لعل قراءة الواقع اللبناني الميداني المتداخل لغة وتعبيرا وإنشاء وتحليلا وأحداثا جساما، بكل ما فيها من عبثٍ ولُبْسٍ وتجارب وجنوح ومغامرات قد صارت على قَدْرٍ من الصعوبة والاستحالة والإفاضة العصية على الفهم والاستيعاب لدرجة لا يليق معها غير الصمت على غرار موقف الشيخ سعد الحريري مما جرى من تخريب وترهيب وحرق وتدمير لإرث أبيه الكبير الذي غرس بذرة العلم والمعرفة والنور عبر مؤسساتٍ إعلامية وتربوية وخيرية واجتماعية. لا مبرر للعنف الرادع الذي استخدم لاقتلاعها ميدانيا على الإطلاق غير الغلّ الذي طال حتى أسوار منزله الكائن في منطقة quot;قريطم quot; تلك المنطقة التي لطالما تجولنا بها بكامل الحرية والتلقائية و السذاجة أحيانا، فلم نعرف منها ولم نجد فيها سوى منطقة حضارية آمنة، تعمّ بالرقيّ منذ ازدهت بالراحل الكبير رفيق الحريري الذي آمن بالديموقراطية ونبذ منطق الحرب رحمه الله وأكرم مثواه رغم أنف القتلة الذين أرادوا الانتقام منه وقد نسوا المنتقم الجبّار الذي يمهل ولا يهمل مهما قصر الزمن أو طال، وإذا كان لا بدّ من كلمة حق فأذكر فيما أذكر أنني وذات عبور في المنطقة المذكورة أواخر العام 2004كنت أقود سيارتي quot;المهترئة quot; التي لا تزال تواكبني بإخلاص حتى اليوم منذ العام 1992، وقتها لفتني موكب فاخر يتقدّم بثقة بالغة مؤلّف من ثلاثة سيارات quot;رانج أسود quot; وربما أكثر يتوسطها سيارة /مارسيدس / سوداء بمنتهى الأناقة المُستفزّة، استبدت بي رغبة التحدّي وحاولت قطع الموكب بمواصلة طريقي بقليل من المشاكسة وكثير من الإصرار، وأنا أجهل كلّ الجهل من هم داخل هذه الكوكبة من السيارات غير عابئة بمن يكونون بل وأيّا يكونون، فقط كانت غرائزية مهارتي في القيادة تسوّل لي أني على قدْر كبير من الثقة التي تضاهي كل الواثقين الذين يمتطون خيلائهم ويزدرون ربما بساطة سيارتي المُتعبة وبدأت إعلان مواجهتي دفاعا مشروعا لإنصاف كرامة سيارتي وحفظ ماء quot;راديراتيرها quot; فلم أتنحَ ولم أفسح المجال ولم ألبِ الإيعاز المطلوب، بل غاليت قليلا بالتمادي في تقدّم الموكب حينها، وإذا بيد حاسمة تهدّأ من حميّة الأذرع الممتدّة الأخرى تطلّ من سيارة المرسيدس وتتقدّم الموكب المرافق وتحاذيني، التفتُّ يسارا وإذا بي وجها لوجه وعلى بعد سنتيمترات من السيّد quot; السيّد quot; في الحضور والابتسام واللباقة والرقي والتواضع والإنسانية، يعتذر من مغالاة السيارات الأخرى في إزاحتي ويؤكّد إكباره واحترامه لجرأتي، وأنا في غمرة هذا كله أنظر بمنتهى الذهول لأطلق العنان لدهشتي وأقول بكلّ عفوية وبلهجة تفصيليّة خالية من المقدمات والألقابquot; رفيق الحريري شخصيّا quot; ، أجاب وبكامل التواضع وإلى جانبه يومها رفيقة دربه السيدة نازك وبكل ما فيها من إشراق وأناقة التي أومأتُ إليها بابتسامة عابرة لتردّ إلي بابتسامة أكرم منها وقد أصابني مسّ من الحماسة فأغدقت بأسئلتي وتعليقاتي ورغبني المباشرة وقتها في تقديم إصداري quot;إسرائيليات بأقلام عربية quot; فما كان منه غير الترحيب واللهفة قائلا اتصلي ب quot;يحيى العرب quot; ودوّنت الاسم مباشرة على قصاصة متآكلة وضعتها على quot;تابلو quot; السيارة، بعد تلويح الوداع للسيّد quot;السيّد quot; نظرت للقصاصة التي أودعتها الاسم وقرأته بكل ما أوتيت من الشك quot;يَحيى العرب quot; بفتح الياء ؟؟؟!
