كان أول تعرفي على الحزب عن طريق (أنور الكسم) في بيتي في منطقة الشيخ محيي الدين العربي في دمشق فيما أتذكر، فقد فاجأني في ليلة؛ فجلس إلي وأنا أصغي إليه بصبر، فلم يترك شخصية معروفة إلا وسربلها من قطران العمالة ألواناً؟؟
وأنا أتحمله وأقول خطأ السكران على الصاحي..
حينها عرفت سبب فشل الحزب في المنطقة العربية؟
فهم يتهمون الكل بالعمالة، ويوزعون مناشير في كل يد ومكان لكل من هو ليس من حزب التحرير بأنه عميل عتل زنيم، وحين يتهم الحزب نظاما بالعمالة سرا وعلنا وبالمنشورات فهو في أحد أمرين أحلاهما حنظل وعلقم: فإما كان المتهم عميلا حقا، فوجب استئصال الحزب تغطية للعمالة؟! وإما كان شريفا، فوجب استئصال الحزب من جديد لهذه التهمة التي تنشق لها السماء وتخر لها الجبال هدا..
وعلى الطرفين يجب تنظيف الأرض من هذا الحزب، ولذا اندثر الحزب في الشرق الأوسط، لمخالفته سنن الله في قيام الجماعات والأحزاب..
ثم قيامه من الرماد مثل طائر الفينيق في أقصى الأرض بسبب الحريات وبريق كلمة الخلافة الإسلامية، ونشاط الأتباع المحاصرين، كما حصل مع جماعات الإخوان في قطر والكويت، فساهم عبد الناصر في نشرهم،مثل أي جراح خايب يقص على السرطان وينشره في كل البدن فلا ينجو المريض..
وحسب (ابن خلدون) في المقدمة أن الكثير في التاريخ ادعى وخرج على الحاكم ولكن من نجح كانت الدعوات التي خلفها عصبية..
وشباب الحزب في الشرق الأوسط عاشوا في سلسة من الأحزان والاعتقالات، بهذه الصدامات الحمقاء، التي لانهاية لها من التخوين والاتهام بالعمالة للجن والأنس والأنظمة والأشخاص والطير فهم يوزعون..
ومما ينقل عن (ابن تيمية) قوله أن العلماء يخطئ بعضهم بعضا، والمبتدعة يكفر بعضهم بعضا، ولو نقلت كلماته إلى عصرنا لقلنا والسياسيون يخون بعضهم بعضا..
وفي (الإنجيل) لا تدينوا كي لا تدانوا لأنه بالكيل الذي تكيلون به يكال لكم، ويا أيها المرائي لا تنظر القذى في عين أخيك وتنسى الخشبة التي في عينك، أخرج أولا الخشبة فمن عينك فترى جيدا، فتعين أخاك أن يخرج القذى من عينيه..
وحزب التحرير وحزب البعث والإخوان المسلمون من عملة واحدة مع فارق بسيط مثل الفرق بين ليرة سورية ودينار عراقي وجنيه مصري.. فالبعثيون قاموا بالثورة مع عصابات لانهاية لها من القوميين والناصرين والطائفيين، عام 1963م في يوم المحزنة الأعظم في 8 آذار المشئوم، ثم دارت الدورة فاستأصل البعثيون الناصرين في وضح النهار بإعدامات بالجملة والمفرق، بعد أن حاول الناصريون استئصال البعثيين بتآمر من سيد التآمر الحاكم بأمر الله الناصري في القاهرة، فكانا مثل سحب المسدسات في أفلام الكابوي وجاك سلايد، والقاتل هو السابق وكان المقتول من تأخر، والقاتل والمقتول في النار..
ثم عرفنا من (باتريك سيل) أن دوائر التآمر كانت مثل قشر البصل، كلما رفعت حزاما طالعك تحته قشرة جديدة، حتى نصل إلى اللب من حافظ الأسد وعصابته الخماسية، فالكل على الكل متآمر نهاب قتال عنيد..
ثم دارت الدورة المجنونة على نفس العصابة السرية، كما وصف القرآن أولئك الرهط من تسعة أشخاص، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فقضى حافظ الأسد على الرفاق من نفس (لب البصل) الطائفيين، لتنفرد سالفته بالحكم..
وهي قصة قديمة معروفة في (حكم الدم)، كما فعلت (كاترين ميدتشي) التي أفرد لها المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) فصلا في كتابه (قصة الحضارة) بهذا العنوان في مذبحة القديس برتولوميوس، فمع الكرسي لا يبق ضمير ولا طائفة ولا دينا ولا آخرة، فكبت وجوههم في النار كلما خبت زدناهم سعيرا...
وهكذا دخلت سوريا نفقا لا أحد يعرف نهايته أو يتكهن بمصيره، بعد أن خُتم على سوريا بختم من حديد المخابرات بدون إشعار آخر..
وحسب المؤرخ البريطاني (هـ. ج. ويلز) فإن من يقبض على الشعوب بيد من حديد يحول الشعوب إلى حديد.. فقط الوقت هو الذي ينبئك بالخبر اليقين.. ولا ينبئك مثل خبير..
ولو صار الأمر لحزب التحرير أو الإخوان لما تغيرت الصورة كثيرا، بفارق العباءة ولونها، هل سوداء بعثية، أم خضراء إخوانية؟؟ أم صفراء تحريرية؟؟..
وإذا كان السلفيون الجهاديون تقوم عقيدتهم على ثنائية البراء والولاء وتفجير العالم، فحزب التحرير تقوم عقيدته على ثنائية الصراع البريطاني الأمريكي، حتى لو تشاجر قطان في مزبلة فهما أمريكي وبريطاني، مع أن بريطانيا أصبحت في جيب أمريكا الصغير منذ الحرب العالمية الثانية.
وهذا يحكي قصة التجمد في وحدة الزمن والتوقف عند فكر المؤسسين..
و(تقي الدين النبهاني) و(حسن البنا) وهما مؤسسان متنافسان للسيطرة على الساحة السياسية في الشرق الأوسط، جاءا في عصر مختلف فأوجدا شيئا جيدا بعقل إبداعي، ولم يكونا شخصين عاديين، ولكن أتباعهما وقفوا عندهما فهم على آثارهم يهرعون..
ولو بعث (البنا) المصري و(النبهاني) المقدسي: وقالا يا جماعة إنني أتبرأ منكم ومما تعبدون من دون الله؟ لقال الأتباع: لنرجمنكم وليمسّنكم منا عذاب أليم؟؟
فهذه هي مأساة الأفكار والمؤسسين والأتباع، وهي تنطبق على كل الأفكار والدعوات والنبوات والمصلحين والفلاسفة والمفكرين العظماء..
وهو أمر يراه الإنسان في الآخرين ويظن أنه بمنجاة منه، ألا ساء ما يحكمون؟
وحين نجحت الثورة في إيران طار فريق من حزب التحرير إلى طهران، بهدف إقناع الخميني أن لا يطلق على دولته الجديدة لقب (جمهورية) بل (خلافة).
ونحن نعرف أن كل صنوف الاضطهاد والبطش قامت بها الخلافة الأموية والعباسية والمملوكية والكافورية الأخشيدية والحمدانية باسم الخلافة والخليفة القاهر لعباده..
ومن القرآن نتعلم أن الأسماء لا قيمة لها بل الحقائق..
وكل اسم منفصل عن الحقيقة ليس له سلطان منزل من لدن الحقيقة..
وحاليا إيران ليس جمهورية ولا خلافة، بل دولة ملالي، تبني أصناما نووية فتعبد ما تنحت، كما قال قوم موسى لموسى حين مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم، اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون...
إن هؤلاء متبّر ماهم فيهم وباطل ما كانوا يملون..
وأرسل لي أخ من شبابهم وقد اشتدت حماسته بقرب موعد قيام الخلافة الإسلامية، وهو أمر لو تحقق وجب على المرء أن يحزم حقائبه في أول طائرة للنجاة..
وحاليا ينتشر (حزب التحرير) بأشد من جراد أفريقيا في الشرق الأقصى، فيحتشد مائة ألف من الأتباع في جاكرتا في 12 أوجسن 2007م وهم يهتفون بالخلافة الإسلامية، كما يهتف جماعة (شهود يهوه) بعودة المسيح القريبة إلى الأرض، ويهتف (الشيعة) بأن الإمام الأثني عشر الذي غاب في السرداب قبل ألف سنة قد عجّل الله فرجه، وينشف دماغ (الآميش) في فيلادلفيا على أعناق الخيل وعربات الحنطور، ويعتنق 120 ألف من اليابانيين عقيدة (المورمون) لـ (جوردون هانكلي) في مشي للخلف قرنا ونصف، ويرتفع عدد الأتباع في عشرين سنة تسعة ملايين؟؟
روى لي (جودت سعيد) عن (عبد الكريم خوجة) من قيادي حزب التحرير أن سجن (الحسكة) ضمهم، وسوريا كلها حسكة كبيرة، في حسكة يغص بها حلق الشعب السوري.
قال كان إذا حدثهم من التاريخ قال له الخوجا: وماذا نستفيد من هؤلاء المؤرخين مثل توينبي وديورانت وويلز؟؟ وجودت يتأملهم كما يتأمل الجيولوجي غبار القمر منذ أربع مليارات سنة ونصف، أو عالم البيئة والأحياء الحيوانات المنقرضة..
حتى كان ذلك اليوم العجيب بعد مرور ثلاثين سنة، وقد انقلب الخوجا وكتب عن الحزب كتابا وهو يقول: ليس العجيب أن أكتب، ولكن العجيب كيف يمكن للدماغ أن ينغلق من جهاته الست؟؟
وإغلاق منافذ الفهم تحدث عنها القرآن أنها صفة الكافرين، وأن المؤمنين هم من فتحوا السمع والبصر لاستقبال موجات الكون..
رحم الله أبو محمد الذي مات بعد طول تعب ومطاردة، في حياة ليس فيها زرع وضرع.. عاش خائفا متنقلا ينظر في ظله ويظن أن الجاندرما والمخابرات وصلت، وعمل له أخوه في (خان عسل) في (حلب) مخبأ لا يصل إليه إنس ولا جان؟ ونقل الخوف لأفراد عائلته؛ فهو من جيل التيه والخوف.. والمحرقة..
إن ما ينتظرنا بعد الكارثة البعثية، موجات من ظلمات التعصب الديني على يد التحرير والإخوان والسلفيين والخلفيين والجهاديين والقاعديين والفقهاء والمفتين الميامين رضي الله عنهم.
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه
التعليقات