(2/1) ما هو مبرر وجودها؟
لفهم هذا السر المغيب ينقل الدكتور (إمام عبد الفتاح إمام) في كتابه (الطاغية) هذه الواقعة عن الفيلسوف (توماس هوبز): quot;جرت العادة عندما يموت الملك في فارس في العصور القديمة أن يترك الناس خمسة أيام بغير ملك وبغير قانون بحيث تعم الفوضى والاضطراب جميع أنحاء البلاد وكان الهدف من وراء ذلك هو أنه بنهاية الأيام الخمسة وبعد أن يصل السلب والنهب والاغتصاب إلى أقصى مدى فإن من يبقى منهم على قيد الحياة بعد هذه الفوضى الطاحنة سوف يكون لديهم ولاء حقيقي وصادق للملك الجديد إذ تكون التجربة قد علمتهم مدى رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع إذا غابت السلطة السياسيةquot;.
ويبدو أن الخليفة (يزيد) الأموي قام بتجربة اجتماعية ناجحة من هذا النوع عندما استباح مدينة النبي ص كما يذكر المفسر والمؤرخ (ابن كثير) عن وقعة (الحرة) فضربت بالمنجنيق واستبيحت ثلاثة أيام كاملة وسرقت ونهبت واغتصب فيها ألف عذراء من بنات الصحابة أو كما يقول ابن كثير quot; ومفاسد عظيمة ليس لها حد ولا وصفquot;.
وأمام هذه المتحارجة التي لم يجد الفقهاء لها مخرجا قالوا بأنه لا يجوز الخروج على الإمام الفاسق لما في ذلك quot;من إثارة الفتنة ووقع الهرج وسفك الدماء الحرام ونهب الأموال وفعل الفواحش مع النساءquot;؟
ولم يخطر في بالهم إلا حلين لا يتقدمان في طريق الحل إلا بإلغاء كل حل بين العبودية والانقلاب الدموي.
وغاب عن بال الجميع كيفية صناعة المجتمع وفق المنهج النبوي بالمقاومة السلمية. ومازلنا حتى اليوم محتجزين في قبضة السيف الأموي.
وإذا كان الأمويون أنجبوا عمر بن عبد العزيز العادل ثم اغتالوه فإن العباسيين ذبحوا الأطفال وأكلوا على سجادةٍ يحشرج تحتها بني أمية، ونبشوا قبورهم ثم صلبوا بقايا جثة أحدهم.
وفي الصراع على السلطة احتز المأمون رأس أخيه الأمين.
وأما سلاطين بني عثمان فكانوا يستفتحون العهد الأميري بقتل جميع أخوتهم بفتوى من شيخ الإسلام أن الفتنة أشد من القتل.
وفي كتاب (القوة) لـ (روبرت غرين) عن quot;القواعد الثماني وأربعين للإمساك بمفاتيح السلطةquot; يذكر قصة عجيبة عن (إيفان الرهيب) أن سكان العاصمة فوجئوا في 3 ديسمبر من عام 1564 م بمغادرة الملك موسكو إلى قرية صغيرة وتركها لمصيرها بدون حاكم. وخلال شهر ذاق الناس الأمرين من الفوضى والقتل وفي 3 يناير 1565م أرسل إيفان إلى أهل موسكو رسالة يقول فيها أنه تنازل عن العرش.
هرع رجال الكنيسة وأعيان البلد إلى قرية الملك إيفان يستعطفونه الليالي ذوات العدد أن يعدل عن رأيه ويعود إلى العرش وينقذ البلد من الفوضى.
قال لهم في النهاية إذا كانت هذه رغبتكم فسوف أعود ولكن بشرط واحد هو:
quot;السلطة المطلقةquot; وليس غيرها أو دونها؟.
وعندما عاد إيفان الرهيب إلى موسكو هتف الناس طويلاً بحياة العاهل العظيم واعتبروا ذلك اليوم عيداً للحرية والشكر وهم يضعون أغلال العبودية في أعناقهم فهي إلى الأذقان فهم مقمحون.
ويذهب الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) في كتابه (السلطان Power) إلى أن أعظم مشكلة اجتماعية تواجه البشر هي التوفيق بين الرغبات الفردية والذوبان الاجتماعي quot; إنه من المجدي للمخلوقات البشرية أن تعيش في جماعات ولكن رغباتها تظل فردية إلى حد كبير، خلافا لرغبات النحل التي تعيش في خلاياها، ومن هنا تنشأ المتاعب الاجتماعية والحاجة الماسة إلى قيام حكومةquot;.
ولكن المشكلة هي أنه بقدر الحاجة إلى ولادة الدولة بقدر مخاطر نشوئها من احتكار السلطة بيد طاغية أو رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
ويقرر (راسل) أن الحل صعب بين (فوضى الغابةquot; وquot;طغيان الدولةquot; وأن quot;الفوضى والطغيان يتشابهان في نتائجهما المدمرة ومن الضروري التوصل إلى حل وسط إذا أريد للمخلوقات البشرية أن تنعم بالسعادةquot;.
ويذهب (ابن خلدون) في مقدمته إلى أن quot;الاجتماع الإنساني ضروري وأن الإنسان مدني بالطبعquot; وينطلق في نظريته هذا من ضرورة الاجتماع الإنساني بأمرين: quot;الحمايةquot; وquot;الغذاءquot; فلا يمكن للفرد الواحد أن يطعم نفسه كسرة خبز بدون اجتماع الأيادي والعديد من الصناعات.
جاء في المقدمة أنه حتى : quot;قوت يوم من الحنطة لا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ وكل واحد من هذه الأعمال يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددةquot;. ولكن هذا الاجتماع لا يعني بالضرورة ولادة quot;الدولةquot;
ولذا اعتبر (هوبز) أن الإنسان ليس حيوانا سياسيا ولا هو مدنيا بالطبع ولكن تطور الدولة كان عملاً ثقافياً أكثر من كونه أمرا غريزياً وهو بهذا ينقض نظرية (أرسطو) عن الإنسان. أما في (علم النفس) فيرسم (أبراهام ماسلو) الحاجيات الإنسانية في هرم من مكون من خمس طبقات، يأتي في القاعدة منه طبقة مكونة بدورها من خمس حاجيات فيزيولوجية هي quot;الطعام والشراب واللباس والسكن والجنسquot;.
ويأتي فوقها مباشرة طابق (الأمن الاجتماعي).
وجمعت الآية بين الأمرين (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).
وفي قمة الهرم يأتي quot;تحقيق الذاتquot; وهو حصر على 5% من الناس وما بينهما يأتي quot;روح الانتماءquot; وquot;تقدير الذات.
ولكن ما معنى هذا كله؟
يبدو بشكل واضح أن الدولة نظام سياسي ولد على القوة واحتكار العنف من كل المجتمع مثل quot;شفاطةquot; قوية سحبت كل العنف من يد كل الأفراد واستأثرت بكل العنف في يدها مقابل quot;توفير الأمنquot; للأفراد الذين يعيشون في كنفها وهو ثمن باهظ للتخلي عن الفردية مقابل الاندماج في الحياة الاجتماعية، ولكن بنفس الوقت لم تنشأ الحضارة لولا هذه الغلالة الواقية من الأمن التي تحسم النزاعات بين الأفراد.
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية