لم يدر في خلد (محمد باشا) العامل الهندي ولا للحظة أن بينه وبين الموت شراك نعل، عندما طلب منه البعض توصيلة (ديلفري Delivery) طعام لبعض الشباب الذين طلبوا طعاما جاهزا. وهنا لانعلم بالضبط ما ذا حدث؟ وكيف وقعت المهاوشة؟؟ ومن المذنب في إثارة الصراع الدموي ولكن الأكيد أن العامل الهندي ذو الـ 36 عاما فارق هذا الحياة الفانية إلى دار القرار، والأكيد أيضا أن جراح الأوعية الدموية لم يستطع أن يفعل له شيئا أيضا، وكان ذلك في مناوبتي؟
طلبت للأسعاف عند الساعة 2،50 دقيقة صباحا، وهو الوقت المعروف للكوارث، كانت رنة البيجر، ورقم مكان الطلب واضحا أن هناك كارثة في الأسعاف.
كان الرقم يقول أنه في غرفة الطواريء القصوى، فسارعت يغالب النعاس عيناي، وأجرجر رجلي المثقلتين في مثل هذا السحر، لقيام ليل وتهجد غير مستعد له؟
وفي الطريق بعد أن ودعت زوجتي؛ فزوجة الجراح تستيقظ مرعوبة على رنين البيجر كما اعتاد زوجها، ليقول لها قد تكون الليلة طويلة جدا ياعزيزتي، ولسوف اتصل بك من قاعة العمليات، أو أنني سوف أرجع إلى فراشي صباحا بعد شروق الشمس..
هذا إذا كان محظوظا وإلا فقد يطول الوقت إلى الضحى وأكثر..
عندما دخلت غرفة الأشباح والأرواح أي غرفة الأنعاش الخطيرة؛ لأن كثيرا من زوارها يدخلونها في سكرات الموت فلايستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون.. وقع عيناي على شاب مسجى مربوط إلى أنابيب الإنعاش، ولكن بكل أسف بحدقات متوسعة لاتتفاعل للنور، علامة على بدء رحلة موت الدماغ. وحين حاولت تفقد مكان الإصابة لاحظت فتحة في شريان الفخذ الكبير قادته للهلاك.
عندها تذكرت شريطا طويلا من قائمة الأموات، التي سوف ينضم لها محمد باشا العامل الهندي البائس الفقير..
تذكرت تلك المرأة البدينة التي نقلت بعد حادثة الصدم في السيارة كيف ماتت على طاولة النقل؟
وتذكرت ذلك العامل التايلاندي الذي كان ينزف بغزارة، لم تمكن من نقله حتى قاعة العمليات، فكان الموت إليه أسرع.
وكذلك الحال مع محمد باشا، الذي عرفنا اسمه بالصدفة، وقد يكون غير صحيح، فهؤلاء المجاهدين لكسب عيش أولادهم وعائلاتهم يبقون في كثير من الأوقات جنودا مجهولين..
تمنيت أن أعرف ظروف قتل هذا الرجل فلم أعرف..
كل ما عرفناه أنه كان مطعونا بسكين بضربة واحدة فقط (جابت أجله؟)..
في الفخذ طعنة واحدة مالها من فواق، ولكنه قدر الموت،فقد جاءت الإصابة تماما في الشريان الفخذي الخطير، ولأن المصاب بقي في الشارع ينزف طويلا بعد أن هرب الجناة؛ فقد خسر من الدم مايكفي أن يخسر حياته..
ونحن كائنات هشة نموت بأبسط الأسباب.. ولكنها قصة عجيبة أن يموت شاب قوي من طعنة في الفخذ، فتكون في الشريان، فيأتي أجله منها متدفقا، وكما تدفق الدم من الشريان للخارج كذلك خرجت روحه..
فكرت في كمية الناس الذين تم إنقاذهم في هذه الغرفة التي تضحك وتبكي.. تذكرت الشاب الذي قلبت عليه سيارته فهشمت العظم وقطعت الشرايين عند المغبن، وكان محظوظا أن لم يمت تحت السيارة، فنقل للأسعاف وبدأ النزف يشتد مباشرة بعد نقل الدم والسوائل لأسعافه وتحسن ضغطه ونبضه، وكيف هرعت به إلى قاعة العمليات بدون المزيد من تضييع أي وقت في التشخيص، فالتشخيص كان يقول افتح وأنقذ.. وهذا الذي كان فقد أنقذ، وتم ضبط نزف الشريان الفخذي، الذي مات منه محمد باشا، وتمت عملية تصنيع الشريان..
وحسب معرفتي عن مدير البنك الألماني الاتحادي سابقا (هاوزن) الذي قتل على يد الإرهابيين من جماعة بادر ماينهوف، كانت بسبب شظية اخترقت الشريان الفخذي، ولو تهيأ للرجل من يوقف النزف لنجا من الموت، ولكن سبق القول أنه لن تموت نفس إلا بإذن الله... كتابا مؤجلا..
وفي الحروب يموت الكثير بسبب النزف، ولو أمكن الوصول إلى مكان النزف وإيقافه لنجا المصاب.. ونصيحتي للقاريء إن رأيت نزفا فاضغط فوق المكان ما أمكنك.. فوق المكان...لا أدنى منه... ولا أعلى..
ويبقى الشريان الفخذي من أخطر الشرايين نزفا، فيقضي على صاحبه في وقت قصير..
وفي الطب نعلم أن خسارة ثلث أو نصف حجم الدم في وقت قصير يدخل المصاب في صدمة غير قابلة للعودة (Irreversible Shock)
وهنا يأتي حزننا مضاعفا لمثل هذه الإصابات، فحين نعجز عن الإنقاذ ويموت المصاب، فلن يموت هو لوحده، بل سيأخذ معه آخر بالقصاص إلى العالم الآخر، مالم يعفو أولياء الدم... فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا.. أو الحبس المؤبد أو الطويل في بلاد لاتحكم بالإعدام، وهي شبه إعدام من الحياة الاجتماعية..
وأوربا وصلت لألغاء حكم الإعدام تحت هذه الفكرة، وانه ما من جريمة إلا وظروف اجتماعية تطوقها، وهو مانجا رقبة أوجلان الكردي، بعد ضغط أوربا على تركيا إنها لن تدخل الاتحاد الأوربي إلا بشروطها بإلغاء حكم الإعدام؟!
ولا أنسى منظر الشاب الذي طلبنا له، ونحن في قمم جبال عسير في النماص إلى بيشة، فطرنا إلى المشفى بدون أجنحة، بسبب قصة عرض وشرف ودم وضرب بالرصاص في البطن ونزف مريع، وبمجرد فتح البطن تدفق دم كالسيل العرم، وخلال دقائق كان المصاب في العالم الآخر يشكو ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، كما حصل مع العامل الهندي الفقير، وكان يمكن أن يعيش نصف قرن أخرى، فجاء أجله في البعد والمعاناة والغربة والفقر والنكد والتعتير قتيلا مقتولا بمهاوشة تافهة فما أرخص الإنسان؟؟
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه
التعليقات