لا شكّ أننا قد نشأنا في حاضنات ثقافية محدودة الأبعاد والمعالم، لهذا أصِبْنا بنقصٍ في حواس المعرفة، أدى إلى ظهور إعاقة ذهنية مزمنة وواضحة تجلّت وما تزال في العديد من المؤشرات الثقافية الحيّة ، إذ أنه لم يكن من الجائز فيما مضى تلمّس المجرّد للتأكد أو التوثيق في أيّ حال من الأحوال، أو حتى تجريد الملموس إمعانا في تطوير الممكن أو إسهاما في نفيه تحت أي ذريعة أو طائلة أو غاية تُذكر، فالمسلمات هي المُسلّمات، والبديهيات هي البديهيات، وليس أمامنا من اجتهاد سوى الاغتراف بنهم من مشارب الأولين على اختلاف تصوراتهم ورؤاهم وقناعاتهم ثابتة كانت أو متحوّلة، محقّة كانت أم مُتحاملة، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، لكنها وحتى يومنا هذا الذي خرج من رحم القرن العشرين ليدخل في عنق زجاجة القرن الواحد والعشرين الذي يختلف اختلافا كلّيا في الشكل، لكنه يتشابه حدّ التطابق في المضمون لاحتفاظه بكامل إشكالاته التي لم يرتق الفكر العربي على تقديم أي حلّ جذري في غمرة كل الاشتغالات والدراسات والبحوث التي قُدّمت ولا تزال، ورغم كافة المحاولات التي لا تكفّ السعي من أجل التغيير الجذري إذا استثنينا فكرة الإصلاح الذي يحتاج إلى ما كان يُسمى في زمن الخلق بالمعجزات إذ أنّ الواقع بجميع حيثياته ومعطياته ظلّ يراوح بلا جدوى مراوحة تتلخّص في عدّة مواضيع شائكة تتمحوّر حولها معظم التحدّيات الثقافية، والتي دخلت مرحلة جديدة من
مراحل الصراع quot;التنظيري quot; المتُلازم والمُتزامن مع انحراف العصر عن مسارات كثيرة لم تعد أسيرة سياقاتها المألوفة، كالحديث في الدين أو الخوض في السياسية أو الاستطراد في الجنس، ولعلّ أبرز ما نعانيه من قصور ذهني هو انعدام القدرة على الحوار على اختلاف أسسه وقواعده وأهدافه وارتكازاته، إذ أنّ معظم مباني الحوار الناشئة أو الأصيلة التي تُبنى تِباعا على ناصية أي صعيد كان، هي مبانٍ هشّة آيلة في معظمها إن يكن في مجملها إلى السقوط، وثمّة سؤال لا بدّ منه تأخر زمنا لا يُستهان به كي يجد منصّة للعرض، الصراع العربي ndash; الإسرائيلي إلى متى؟ وإلى أين ؟ وكيف؟.
ربما أنّ فكرة الصراع العربي ndash; الإسرائيلي كانت تتناقل بالتواتر والتداول والتوريث قطعا لفكرة الصراع نفسه، بغضّ النظر عن فكرة المصير، فالفيتناميين انتصروا في حروبهم من أجل المصير لا من أجل الصراع بتمييز دور الغالب من المغلوب، والكوبيين احتفظوا باستقلالهم لمحافظتهم على زمام الإرادة والقرار، في حين أن الصراع
في العالم العربي لا يزال مفتوحا على المجهول، بتشرذم القرارات العربية وتشتيت الإرادة القومية، التي أجهضت العزيمة الوطنية، بفعل الخيبات المتلاحقة، فلم تعد الأصوات العروبية مهما جلجلت قادرة على استقطاب الجماهير quot;الغفورة quot; التي أرهقها الترقّب وأمضّها الانتظار.
أقرأ نصّا للروائي المعروف quot;إلياس خوري quot; لوهلة أولى،الأحرى لذاكرة استباقيّة شاخصة يتعثّر فيها تمرير النص بسلام، مما يحفّزني لأن أتفرّس السطور بحذر شديد وبعض الدهشة، وهو يتحدّث عن quot;إيلان بايّه quot; وغيره من quot;الإسرائيليين quot; بكثير من العاديّة كمن يتحدث عن زميل دراسة ورفيق درب، فيتضح أنّ الحذر لا يُمكن أن يصبح قانونا من قوانين الوقاية حين يعتمد اعتمادا رجعيا على السلفية الذهنية، وربما نلمس ولا أغالي من صميم النص وكل ما فيه من مسرود كتابي نحتاج لكثير من التأني والحيادية لقراءته مرّة تليها أخرى وخاصّة عندما تكون المفاتحة السردية على هذا المنوال:quot; التقيت ايلان پاپه وافي شلايم ورشيد الخالدي والروائي والشاعر الإسرائيلي اسحق لاور. كانت أياما ساحرة، حيث كنا نمضي النهار بالتمتع بتدريبات الاوركسترا، والتفرج على قائدها المدهش وهو يحرك بعصاه نبضات قلوبنا، ثم ننصرف في المساء الى مناقشات جمعت السياسة الى التاريخ والادب.quot;
لم يوارب إلياس خوري فيما أراد أن يقول، ولم يفتعل حوارا مع إيلان بايّه لتوثيق علاقته مع أصدقاء الغد.. واليسار المجيد، بل كان منقبّا صادقا عن الحقيقة، تلك الحقيقة التي طُمست ملامحها لدى الجانب الفلسطيني، فساءه أنّ المجازر قد ارتكبت ولم تجد من ينصف تاريخها عبر أجيال المقاومة والسلاح، لكنه وبحوار جاد ونقاش عميق وهادىء أثمر حقيقة حيّة مدوّنة لا كغيره من النقاشات العقيمة، فقد استطاع أن يدوّن ما هو أبعد من الحوار، وأبعد من القارىء، استطاع إلياس خوري أن يدوّن اعترافا شخصيا من إيلان بايّه الذي عرف كيف يتصالح مع ماضيه بإماطة النقاب عنه، فحوّل إلياس خوري الحوار بذلك إلى وثيقة تاريخية لأكثر من قارىء بل لأجيال من القراء على امتداد التاريخ، وهو يسجّل قول إيلان:quot; صُدمت بالطريقة التي عامل بها الإسرائيليون الأسرى. بعد نهاية الحرب انضممت الى حزب مبام، أي صرت صهيونيا يساريا. عام 1978 قررت متابعة دراستي في جامعة أوكسفورد والعمل مع ألبرت حوراني، ومن خلال هذا العمل التقيت بالكثير من المثقفين العرب. بدأت اكتشف الحقيقة من خلال قراءة الوثائق الإسرائيلية. ما صدمني في هذه الوثائق كان الحقيقة الواضحة التي تقول بأن قسما من الفلسطينيين على الأقل طردوا من بلادهم. وكان عملي مع مؤرخين إسرائيليين آخرين، من بينهم موسى أولمرت، شقيق رئيس الوزراء الحالي إيهود أولمرت، مناسبة كي أفهم أنهم رأوا في ذلك دفاعا عن النفس. اكتشاف المجازر والطرد هزّ عالميquot;، تكفي تلك الجملة الأخيرة لاجتزائها من السياق والإقفال عليها بنقطة كبيرة كي نقول أن إلياس خوري قد أبدع معادلة جديدة مُحققة بشرف، فهو لم يَعْمَدْ إلى الصخب في الكلام، والضجيج في الخطاب، بل أوجد الخلاصة التي تختزل كل ما يُمكن أن يُقال بإيجاز ودلالةquot; اكتشاف المجازر والطرد هزّ عالمي quot;، أتداول الوارد هنا مع صديقي الوقور، يحتدّ بضراوة، إذ يعتبرني متحوّلة من متحولات الثقافة البراغماتية، أجزم بل أقسم لو أني لمست هذه الغاية النبيلة في وسيلة الطرح الذي اعتمدته quot;فدوى طوقان quot; في تدوين مذكراتها quot;الرحلة الأصعب quot;التي اعتبرها الكثير من النقاد والمغالطين أنّ مذكرات طوقان الشخصية هي بمثابة وثيقة للأجيال القادمة، لما كان بوسعي أن أتطاول بكتابة سطر واحد من سطور كتابي quot;إسرائيليات بأقلام عربية quot;.
لعلّ إلياس خوري لم يشأ التشويش والشوشرة على سورية مثلا التي تسير على رؤوس الأصابع قدما نحو التفاوض مع إسرائيل على منصّة المسرح التركي بقفازات من حرير وأقنعة من صبر، لكنه وبطريقة مُهذبة ومُبتكرة استعاد الذاكرة الفلسطينية، بإدانة العدو باعتراف علني من أبناء جلدتهم وإن اختلفت الخطوة.
لقد أضعنا الكثير من الوقت لعزل وتغييب إسرائيل عن تأكيدنا كواقع قائم موجود ومستبد، وأضعنا الكثير من الجهد لتصديق أنفسنا وتكذيب ما نراه،
ويبدو فيما يبدو أنه آن الأوان أن نترجّل عن رأسنا الذي رَكبِّناه طويلا، والذي يُراد لنا أن نواصل ركوبه بحماقة بالغة، ريثما يتركّب المشهد القادم ويؤذن لنا في حينه أن نصفح ونصافح، ونقلب الصفحة التي لطالما كنّا على متنها نعاند ونكافح، يا للصحو الذي ينبّهنا إلى أننا كنّا تحت وطأة أضغاث مواقف، وأضغاث شعارات، وأضغاث هواجس منسية.
www.geocities.com/ghada_samman
[email protected]
التعليقات