكن وصفه بأنه (مزايدات ما قبل الانتخابات)، وبعد النجاح إن شاء الناخبون الأردنيون سوف يطبّقون المثل الأردني (حط في الخرج) كل هذه الشعارات!. وهذا ليس تشفيا أو هجوما على مرشحي الإخوان المسلمين بقدر ما هو تحليل موضوعي لمزايدات الذراع السياسي قبل الانتخابات كما جاءت في بيانه يوم الثلاثاء الموافق الثلاثين من أكتوبر الماضي، فقد طالب هذا الذراع:
أولا: (الحكومة الأردنية إلى إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل لكونها قيدت الأردن سياسيا وخربته اقتصاديا....نطالب الحكومة بإلغاء هذه المعاهدة بعد أن أوضحت السنوات الثلاث عشر السالفة على توقيعها أنها لم تعد على الأردن إلا بما هو سلبي).
ثانيا: (نطالب الحكومة الأردنية والحكومات العربية وحكومات الدول الإسلامية بمقاطعة المؤتمر المشبوه المزمع وعدم الانخراط في مؤامرة البيع والتطبيع التي تعنون هذا المسعى الفاشل و الإسهام عوضا عن ذلك في مسعى لفك الحصار الظالم عن أهلنا في فلسطين وجمعهم في مشروع وطني فلسطيني واحد ودعمهم لإنجاز التحرير).
ثالثا: (نطالب الأنظمة التي وقعت اتفاقيات تسوية مع العدو المجرم الذي يحاصر أبناءنا في المحتل من أرضنا ويقترف بحقهم أبشع الجرائم، بإلغاء هذه الاتفاقيات المذلة وقطع علاقاتها مع العدو كردّ على محاولاته المتكررة في توسيع دائرة التطبيع).
هذه المطالب الثلاثة للذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، لم تصدر حتى الآن بهذه السخونة عن الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وهي التوأم الشرعي للذراع السياسي المذكور بدليل:
أولا: لم تطالب حركة حماس وذراعها العسكري بإلغاء اتفاقية أوسلو التي وقعتها السلطة الفلسطينية عام 1993 أي قبل عام من توقيع الحكومة الأردنية اتفاقية وادي عربة، وبالعكس تعرض حركة حماس وذراعها العسكري وذراعها الخارجي (خالد مشعل) على دولة إسرائيل (وليس العدو الإسرائيلي) هدنة طويلة المدى، وقد تم عرض هذه الهدنة عدة مرات منذ زمن المرحوم الشيخ أحمد ياسين، وللتوثيق فقط فإن من أوضح عروض الهدنة تلك هو ما جاء على لسان محمود الزهار في حديثه لشبكة (سي إن إن) الأمريكية الشقيقة في الثلاثين من يناير عام 2006 أي أربعة أيام بعد فوزها بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني الذي أهلها لتشكيل الحكومة الفلسطينية المقالة حاليا. قال الزهار في تصريحه ذلك حرفيا: quot; إن هدنة طويلة الأمد ممكنة...إذا كانت إسرائيل مستعدة لتنفيذ مطلبنا الوطني الداعي لانسحابها من الأراضي المحتلة وإطلاق سراح أسرانا ووقف اعتداءاتها ووضع رابط جغرافي بين قطاع غزة والضفة، في هذا الوقت ومع ضمانات من أطراف أخرى سنقبل بإعلان دولتنا...ونحن على استعداد لبناء دولتنا على الأراضي المحتلة عام 1967 quot;. هكذا بوضوح عبّر محمود الزهار عن رؤية حركته حماس بعد أيام من فوزها في الانتخابات وقبل أيام من تشكيلها الحكومة الفلسطينية المقالة حاليا من قبل محمود عباس رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، وكما نلاحظ فهو استعمل كلمة (إسرائيل) وليس (العدو الإسرائيلي) أو (الاحتلال الإسرائيلي)، وفي عالم السياسة فإن من يعرض هدنة في زمن الحرب فهذا يعني أنه يعرضها على دولة هو معترف بوجودها أيا كانت نوعية الخلافات معها.
ثانيا: خاضت حركة حماس وذراعها السياسي الانتخابات التشريعية المذكورة تحت سقف السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيسها محمود عباس وحكومة أحمد قريع، وكل هؤلاء نتاج اتفاقية أوسلو وبالتالي فمن يمارس العمل السياسي والتنظيمي تحت سقف هذه السلطة ومؤسساتها فهو معترف بالأرضية والخلفية التي أنتجت ذلك، وهذا حال كافة التنظيمات الفلسطينية مثل الجبهة الشعبية والديمقراطية، يشذّ عن ذلك حركة الجهاد الإسلامي التي قاطعت تلك الانتخابات التشريعية ولم تشارك في الحكومة الفلسطينية التي شكلتها حركة حماس عقب فوزها.
ثالثا: رغم انقلابها العسكري الذي مكّنها من السيطرة الكاملة على قطاع غزة وقيامها بتطهير فتحاوي لكافة الأجهزة والمؤسسات، إلا أن حركة حماس ما زالت تطلب الحوار مع السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس وهما نتاج اتفاقية أوسلو، وهذا له مدلول مهم وهو أنه في ظل قوة حماس العسكرية وسيطرتها الكاملة على جزء من الدولة الموعودة التي طالب بها محمود الزهار، ما زالت الحركة تعترف بالسلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، وقد لمعت يوم الجمعة الموافق الثاني من نوفمبر الحالي (إشارة إيمانية) تبشر بانفراج بين الصديقين اللدودين، إذ نقلت البشائر أن الرئيس محمود عباس وجّه دعوة لقيادات من حماس في الضفة الغربية للاجتماع به والصلاة معا صلاة الجمعة في المقاطعة مقر محمود عباس، وقد تحقق ذلك فعلا وبعد الاجتماع صلّوا معا صلاة الجمعة (تقبّل الله منكم) بإمامة وزير الأوقاف جمال بواطنة (هكذا اسمه العائلي)، ولأنه عرس إيماني فلسطيني فقد بثّ التلفزيون الفلسطيني الصلاة على الهواء مباشرة حيث بدا الرئيس محمود عباس وبجانبه الأيمن كل من حسين أبو كويك وفرج رمانة القياديان في حماس وناصر الدين الشاعر نائب رئيس الوزراء الحمساوي السابق والنائب عن حماس ايمن دراغمة، ولم يعرف إن كان وضع وفد حماس على يمين محمود عباس جاء بالصدفة أم خطط له ليعطي مدلولا سياسيا، رغم أن الجميع في صلاة الجمعة بين يديّ الله تعالى العالم بباطن كل منهم، وقد صرّح ناصر الدين الشاعر يوم الثلاثاء الثالث من نوفمبر الحالي لجريدة الشرق الأوسط اللندنية ب quot; أن اللقاء كان ايجابيا وعميقا، وبحث مجمل القضايا العالقة، وكسر الحاجز النفسي بين حركتي فتح وحماس quot;، وكم كان ناصر الدين الشاعر شاعرا بما يعانيه شعبه بعد انقلاب حماس، عندما قال صراحة: quot; هذه صلاة عادية مع الرئيس عباس لأنه الرئيس الشرعي ورئيس الشعب الفلسطيني والمقاطعة بيت لكل الشعب الفلسطيني، ونحن صلينا في بيتنا. نعم التقينا الرئيس وناقشنا معه الأوضاع الداخلية الفلسطينية في جو منفتح 100% وأكدنا احترامنا لشرعية الرئيس عباس والقانون والنظام).
بعد هذه المواقف من حركة حماس الشقيق التوأم لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، أليس من حق أي مراقب أن يسألهم على من تبيعون بضاعتكم المستهلكة عندما تطالبون الحكومة الأردنية بإلغاء اتفاقية وادي عربة، بينما أهل الدار (فلسطين) فتحاويون وحماسيون وشعبيون وديمقراطيون يعترفون باتفاقية أوسلو الموقعة قبل عام من اتفاقية وادي عربة.
ما هو التقييد السياسي والتخريب الاقتصادي لاتفاقية وادي عربة؟
وهكذا يورد الإخوان المسلمين في الأردن في مطلبهم الأول من الحكومة الأردنية شعارات بشكل خطابي كما تعودوا، دون أية معلومات أو حقائق عن هذا المطلب الخطير الذي يوردونه في خمسة كلمات (قيّدت الأردن سياسيا وخربته اقتصاديا)، وأي جاهل يعرف أن التدليل على ذلك لإقناع الناخب يحتاج إلى دراسة مفصلة، فما هو التقييد السياسي الذي فرضته اتفاقية وادي عربة على السياسة الأردنية؟ هل كانت الوحدة العربية جاهزة وعطلتها الاتفاقية؟ هل السوق العربية المشتركة والتنقل بين كافة الدول العربية بدون تأشيرة دخول كانت بصدد التنفيذ وألغتها الاتفاقية؟ هل الوحدة الكاملة بين الأردن والجارة سورية كانت جاهزة للتوقيع وتسببت الاتفاقية في وقفها؟ بالعكس فالجارة سورية تريد نفس الاتفاقية مع دولة إسرائيل شرط أن تنسحب من كافة الأراضي السورية المحتلة؟ لذلك ليت الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين الأردنيين يشرحون لنا وللناخبين الأردنيين ما هي القيود السياسية التي فرضتها الاتفاقية على الأردن؟ وأعتقد لأنه لا وجود لهذه القيود فقد جاء هذا الموضوع المهم في كلمتين فقط إثارة لمشاعر الناس، ولو كان لديهم حيثيات وحقائق مقنعة لقدموها في بيانهم، وكذلك الأمر بالنسبة ل (تخريب الاقتصاد الأردني) أيضا يأتي في كلمتين وهو يحتاج لصفحات وحقائق وأرقام لإثبات هذا الزعم.
