quot;المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف quot; هل ينطبق هذا الحديث الشريف على أصحاب الدولة، وممتهني السلطة، وصنّاع القرار، وهم يمارسون، تقواهم في بناء الوطن الذي يليق بالأسرة المتحكّمة، ويعززون استقراره لمرضاة أمزجتهم بقبضة من حديد القمع؟ يحتكرون القوّة لضمان هيبتهم، يبطشون كما يحلو لهم البطش لاستكمال المشهد، ورسم ملامح المرحلة القادمة، كما الحاضرة، كما الآفلة بحبر حالكٍ معتّقٍ في ظلمٍ دامسٍ وظلام بهيم!.
يقول تعالى: {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران: آية 139rlm;
ولاشكّ أنّ الحكّام العرب قد أصبحوا من المتعالين إن لم يكونوا quot;الأعلون quot; فهم المؤمنون جدا، بقناعاتهم، وأنفسهم، وإرادتهم، ومَلُكاتهم، وإمكاناتهم، وصلاحياتهم، وشؤونهم، ومصالحهم، وأهدافهم، وغاياتهم، ورغباتهم، ونزواتهم الملحّة، ولو لم يكن لديهم الإيمان الكامل بما تيسّر لهم من نفوذٍ أنّ الأرض ومن عليها، مِلْكَ يمينهم وطوع بنانهم ورهن إشارتهم وتحت أمرهم وإِمْرتهم، فهل كان بوسعهم أن يستمروا لعقودٍ من الزمن لا تنتهي ولا تلين ولا تستكين، يستعبدون فيها الناس بعدما عجزت أمّهاتهم عن ولادتهم أحراراً؟. وأيّة حريّة يُمكن أن تضاهي إرادة الفئة القليلة التي غلبتِ الفئة الكثيرة بإذن المال والسطوة والجور والجبروت والقهر والطغيان، إنّها القوّة مفهوم يعلو ولا يُعلى عليه، ويغلب ولا غالب له، مبرر باسم الحقّ، وشائع حسب الأولوية والفهلوية والمحسوبية والعربدة المزمنة.
السيادة إذاً قوّة والعاملون بها ثلّة من الأقوياء، فهل هم الأخيار الذين اصطفاهم الله دون سواهم من الرعيّة البسطاء ليبسطوا نفوذهم عليهم بلا تردد، ويواصلون فوقيّتهم بلا هوادة؟ وهل بوسع الضعيف الذي لا حول له ولا قوّة، عندما تشير كل الأصابع الذاتيّة الضمنية إلى ضعفه، أن يوجّه عنايته للقويّ ويواجه الصلْف بالسؤال؟ وأيّ سؤال يصلح للردع، عندما يتمادى مالك الإجابة في غطرسته، وغيّه، وغروره؟
يقول تعالى أيضا: {وكلا فضّلنا عن العالمين }quot;سورة الأنعام: آية 86
هكذا يتعرّفون كتاب الله يجتزئون منه دستورهم إلى الطغيان، ليبررّوا لأفعالهم ما لا يُبرر، و ينتحلوا المعنى الذي يريدون، ويصطفوا الكلام الذي يشاءون، يؤوّلون حسب ظنونهم الآثمة كافة الـتأويل، ويفسرون التفسير بعد التفسير كما يزعمون ويدّعون.
فهل وحدهم حقّا أصحاب السيادة والسعادة والمعالي هم الذين قد توارثوا ظهور الرعية ليمتطوها بسلام، ويدخلوا على متنها إلى أمجادهم آمنين مظفّرين، مكللين بالغنائم والثروات من خير البلاد والعباد دون حسيبٍ أو رقيبٍ؟
أمّ أنّ عِمْلَةَ الضمائر المستورة والمُلتبسة مزدوجة الوجه ومتعددة التسويق، فليس الحاكم وحده ربّ المصير الذي يقدّره ويقرّه للقطيع، بل هناك الزعامة الرديفة، والزعامة الحليفة، والزعامة الخصم، التي يبتدعها الدُهاة ويُساق إليها الأتباع سَوْق النِعاج بحواسٍّ مبتورة، ووعيٍ مخصيّ، وإرادة عقيم.
وهكذا يتلاشى البصيص رويدا رويدا، ويتضاءل الحلم حتى الغياب، وتضيق مساحة التعبير حدّ الاختناق، حين تتساوى السعادة بالعبوديّة، والكرامة بالتبعية، والكبرياء بالعدم.
هل صار إنساننا على وشك الانهيار، أم أنّ الانهيار قد تمّت عمليته بنجاح جرف معه صحونا ويقظتنا وفطنتنا وبديهيّتنا التي لم ندرك معه في أيّ درك صرنا، وإلى أين سيكون المآل.
هل نواصل تخبّطنا كالناقة العمشاء بعشوائيّة باهظة، نكمم أبصارنا وأفواهنا بإحكام، لا نعلم كيف ننهض منه لننتفض على بلوانا، ونخرج عن قانون مشيئة الترويض في هذا السيرك الذي طالت فيه مدّة العرض المملّ للمُتسيّدين، واستعراض القوّة التي لا تُقهر إلا بإيعاز خارجيّ وقرار دولي يقهر السلطة بالمتسلطين، ويحدّ صلاحية المُسْتَصْلَحين بأمر آجلٍ مرّة عاجلٍ أخرى من المُسْتَصْلِحين. فهل مالك الأمر هو مالك الأمر الذي نجلّ جلاله ونرضى خصاله بصفته باعث القوّة الواحد الأحد الرشيد الصمد، أم أنّ الأرصدة جمعاء قد جُيّرت إلى أولياء النعمة الممولين الواعظين المسوغين مرّة ليظلّوا الممانعين مراتٍ ومرّات؟!.
هل تجدي الكلمة نفعا ووقعا في زمنّ الأميّة والجهل والحياد والإسفاف والجهاد الخاوي من كُنْه الجهاد؟
قطعا ثمّة صوت مضمر للكلمة، وقطعا لا يسمعه إلا من كان حيّا، وقطعا يلزمني أن أصدّق أننا لا زلنا أحياءً بين الأحياء.