فهل هو قدر الزفت لمواطن منكود ووطن منكوب؟ أو لا قيمة للون بل الانتماء؟
لون جواز السفر (الباسبورت) الكندي قاتم معتم، ولون جواز السفر الأوربي أحمر زاهي، وهناك من الجوازات ما هو أخضر فاقع أو كحلي غامق، ولكن هل يلعب لون الجواز أي دور؟
وأنا أعرف مشكلة (جواز السفر) منذ أن وعيت؛ فقد حيل بيني وبين العديد من الوظائف، مع أحقيتي في بلدي، ولكن العلم آخر ما به يفكرون والمهم الولاء الحزبي والتعصب المذهبي؟ فاضطررت أن أبحث عن أرض ألجأ إليها تؤمن لي الرزق والأمان، بعد أن لم يبق أمان لطير وبطة، ويعسوب وقملة، في الشرق المنكود المنكوب؛ فهم يحصون دبيب كل نملة، وطنين كل نحلة، ولا تأخذهم سنة ولا نوم. لأن النوم للحظة معناه هلاك إلى أخر لحظة؟
وأعرف من صديقي (شكري) أنه لجأ إلى الأرجنتين في أقصى الأرض حيث طاف ماجلان، فبذل العظيم من الأموال في أراضي الجنرالات، وفاز بجواز سفر أرجنتيني ومواطنة، وهو لم يجلس في البلد ساعتين أو ثلاث؟ وكان هناك من يعمل على تهجير المساكين من وطنهم كما فعلت تلك اليهودية النشيطة من مونتريال، بتهجير اليهود من الشرق لمدة خمس وعشرين سنة، وكان أكثر ما يثقلها هو طلب رؤوساء الفروع الأمنية طلبات صعب تحصيلها؟ مثل الدولار الكاش في بلد ليس فيه كش وكاش؟ أو عاهرة بيضاء سمينة شقراء؟ وهذه تحتاج للاستيراد؟
نشرت كل هذا الكلام صحيفة (مونتريال جازيت) وقرأتها أنا بحزن وقرف ولكن لا جديد تحت الشمس؟
أما صديقي (زايد) فقد لجأ حيث وصل كولومبس إلى جزيرة أسبانيولا؛ ففاز بجواز سفر من الدومينيك، بمبلغ خمس وعشرين ألف دولار، ما يقترب من ميزانية الجزيرة المنكوبة بالفقر والفوضى.
ولا يهم... والمهم هو الفوز بجواز سفر ينجو فيه من قبضة العصابة ورجالها إذا زلزلت الأرض زلزالها؟
والرجل ودع البلد وهو من خيرة الأدمغة، لأنه لم يبق وطن وأدمغة بل غابة وعصابة؟
قلت له: ضيع جواز السفر قاصدا!! ثم اذهب لسفارتهم الفقيرة، أو من يمثلها، وانظر هل تمنح جواز سفر (بدل فاقد) أم ذهبت الدولارات في جيب عصابة جديدة؟
و(أبو كمران) العراقي صديقي هرب من صدام المشنوق قبل أن يشنق، فلما حان وقت تمديد الجواز، مدّده بنفسه، بخط يده؟ فدخل منطقة الحرام بعد أن لن يبق حلال بيد الديكتاتور والجلاوزة!