وقتها ظننت أنني تلقيت تعليقا مختصرا كرّدٍ ساخرٍ على تسمية إصداري لا أكثر، وكنت كل مرة ألج سيارتي فيها أتذكر تلك الصدفة الاستثنائية وأنظر بغرابة وشك إلى الاسم وأقرأه بذات الطريقة بفتح الياء quot;يَحيى العرب quot;؟!، وبعد أكثر من شهرين أسررتُ لأحد الأصدقاء الخلّص الذين ينقرضون تِباعا، بما حصل وتركته يقرأ الاسم كما هو مدوّن فقال جازما: quot;يحيى العرب quot; هو الأقرب إلى الرئيس الحريري لم لا تتواصلي معه؟!
تأكدت وقتها من الاسم وكعادتي أؤجل وأماطل وأتشاغل عن كل ما له علاقة بمصالحي ومرّت الأيام حتى صعقنا باستشهاد الإنسان الإنسان، السيّد حضورا، والكبير وقعا، والعزيز مقاما، والعظيم ذكرى رفيق الحريري، ولم أزل أحتفظ بتلك القصاصة على تابلو السيارة مكتوب عليها اسم الشهيد يحيى العرب، ذاك كان الحريري السيّد بالعطاء والسيّد بالإنسانية والسيّد بالتواضع الذي لم يتلطّ خلف المدججين والمشاكسين والأقنعة، ولو أنه كان اليوم بيننا فلن أفكر في الاتصال به لغاية /براغماتية / بل سأحتفظ بهذه الالتفاتة النبيلة واللهفة الراسخة المختصرة بقصاصة لن يمحها لغم غادر أو تفجير آثم أو زمن متعاقب بالمراجل واستعراض العضلات المسلّحة ليس أكثر، quot;سعد الحريري quot; هو ذاك الشبل ابن الصُلب الأصيل، لم يكن أقلّ شهامة من أبيه عندما نشرت صحيفة quot;النهار quot; منتصف العام 2006 أي بعد خروج الجيش السوري وتأزم العلاقة اللبنانية ndash; السورية خبرا يخصّ وضعا صحيّا تعرّضتُ له وإذا باتّصالات من مكتب الحريري تنهال علي على مدار الساعة تخبرني أنّ الشيخ سعد الحريري مهتم شخصيا بوضعي الصحي وهو على استعداد تام لتحمّل كل ما يلزم ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل جاءني اتصال من طبيبه الشخصي الدكتور quot;عصام ياسين quot; والتقينا بناء على رغبة وتكليف واهتمام بالغ من قبل الشيخ سعد شخصيا، وكان لديه وافر الوقت ليصغي إلى كامل شكوكي واستفساراتي وقتها أخبرته أنني من دمشق، وليس لي أي غطاء سياسي محلي أو عربي أو دولي أو أي انتماء حزبي يبرر معروفه هذا أو ربما يحرفه عن مساره بحكم جنسيتي ربما، كان الرد بأسرع مما أتوقع عندما اختصر الدكتور ياسين القول: quot; أنا من الجنوب اللبناني وللدقة من الطائفة الشيعية تحديدا، ولكن الشيخ سعد يوليني الثقة والاحترام كما يوليها لأخيه تماما، ما من تفرقة عند الشيخ سعد، وما من تحيّز أو تمييز quot; وقتها رفضت أي مساعدة من أيّ نوع والطبيب quot;ياسين quot; يشهد، فقط طالبت بعملٍ يضمن لي راتبا شهريا أستطيع بموجبه حلّ كل الأزمات الصحية العارضة والمزمنة بعدما تمكّن دُعاة الظلام من إحكام دائرة التعتيم حولي وإقصائي عن كافة المنابر في بيروت التي يحتلّها مدّعون يباهون بتنصلهم المذهبي علنا ويبقون على معتقدهم الطائفي ضمنيا يدّخرونه للحظة فاصلة، وُعِدْتُ وقتها خيرا وكان لابدّ من الاتصال بالطبيب ياسين عقب التداول بالأمر مع الشيخ سعد الذي أبدى اكتراثا وحفاوة، غير أنّ المستجدات المتوالية أبرزها حرب تموز الغاشمة التي وقعت على لبنان جعلتني ألتزم التغاضي عن المتابعة وأتحفّظ بالتواصل، وأكتفي بالأمنية الصادقة لإنسان صادق اسمه سعد الحريري الذي آلمني حصاره مؤخرا شديد الألم وأغضبني مظهر العنف الطاغي اللا حضاري واللا مبرر كل الغضب، ولم أملك سوى سرديّتي هذه ليعرف العالم بأسره من هو الحقيقي يوم المُلمات في وقت لم يكترث أشاوس الثقافة في مدينتي غير التشهير الذي رددت عليه في حينه، وإذا كانت شهادتي هنا شهادة محض شخصية أطلّ بها على القارىء العربي من زاوية خاصّة ضيقة جدا ربما، فأحبّ أن أذكّر بحادثة مماثلة رواها لي أحد ضيوف برنامجي quot;اختلاف quot; على أثير quot;إذاعة صوت بيروت quot; الكاتب quot;أمين مصطفى quot; صاحب مؤلف quot;الإعصار quot; الصادر عن quot;دار الهادي quot; الذي يوثّق فيه لفصول وشهادات من أرض المعركة التي دارت عليها حرب تموز بين إسرائيل و حزب الله في تموز2006 كمقرّب من حزب الله ومن أمينه العام، أنه عندما تمّ أسر عنصرين وربما أكثر من حزب الله في المملكة الأردنية الهاشمية بتهمة تهريب السلاح إلى الأراضي الفلسطينية خلال حرب تموز فما كان من السيد نصر الله غير اللجوء إلى الشيخ سعد الحريري للتدخل الفوري واسترجاع الأسرى ، ولم يمض أكثر من أربع وعشرين ساعة حتى سافر الشيخ سعد إلى عمان وسط المخاطر والتهديد الإسرائيلي الضاري على الأراضي والأجواء اللبنانية وقام بالوساطة المُرجاة واستعاد عناصر حزب الله مصطحبا إياهم داخل سيارته شخصيا معززين مكرمين وهذه الحادثة يعلمها الحزب ومثقفوه قبل غيرهم بالتأكيد، وثمّة حكايات كثيرة عن شهامة الحريري ولهفته التي لا بدّ من حجبها عن المشافهة بين العوام وإغفالها عن الكتابة بين متفرّسي السطور، فكل من يذكر الحريري اليوم سهوا أم قصدا فهو بالضرورة عدو لحزب الله، وكنت في كلّ مقالة سابقة قد مررّت خلالها اسم الراحل رفيق أو الشيخ سعد أتلقى عشرات الرسائل عبر بريدي الالكتروني على أني ممن يتقاضون العطايا الباهظة من آل الحريري وأحبّ أن أطمئن الجميع أنني لم أتلقَ يوما فلسا واحدا من آل الحريري ولم أنتظر، فقط أنا أبادل اللهفة باللهفة، ومقالتي التي أكتبها في quot;إيلاف quot; ليست مشروطة على الإطلاق من أحد وليست مرهونة على الإطلاق لأحد كما يُحاول أن يشيع البعض، ولا عائد لها سوى حفنة نظيفة أعتزّ أنني أتقاضاها من إيلاف بحرية كاملة تلخّص quot;قناعتي quot; التامّة وquot;تحولاتها quot; إن وُجِدَت، والتي لن يبدّلها أو يعدّلها سوايَ، سواء راقت لزيد أو عكّرت صفو عبيد، وللذين يلعنون أميركا على مدار الوقت أقول