واقعية إخوان مصر المسلمين
هذا بينما في مصر التي يعرف إخوانها المسلمون أن بلادهم أكبر قوة عسكرية وبشرية في الشرق الأوسط، لم يطالبوا بإلغاء اتفاقية كامب ديفيد الموقعة بين مصر وإسرائيل عام 1979 أي قبل توقيع الأردن بخمسة عشر عاما، ويتعاملون معها بواقعية بعيدة عن مزايدات إخوان الأردن رغم الخلافات بين قياداتهم بشأن هذه الاتفاقية، فقد صرّح رئيس المكتب السياسي للجماعة الدكتور عصام العريان لجريدة quot; الحياة quot; اللبنانية يوم الثالث عشر من أكتوبر الماضي قائلا: (إن الإخوان إذا ما وصلوا إلى الحكم سيعترفون بإسرائيل ويحترمون المعاهدات الموقعة معها)، وبعد رفض المرشد العام لإخوان مصر محمد مهدي عاكف لهذه التصريحات، عاد الدكتور العريان في حديث آخر ليفرق بين الإخوان كجماعة وبين الإخوان كحزب، موضحا أن الحزب quot; سيتعامل مع إسرائيل عبر واقعية سياسية مع الواقع القائم الذي يرى أن إسرائيل دولة قائمة ولها وجود على أرض الواقع) وفي نفس الحديث اعتبر العريان (أن ما جاء في الصيغة شبه النهائية لبرنامج حزب الإخوان التي نصّت على مبدأ احترام المعاهدات والاتفاقيات الدولية كاف لمعالجة أي جدل حول موقف حزب الإخوان من معاهدة كامب ديفيد)، مؤكدا (أن الصيغة الحالية لبرنامج الحزب فيما يتعلق بمعاهدات مصر الدولية، لن تتغير عنها في الصورة النهائية، حيث سيحترم الحزب في حال وصوله إلى الحكم في أي وقت الاتفاقيات الدولية بما فيها كامب ديفيد...ليس من المعقول أن يتراجع كل حزب يصل إلى السلطة عن الاتفاقيات التي وقعتها الحكومات السابقة).
إزاء هذه المواقف العقلانية الموضوعية من إخوان مصر الذين يعرفون أن بلادهم أكبر قوة عسكرية وبشرية في الشرق الأوسط، ألا يحق لنا أن نسأل إخوان الأردن: على من تبيعون بضاعة المزايدة هذه؟ خاصة أنكم تعرفون إمكانيات الأردن في كافة المجالات، و أيا كانت الملاحظات على اتفاقية وادي عربة، إلا أنها قانونيا وعمليا دفنت خيار(الوطن البديل) الذي كان يتبناه اليمين الإسرائيلي، وكان يعني أنه لا (وجود لدولة فلسطينية غرب النهر، لأنها قائمة فعلا شرق النهر). لذلك ومن خلال العرض والتوثيق السابق أعتقد أن بيانات جماعة الإخوان المسلمين في الأردن هي مجرد مزايدات بلاغية خطابية للضحك على الجماهير الأردنية وهي على أبواب الانتخابات، لأنهم في بيانهم المذكور في بداية المقالة لم يشرحوا للناخب الأردني ما هي آلية إلغاء الاتفاقية، وكيف سيطبقون مطالبتهم الحكومات العربية والإسلامية بإلغاء الاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل؟. وما رأيهم في إخوانهم الإسلاميين في تركيا الذين يسيطرون على البرلمان ورئاسة الحكومة ورئاسة الدولة، ويستمرون في الاعتراف بدولة إسرائيل مثل الحكومات التركية التي سبقتهم طوال أكثر من نصف قرن.
لذلك فإن هذه المزايدات الانتخابية لن تمرّ على الناخب الأردني، لأنه يفترض أن يكون قد تعلم درسا قاسيا من مزايدات حركة حماس الشقيق التوأم لإخوان الأردن وما جرّته هذه المزايدات على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة تحديدا. أيام قليلة وسنرى نتائج الانتخابات الأردنية القادمة خاصة بعد تأكيد العاهل الأردني و رئيس الوزراء الأردني الدكتور معروف البخيت مرارا أن الانتخابات ستكون شفافة ونزيهة، وأعقب ذلك تشكيل 59 لجنة للإشراف على الانتخابات تضم قضاة، و quot; أن هذه اللجان تتمثل باللجنة العليا وهي لجنة واحدة برئاسة وزير الداخلية، و 12 لجنة مركزية برئاسة المحافظين، مهمتها الإشراف المباشر على الانتخابات كل ضمن اختصاصه وداخل محافظته،بالإضافة إلى تشكيل 45 لجنة لكل دائرة انتخابية مهمتها الإشراف المباشر على الانتخابات داخل حدود الدائرة الانتخابية الواحدة)...أيام قليلة وسنرى متذكرا دعوة جدي اللهم نجنا مما هو أعظم!.
[email protected]
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات