في 17 فبراير 1600 م دشن القرن السابع عشر بحريق كبير أضاء العقول في كل أوربا، حين ارتكبت الكنيسة أعظم حماقة لها، بحرق المفكر (جيوردانو برونو Giordano Brono) على قيد الحياة، فأسدت إلى الفكر الإنساني خير هداياه، أن الإيديولوجيات والفكر الحر لا يجتمعان، وأن الفكر له ناظمه الأخلاقي الخاص، وأن لا حدود لوثبته ومغامراته..
وأن حوار الأديان كذبة، وأن هتلر خطط لحرب الشيوعية، قبل أن يبدأ حرب أوربا، وبعد أن عقد اتفاقية التهام بولندا المشترك، كما ذكر في كتابه كفاحي أنه لا يمكن أن تتعايش الإيديولوجيات،
أحرق جيوردانو برونو من أجل كتابه في (العلة والغاية) عن كون لانهائي تسبح فيه مجرات لانهاية لها، وهو ما ما أعلن عنه علم الكوسمولوجيا بوجود مائة مليار مجرة. في كل مجرة مائة مليار نظام شمسي؟
قال جيوردانو برونو: كوكبنا السخيف هذا يأتي المسيح فيفدي نفسه فيه وله؟
وما ذا عن بقية الكون؟؟
الرجل أعلن عن رأيه، فكلفه غاليا، كما يكلف كل حر في كل زمان، وكلفني أنا أن خسرت وطني ربما إلى القبر، كما حصل مع أرسطو وفيكتور هوجو والأفغاني والبدوي ومثلهم كثير.
ولكنه أفادنا جدا عن مغامرات العقل الإنساني، بتعبير المفكر ذو الشعر الأشيب (وايتهد) في كتابه (مغامرات العقل البشري)..
ولأن القضية تنسف مفاصل فكرة مركب الأقانيم، التي اخترعتها الكنيسة عن ثلاث آلهة (في مجلس ديموقراطي جدا لتبادل الآراء عن خلق كل شيء؟) وهي عقدية سقيمة، لم تفلح الكنيسة في حلها إلا بطريقين: الحرب بفرضها علة العقل أو توديع العقل، كما صرحت بذلك لي راهبة في مدينة (زيلب Selb) الألمانية، وبناء ناطحة سحاب كهنوتية، من مصالح مالية بحجم ثلاث ديناصورات لاحمة..
كان حريق برونو الرائع في بناء ملحمة العقل، كما كان حريق هيروشيما رائعا في بناء عالم السلم والردع النووي، أن سادة الإجرام جلبوا وقود الشمس إلى الأرض بمائة مليون درجة، فخدموا العلم من حيث لايعلمون، كما هو في مشروع وكالة سيرن (CERN) الجديدة عن استحداث هذه النار تحت الأرض، في نفق يمتد بين فرنسا وسويسرا بطول 27 كم، لمعرفة بناء المادة وأصل الكون.
صحيح أنه لم يتورع سادة الإجرام عن استخدام هذا السلاح، ولكن كان كافيا لمرة واحدة، فردعهم العلم، وأبطلت القوة القوة، في جدل رائع عن عودة الإنسان إلى الإنسان بدون قوة، وهو منطق قصر عنه العالم السياسي، ويحتاج إلى وقت حتى يتم استيعابه..
وهو خبر جيد، وأكثر من رائع في تحقيق نغم النبوة القديم، في حلم إبراهيم الذي حاور الجبار عن حقيقة الموت والحياة ومصائر الناس ودورة الفلك، في الوقت الذي يرتجف الفقهاء في حضرة السلطان أن يتكلموا إلا مدحا للجبابرة سلاما سلاما..
دشن برونو منطق التعبير وفكر الحرية وحرية الفكر في أي اتجاه..
ومن أجل التعبير في وجه القوة أكثر من محتوى التعبير أحرق مثل فروج مشوي ببطء وهو يزعق!!
وهذا تأسيس معرفي مهم، وهو ما أعلنه الإسلام، كمنعطف مصيري في تاريخ الفكر الإنساني، عندما سمح لـ (المختلف) أن يبقى على قيد الحياة، فلم يؤسس لقتل الانسان من أجل مايعتقده، بل وشن القتال من أجل تحرير الإنسان من الفتنة، والفتنة أشد من القتل، وهي تحرير الإنسان ليعبر كما يشاء أينما كان ومهما دان، ولكن بين المسلمين وفهم القرآن مسافة سبع سنوات ضوئية؟
ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر...
ولا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي..
ويمكن للإنسان أن يؤمن ويكفر ثلاث مرات بدون أن يخسر رأسه مرة واحدة..
وعندنا يمكن للمرء أن يخسر رأسه بدون أن يعبر مرة واحدة، بتقرير سري، من جيوش المخبرين السريين..
إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم..
بدون أن تطير رؤوسهم، بل لهم الحرية الكاملة أن يؤمنوا أو يكفروا..
ثم يكرروا اللعبة بدون ملل..
إن الله اعتبر الكون مبنياً على التعددية، ومبرمجاً على الاختلاف..
ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة، فهو لذلك خلقهم..
ذلك أن صلاح الكون وجماله بالتنوع والتعددية، فهذا هو السر المخفي، في ولادة النظام من التعقيد، والوحدة من التنوع.
هذه الجدلية المحيرة بين الحرية والرأي، أي حرية الرأي، والرأي الحر، بل ورأي الحرية وفلسفتها، تتعانق في منظومة ثلاثية، في أكبر تحدي فكري اجتماعي، يبرمج أسلوب العيش المشترك، وطريقة التقاء النشاط الإنساني.
ولكن لماذا يشعر البعض بأن الرأي لا يجد حريته في التعبير، وبالمقابل يشعر البعض أن من الواجب تكميم الأفواه، ولجم بعض الآراء، وتطويقها ومنع انتشارها، وتسريبها ضمن أنفاق محكمة وأسلاك مطوقة، حماية لها ومنها، من انفجار الصواعق الكهربية، وقطع التيار الكهربي الاجتماعي؟!
هذه الجدلية المشعة والمعقدة والمحيرة بآن واحد بين الحرية والرأي، الحرية التي تريد لبس المعطف المناسب من الرأي، والرأي الذي يريد شق طريقه الى أرض الحرية، بوسيلة الحرية المنظمة وليس الفوضى، تحتاج الى تفكيك خاص، أعقد وأخطر بكثير من تفكيك الألغام الأرضية.

من يملك الحقيقة المطلقة؟
ليس كل رأي يصدق في قول الحقيقة، أو يرومها، أو يزعم قنص الحقيقة الحقيقية النهائية المطلقة، أو يحتكر الوصاية على الحقيقة، أو يخدم الحقيقة، وليس لجم كل رأي يخدم الفكر.
وإمكانية الإمساك بهذا التوازن الخفي والدقيق بين الكلمة، ومسؤولية نطقها، أو كتابتها وإذاعتها وتبليغها ونشرها، هي فلسفة الوجود والبقاء والحوار والنمو الاجتماعي.
وهذا المنطق هو الذي دفع برتراند راسل أن يقول حين سئل هل أنت مستعد أن تموت من أجل أفكارك؟ قال: لا.. لأنني قد أكون مخطئا؟!
فيموت هدرا (بدون مبرر)..

بين أن تأسر وتؤسر كلمة:
الكلمة كما قال الفيلسوف الصيني: ملك لك قبل أن تنطقها، فإذا نطقتها ملكتك هي، فلم يكن عبثاً أن امتلأ تراثنا بأمثلة من نوع: خير الكلام ما قل ودل، وأفضله بيانا لا الطويل الممل أو القصير المخل، وكثرة الكلام ينسي بعضه بعضا، ومن كثر كلامه كثر سقطه، وهل يُكبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟ فهذه آليات هامة للخطاب وتفكيكه.
ولبناء الجسر العقلاني كان لابد من تبني فكرتين جوهريتين:
ـ الحقيقة النسبية.
ـ وتعدد وجوه الأجوبة على الحقيقة، فمع إدراك نسبية الاقتراب والابتعاد عن الحقيقة، يتشكل تلقائياً خلق التعلم والحوار والنقد الذاتي والاعتراف بالآخر والتواضع، وفتح طريقة آدم: ربي إني ظلمت نفسي؛ بالاعتراف بإمكانية الوقوع في الخطأ والانحراف، فأعظم النفوس عندها الاستعداد لارتكاب أفظع الرذائل، استعدادها لأكبر الفضائل، كما قال الفيلسوف الفرنسي ديكارت في كتابه (المقال على المنهج)(1)
آليات التوازن النفسية الاجتماعية:
والحوار معناه تلقائياً الحفاظ على الآخر، والتكامل معه، من خلال آلية الصيانة الاجتماعية الذاتية، كما انتبه الى ذلك عالم النفس التحليلي (آدلر يونج) الذي أبصر بآليات التوازن تحكم الوجود بكل قطاعاته، والفيزيولوجيا تعدل أخلاط البدن؛ فتُعَدل القلوية بالحموضة وبالعكس، وانخفاض تدفق الدم الى الدماغ بالإغماء، في آلية ذكية لحماية المخ من الاحتشاء، فالسقوط الى الأرض يوازن مستوى القلب مع الدماغ وتدفق الدم المضمون، والنفس تقع في العصاب عندما تميل الى تشكيل النموذج الأحادي بين (الانطواء) و (الانبساط) بين الانفكاك عن الواقع في الأول، والانفصال عن الداخل في الثاني، وتقوم آليات النفس الذاتية بتصحيح المسار، وتمرض الحضارات أيضاً بالانكفاء أحادي الرؤية، كما ذهب الى ذلك (يونج) في تحليله مرض الحضارة الغربية، عندما راهنت على الرفاهية المادية مقدمة على حساب الصحة النفسية(2)
ونريد بسرعة أن نشير إلى أنها قوة غير عادية للحضارة الغربية، عندما تقوم خلاياها الداخلية، الممثلة بعلماء النفس والاجتماع من داخلها في انتقادها وتحليلها، فهي ليست حضارة مادية كما يزعم البعض، ليرتاحوا من خلال قصة حصرم الثعلب لتعويض مركب النقص، أو أنها ركبت من كرتون كما يتصور آخرون، فكل حضارة تقوم وتعيش على مجموعة من القيم، ولا تخرج أو تشذ الحضارة الغربية اليوم عن هذا القانون، كما أننا لسنا في وضع حضارة كما يتصور البعض من خلال طرح النقيضين؛ أننا في حضارة روحية، والغرب في حالة حضارة مادية؟! بل نحن كما وصفها المفكر الجزائري (مالك بن نبي) حالة فوضى!(3)
وهو تصور مغلوط على الجانبين، فلا حضارة الغرب مادية، كما لا نملك نحن حضارة روحية تحلق في السماء وتهوم على أجنحة الملائكة، فنحن بالأصح اليوم خارج إطار الحضارة، قد ودعناها منذ قرون مع أسطر ابن خلدون الأخيرة، كما في مثل القطار الذي تعرض لحادث؟
نحن نعيش حالة قطار تعرض لحادث تاريخي؛ فارتمى خارج القضبان، وتعرض ركابه لكارثة مروعة تاريخية؛ فهم الآن بدئوا يستوعبون حجم الإصابة وهولها، كما أن القطار لم يركب بعد على قضبانه ويسـتأنف مسيرته.