كما كان يقول صديقي أبو كمران؟
ثم حدثت له واقعة ودع بعدها أرض العروبة تماما، فلأنه يحمل جواز سفر الأتراك (العصملية) ولكنه ينطق اللهجة العراقية، فقد سال لعاب الرفاق في بلاد الشام لاستضافته إلى الدولاب والفلق، هو وزوجته المصونة، بعد أن لم يبق صيانة وكرامة، فانتبهت زوجته الذكية أن تراجع السفارة التركية؟ فكان يوما مشهودا، طرد فيه السوريون من كوة التأشيرات بدون كرامة، عقوبة لهم، وجرى اتصال على أرفع مستوى، وهدد الأتراك كعادتهم أن يحيلوا البلاد نارا إذا نالوا من مواطنهم التركي، فطوقوا الحالة، وخرج العراقيان بسلام وهما ينفضان غبار الموت عن أحذيتهم؟ بعد أن صمتت شهريار عن اللسان العربي، وأصبح كلامهم كله: جوزال جوزال...إيشك أوغلي إيشك؟
وأنا شخصيا جرت لي واقعة التمديد، فاتصلت بالسفير الهمام، وكنت راجعا من بلاد الجرمان، أشعر بالكرامة والأمان فأخطأت التقدير؟ فطلبت التمديد؟ فبدأ يتكلم معي بطريقة حركت عندي مخاوف المنعكسات الشرطية القديمة كلها؛ من فزع وقرف ومهانة وامتهان، ولم يكن بد من التمديد، فجاء رجل من جدة فقال إنه يعرف رجلا من القراصنة المرتشين في السفارة من يقبض 500 ريال ويمدد؟ لاكتشف لاحقا أن أرقام تجديد الجواز مصطنعة مركبة خيالية، وختم النسر ختم بلاستكي معمول في بلاد الأسبان بخمس ريالات، ولكن حصدت العصابة مئات الآلاف من الريالات، من جيوب المنكوبين المغضوب عليهم من أمثالي، الذين غسلوا اليد من الوطن سبعا إلى المرافق بالتراب أحدها بزيت الكاز... إلى الأبد إلى الأبد... كما هي شعارات الرفاق؟
وحاصل الكلام أن لون الجواز ليس بأهمية؟ ولكن بأي دين يدين الجواز ومن صاحبه؟ هل هو عربي مخيف؟ أم فلسطيني مشرد؟ أم يعربي هارب؟ أم كردي لاجيء؟ أم آشوري شارد؟؟
وحين كتبت مقالتي حول تحولي إلى (بدون) بإرادتي، كما هو حال صديقي محمد عزيز ظاظا الكردي الذي سحبت منه الجنسية، فأصبح من (البدون) فلجأ إلى براغ ثم حطت به الرحال في أربيل، أرسل لي أخ غاضب، كيف أصف لون جواز بلده بأنه زفتي؟! وبأنه نكران للوطن! وبأنني كردي حاقد (ولست بكردي وأنا أحترمهم وأتعاطف مع قضيتهم في العدالة)؟ وأنني أنكرت جميل الوطن؟ كذا؟
وأنه سيرفض كتاباتي، ولن يطالع بعد اليوم كلماتي، وأنه تبرأ مني، كما فعلت يهود بإعلان براءتهم من سبينوزا، مع إضافة طعنة في رقبته، فلم يكتب له الموت بالطعن والطعان؟
والحقيقة أن جواز السفر من البلد المنكوب، ويلحقه الكوري بفارق حرف، والكوبي بفارق حرفين، هم سود مثل الغربان المنحوسة، ولحامله كالليل البهيم، والحلم السقيم، والكابوس الغادر، فهو في الداخل لعنة، ومن الخارج لعنتين؟!
يقبض عليه في الداخل داخل الدولاب والفلق، ومن الخارج لا يعطى تأشيرة لبلد؟ فهو محجوز مرتين، مسجون ثلاث مرات في لعنة لا تنتهي ظلالها، لا بارد ولا كريم...
وفي يوم دخلت مطار فرانكفورت بالجواز الزفتي، وكنت مع كوكبة من الأوربيين؛ فأفردوني مثل إفراد البعير المعبد (الجربان)؟
قلت معهم حق، لأنه قبل يومين كان أحد المجرمين المحترفين، قد قتل بنان الطنطاوي في بيتها بسبع رصاصات فجر بها جمجمتها، بعد أن اختبأ خلف جارتها الألمانية، بغدارة وطبنجة وخنجر الحشاشين!!
ولكن هل لو كان لون جواز السفر البلد المنكوب متعدد الألوان كان سيدخل البهجة للقلب؟ أم الرعب؟ وأن لا يشهق المواطن على الحدود، تدور أعينه كالذي يغشى عليه من الموت حين يبطأ الإفراج عنه؟
فلا تعلم نفس ما أخفي لها، أن تستدعى لأي فرع أمني، من أذرع التنين التسعة عشر، إلى سقر وما أدراك ما سقر؟ لا تبقي ولا تذر..
لون جواز السفر إن كان زفتيا، أو أحمرا فاقعا، أو أخضرا سندسا، لا يعني شيئا، وإنما الانتماء لوطن فيه مقومات البقاء؛ من الرزق والكرامة والأمن..
والبلد المنكوب لا يبق فيه رزق وكرامة وأمن، بدليل وجود الملايين من الهربانين؟
لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوّا إليه وهم يجمحون.
ولست أنا الوحيد ممن فروا من هذا الجحيم، بل يهرب منها المواطنون في كل اتجاه، مثل الزق المثقوب فلم يبق وعاء ولا سمنا..
كما جاء في الإنجيل
قد تصلح جمهورية الخوف والبطالة أن تكون مدفنا كما دفن نزار القباني، حين عاد للوطن في كفن، ولكن ليست وطنا بحال بل حبسا كبيرا، لمواطن مسكينا ذليلا ويتيما أسيرا وفقيرا حبيسا وقتيلا....