لماذا لا يجد الرأي أحياناً طريقه الى الحرية؟
ولماذا تنحبس بعض الآراء في طريقها الى التعبير عن نفسها؟ هل لأنها تلجم بفعل خارجي؟ أم لأنه تمارس الانتحار الداخلي؟ أم لأنها تحمل مقتلها الذاتي فلا تخرج الى التعبير؟ لأنه ليس هناك ما يستحق التعبير عنه، بعجز داخلي، أو اختناق في المعنى، أو كساح في الاتصال، أو مخاطر الأذية للآخرين؟zwj;!
يتذمر الكثير أن الرأي لا يجد طريقه الى حرية التعبير، وهو قول يصدق فيه بعض الحقيقة، ولا يحمل في بطنه الحقيقة وكل الحقيقة؛ فليس كل تعبير تنقصه الحرية أو يحتاج للحرية، فأن تقول: أريد أن اشتري خبزا، أو أنجز عملاً بجدية ودقة وأمانة لا يحتاج لإذن سفر أو تأشيرة خروج؛ لأن مفتاح السر هو في الكلمة وجدليتها الخاصة وحركة المعنى في أحشائها، والكلمة بدورها في أصلها وبحد ذاتها بريئة؛ لأنها لفظ ميت وتصويت بدون مدلول، واللفظ لا يشع بالمعنى، بل يعكس المعنى، فالمعنى شمس يتألق في ملكوت الفكر، واللفظ قمر يستقبل المعنى ويتجسد في تابوت البيولوجيا، بين الحنجرة والحلق والأضراس؛ فنحن الذين نشحن تضاعيف اللفظ بالمعنى.

جدلية اللفظ والمعنى عند أبي حامد الغزالي:
اعتبر الفيلسوف أبو حامد الغزالي كما جاء في كتابه (المستصفى من الأصول ـ المجلد الثاني ص 21): أن من أراد توليد المعاني من الألفاظ فقد ضاع وهلك وكان مثله كمن يريد التوجه الى المغرب فيوليه ظهره متجهاً الى المشرق، ومن قرر المعاني أولاً ثم أتبع المعاني الألفاظ، أي بعد أن تولدت الفكرة في ملكوت الذهن، تعمد آلة التصويت والقلم في تشكيلها اللفظي والكتابي.

نظرية ابن خلدون في اللفظ والمعنى؟
وانتبه ابن خلدون في مقدمته الى هذه المشكلة الخطيرة، كما جاء في (المقدمة ـ الفصل التاسع والعشرون ـ في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته ص 533 والفقرة من ص 535 و 536) عند تعرضه لبناء الأسلوب التربوي التعليمي على ثلاث مراحل، وهي من أبدع كتاباته الفكرية؛ فنصح بالاحتماء الى فضاء الفكر عند السقوط في حجب الألفاظ، مثل سقوط الفريسة في نسيج العنكبوت، في شغب الجدال وحمى المناقشات المتوترة الصوتية، عندما يتوقف العقل عن العمل، وتبدأ ثخانة الحبال الصوتية وعمق طبقة الصوت، في تنزيل الحجج وتأكيد البراهين!!
المعنى هو الذي يسعى لارتداء قميصه من اللفظ أو الكتابة، فلا وجود للمعنى بدون تجسد من قميص خارجي، ولكن المعنى هو الروح الدينامكية الداخلية، واللفظ هو الجسد الخارجي بكل ملابساته، فهذه هي جدلية اللفظ والمعنى، وإشكالية اللغة والواقع.
جاء في المقدمة عن حقيقة جوهرية في التعلم عن العلاقة الجدلية بين اللفظ والمعنى:
(معرفة الألفاظ ودلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب؛ فلابد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها الى الفكر في مطلوبك؛ فأولاً دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المعقولة وهي أخفها، ثم دلالة الألفاظ المعقولة على المعاني المطلوبة، ثم القوانين في ترتيب المعاني... ثم تلك المعاني مجردة في الفكر.. وليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة، ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة، بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات، أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات، وقعد عن تحصيل المطلوب ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليل ممن هداه الله، فإذا ابتليت بمثل ذلك، وعرض لك ارتباك في فهمك، أو تشغيب بالشبهات في ذهنك، فاطرح ذلك، وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات، واترك الصناعي جملة واخلص الى فضاء الفكر الطبيعي، الذي فطرت عليه، وسرح نظرك فيه للغوص على مرامك منه... فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك... وحينئذ فارجع به الى القوالب وصورها؛ فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي، ثم اكسه صور الألفاظ، وأبرزه الى عالم الخطاب والمشافهة، وثيق العرى صحيح البنيان)