ليت الطائفة الشيعية الكريمة تتنبّه إلى عدد المهاجرين الطامحين قبول أميركا لهم على أراضيها، وللاعنين دول الخليج والمملكة العربية السعودية تحديدا كذلك، كما وأؤكّد أنني لستُ ممن تعنيهم محبة أميركا يوما أو الهجرة إليها حتى لو قدّر لي أن أكون المستشار الثقافي في البيت الأبيض، ولستُ ممن تغريهم الهجرة إلى دول الخليج أو المملكة العربية السعودية ولو قدّر لي العمل كناطق رسمي باسم الملك عبد الله، كل ما أحلم به هو لبنان آمن لعاصمة وادعة اسمها بيروت، تبعد مسافة ساعة وثلث بدون عوائق وحواجز وحدود عن عاصمة مغتصبة من صورتها الأصيلة اسمها دمشق، كدمشقيّة أولا ودمشقيّة دائما ريثما أستعيد مكاني اللائق في عاصمة تكتظّ بالمتزاحمين من كل حدب وصوب تحت ظلّ quot;البسطار العسكري quot; والوساطة الحزبية التي أتت على الأخضر واليابس في كل مسام دمشق، باسم الدولة المؤبّدة التي لم أحابها يوما أو أطمع بعسل أشواكها في حال من الأحوال.
ولا يفتني هنا الـتأكيد على تحيّزي الفادح يوم آمنت بالمقاومة وقائدها على أنها مقاومة للطغيان حفاظا على الكيان الإسلامي العروبي أيّا يكن فأكبرت مع من أكبروا وباركتُ بعاطفةٍٍ وعقلٍ وقلب ونبضٍ وأعصابٍ كل خطاب قدّمه السيد نصر الله على امتداد الخارطة النضالية فاكتسبت عداوات ذوي قُرباهم قبل غيرهم كنتُ أفاخر وأباهي بها، ولم يخطر في بالي يوما أنّ هذا الخطاب يؤسس لquot;طائفة quot; تقوّي عودها لتلعن quot;طائفة quot; أخرى أعتزّ أني منها، فهل الإسلام كان quot;يزيدا أو عمرا أو عائشة رضي الله عنها quot; أم أنّ الإسلام عدلا ونورا ودستورا بشريا حمله رسول الله /ص /لإنصاف البشرية ومراعاة حقوقها ومصالحها بالإحسان، أليس الله يحبُّ المحسنين؟.
فهل أحسنت المقاومة بنزولها الشارع اللبناني وتوجيه عتادها الثقيل والمتوسط على مسامع الأطفال في المنازل؟
بئس السياسة التي لا تترك في وجداننا غير طعم العلقم، والحصرم في أحسن الأحوال.
بئس النضال الذي يرهبنا ويرهب الأطفال ويكوّرنا كالقنافذ داخل جحورنا لنفكّر مليّا بالفوارق الواضحة بين عدوّنا الخارجي المتربّص بأرضنا، وعدونا الداخلي المتربّص بأدقّ موروثنا للتكفير والاتّهام والإدانة.
يا لتعاسةِ quot;سُنّيتنا quot; حين تربيّنا على العفوية والتلقائية وبياض السريرة لنربّي أطفالنا على الإيثار وحبّ الغير، في زمن يعجّ بثقافة الحقد وثقافة الثأر وثقافة الدمّ المحلل إزهاقه بين المسلمين.
أرفع كفيّ إلى الله لينظر مآلنا ومآل الإسلام بين quot;المتزاعمين quot;عليه، وأرفع حرفي إلى المجهول لأُلعن وحدي.... أشكر كلّ الذين نصحوني بعدم نشر سرديتي هذه احتسابا لما نحن عليه من فوضى، وأشكر الله الذي أعانني على مجازفتي وجنوني.
www.geocities.com/ghada_samman
[email protected]
[email protected]
التعليقات