بل إن البعض يذهب الى درجة أن الأمة هي في حالة سرطان مدنف لا فائدة ترجى من أي علاج، بما فيها كل مقالاتنا التحليلية التي نكتبها، وهي صورة كئيبة سوداء مأساوية تدعو الى اليأس، ويمضي البعض أكثر من هذا، عندما يفترضون أنها قد ماتت وشبعت موتا، كما صرح لي بذلك كاتب مرموق(4).
آلية التوازن التي أشار إليها المحلل النفسي (يونج) تنطبق أيضاً على الحوار الاجتماعي والتوازن فيه، وآليات التعديل بين الكلمة ونطقها والحوار وشروطه، فالحموضة في الجسم لا تلغي القلوية بل تعدلها، وهي تزيد من الحموضة في الأماكن التي تكثر فيها الجراثيم، كما في المعدة المستقبل الأول للطعام، والمهبل عند المرأة الفوهة المباشرة بعد الوسط الخارجي، في حين تمتعت الأمعاء والرحم بعدها بالقلوية..
كذلك كانت آليات الحوار والخطاب، يعني بالتعديل وليس الإلغاء، وعندما تنطلق الحركة ليس الى التعديل؛ بل همها الأكبر الإلغاء فإنها تلغي نفسها، وتنتهي رحلتها قبل أن تبدأها، وهي حكمة أدق من دبيب النمل على صفاة سوداء في الليل البهيم، وهي الحكمة القريبة المحجوبة التي لا يتفطن لها الآحاد بتعبير ابن خلدون (5) أو دعنا نتفاءل أن هذا السر قد يفتح الله غطاءه أمام العشرات من الخليقة.

مراجع وهوامش:
(1) أو المنهج لإحكام قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم ـ رينيه ديكارت ـ نشر وترجمة فواز الملاح ومحمود الصالح ص 22 (2) كتاب العبقرية (تاريخ الفكرة) تأليف بنيلوبي مري ـ ترجمة محمد عبد الواحد محمد ـ سلسلة عالم المعرفة رقم 208 الفصل 12 ـ يراجع البحث الممتع ـ الذي كتبه انتوني ستور عن العبقرية والتحليل النفسي ص 312 (3) يراجع في هذا كتاب وجهة العالم الإسلامي لمالك بن نبي فصل (فوضى العالم الإسلامي! يقول في كتابع ص 69 نشر دار الفكر ترجمة عبد الصبور شاهين: والعالم الإسلامي اليوم خليط من بقايا موروثة من عصر ما بعد الموحدين، وأجلاب ثقافية حديثة جاء بها تيار الإصلاح، وتيار الحركة الحديثة، وهو خليط لم يصدر عن توجيه واع، أو تخطيط علمي، وإنما هو مجموعة من رواسب قديمة، لم تصف من طابع القدم، ومستحدثات لم تتم تنقيتها، وهذا التلفيق لعناصر من عصور مختلفة، ومن ثقافات متباينة، دون أدنى رابط طبيعي أو منطقي يربط بينها، قد أنتج عالما رأسه في عام 2008م وقدماه في عام 1429هـ اهـ الاقتباس مع الانتباه لتغيير أرقام السنوات الأخيرة؛ فقد كتب ماكتب في وقت سابق ومبكر!! (4) الفاضل والكاتب الأريب ماجد عرسان كيلاني ويذهب الفيلسوف السعودي إبراهيم البليهي في طرحه شوطا بعيدا، عن فكرة (تأسيس علم الجهل!) وأن كلمة نحن متخلفون فيها كرامة كبيرة لنا لأننا لم نبدأ حتى نتخلف؟ (5) ابن خلدون في مقدمته وهو يصف حالة الخمس أشهر التي قضاها في قلعة عريف ففتح الله أمام ذهنه منهج علم الاجتماع وفهم آلية عمله..