الأفكار الميتة والقاتلة عند مالك بن نبي:
ليس كل تعبير أو رأي أو فكرة يخدم الحرية، فهناك من الأفكار الميت والقاتل، كما انتبه الى ذلك المفكر الجزائري (مالك بن نبي) وأورده في كتابه (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) ترجمة محمد عبد العظيم علي ـ نشر دار الفكر ص 197، ويرى مالك أن الأفكار الميتة نتيجة تركة ثقافية لم تصف، والقاتلة نتيجة تقليد أعمى.
الميت الذي فاحت رائحته بعد أن شبعت الجيفة موتاً. والقاتل الذي يتحرك بآراء تفوح بالغدر والتآمر وعدم الثقة والعنف، وجرت العادة أن أهل كل بلدة لهم مقبرة يودعون فيها الجثث الميتة احتراماً لها وللناس؛ فأفضل ستر للجثة هجوعها تحت التراب، ولكن الكثير من آراءنا تموت فلا تودع الى المقابر، بل تترك تفوح منها رائحة الموت المؤذي، وتبقى جثثاً تتكئ على المنسأة، حتى تأتي دابة الأرض التاريخية، فتأكل منها؛ فتسقط الجثة ؛ فيكون لسقوطها دوي عظيم.
ليس كل تعبير أو رأي يدفع بالحيوية في مفاصل الحرية؛ فهناك من الآراء ما يغتال الحرية.
مع هذا يجب أن نحافظ على الرأي الخطر ونمنع فعله، في جدلية حرية الآراء وفرملة الأفعال الضارة، وإن كان الرأي بذاته فعلاً من نوع خاص.
بالحفاظ على الفكر ومنحه نسمة الحياة قد نعدِّله إن كان ضاراً، أو نستفيد منه إن كان جيداً، ومن يدري قد يكون فيه كل الخير، لأن الانسان عدو ما يجهل!!

جدلية الاختلاف والتعبير في فلسفة فولتير:
دشن فولتير عصر التنوير بقولته المشهورة في جدال المختلفين، كما جاء في قصة الفلسفة ـ تأليف ويل ديورانت ـ ترجمة محمد المشعشع ـ فصل فولتير):
مع كل اختلافي وتناقضي معك في الرأي فأنا مستعد أن أموت ليس من أجل رأيك، ولو كنت اعتقد سخفه، ولكن من أجل تمكينك من التعبير عن رأيك، وهي المقولة التي تفاخر بها (الكسندر هيج) الجنرال الأمريكي رئيس حلف الناتو السابق، عند جدار برلين قبل سقوطه المدوي، في تعبير تاريخي أن خنق الأفكار مهما طال، فهو كالماء اللين العنيد، سيجد له في النهاية طريقاً للتعبير والانبجاس وشق الصخر القاسي، وإن من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء.

حريق برونو من أجل حرية التعبير؟
دشنت افتتاحية القرن السابع عشر بنار عمت الأفق، بحرق المفكر الإيطالي (جيوردانو برونو) على نار هادئة، وتم حرق المفكر برونو وعمره 52 سنة في 17 فبراير من عام 1600 م في ساحة عامة في روما بسبب آراءه التي ترى الكون مثلاً أكبر من مجرتنا في امتداد لانهائي. أُحرق بأمر من محاكم التفتيش واليوم أقيم تمثال لحرية الفكر في مكان حرقه بعد قرون يراجع في هذا المصدر الألماني (كرونيك DER MENSCHHEIT CHRONIK) عن تاريخ الإنسانية ص 454، تعبيراً عن الشهادة لحرية الفكر أكثر من الفكر بذاته، كما ذكر ذلك المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) فلم يكن خلف برونو مدرسة فكرية، أو منظومة معرفية متكاملة، أو اختراق معرفي مزلزل من نوع فلك كوبرنيكوس، أو بيولوجيا دارون، أو ميكانيكا غاليلو، أو رياضيات ديكارت، أو فلسفة ايمانويل كانط، أو فلسفة التاريخ وقانون التناقض الفلسفي عند هيجل.