كم من الوقت يلزمك كي تبدو راضيا أمام مرآتك، تقف في الطابور خلف شخوصك المتعددة تُبارك هذا وتلعن ذاك، حتى تصل إلى ماتظنّه حقيقتك وإن بعد حين؟!.
وجها لوجه أمامكَ وحدك، وخلف ظهرك أكداس الماضي تستحضرها لحظات وتغصّ مختنقا بالزمن الباهظ الذي تسرّب من مسامك ولم يترك لك غير قليل من زهو وكثير من ضجر.
تُذهلك خطواتك التي تُسابقك بلا هوادة، تُرهقك، تُسمّرك مكانك على أمل الإنطلاق نحو الأفضل، فالأفضل، فالأفضل، الذي يُلاحقك كهاجس موتور، تخاله قريبا كظلّك
لتدرك أنّ الأفضل على مرمى كوكب لم يتشكّل بعد، كوكب قد تجد فيه أملا، شغفا، شغبا، أحبّةً، ملاذا، أمنا، ووطن !
بدأ الحلم الجميل مع تميّزك على زمانك، تفاقم الحلم الجميل مع تميّزك على ذاتك، تعاقب الحلم الجميل، حبرا، ومعان، ومبان، ومواقف، وجرأة، وخيبات، وأخيلة، وحروف وافرة ومهدورة كمواسم تشرينية.
لديك فسحة للنشر هنا، وحيّز إطناب هناك، تصفيق مارق مُتكلّف، وتدبيج إطراء قد يعنيك، محاط أبدا بعناية السخط المتزامن مع تهافت المعجبين المرتدّين على أعقابهم عنك تارة وإليك أخرى.
كل ذلك كفيل بالانتفاخ وحريّ بالتوّرم ، هكذا الحال لديك ، وهكذا كان من الممكن أن يكون الحال لدي تماما، لكنّ بساطة أميّ التي هربتُ منها دهرا غلبتني، وجعلتني امرأة بغرور هشّ، وتباهٍ أبكم، وتفاخر أصمّ، خاوية الوفاض إلا من ثقتي بحروفي التي لا تقلّ نموّا في داخلي عن قمم الهيمالايا.
هكذا أتيت، وهكذا آثرت المضيّ دائما، محكومة بأمزجة الجغرافيا وخصوصيتي في غربلة رقيّ العواصم حيث لا شارات مرور بين المثقّف والجاهل، وحيث تندر الحدود الفاصلة بين النساء اللواتي لا يميّزن بين غسيل الصحون وغسيل الأفئدة، حيث تعدم التصاريح الأمنية بين الجِملة المفيدة والذكور المجترّة، حيث لا خريطة للطريق المرصوفة بالتعدي، وليس من ملصقات للتحذير وإن على عجل لمن نكتب ولمن نرفع الصوت نادرا والصمت باستمرار؟. الأخطر من هذا كله ضرورة البحث عن راعٍ، راعٍ يؤمن بالعقل لا بالعصا، راعٍ يؤمن بأهمية القطاع بعيدا عن حسابات القطيع، راعٍ يقدّس مفهوم الوطن، ويترفّع عن فكرة الاستيلاء الأرعن، والسلطة العمياء.
هكذا أراوح حبيسة الزمن المركّب بين عاصمتين مُتناقضتين، هكذا أتخبّط ضمن حدود المعنى المفقود لمفهوم الانتماء، هكذا أتهاوى صريعة وهم الاستقرار وطمأنينة المُرتجى، فكم شائك هو توصيف العلاقة بينهما، ومربك تصوير الوقائع، كم مخجل ترويج الشائعات، ومملّ رصد الحقائق، ومع ذلك لا يسعنا إلا أن نُدرك أنه بين بيروت ودمشق ثمّة مسافة شاسعة للتناغم والالتباس، بين بيروت ودمشق ثمّة محطة إقلاع للتحليق الخائب والمراوحة القاتلة، بين بيروت ودمشق ثمّة مواطنون كُثُر تُربطهم كل مشاعر الحب والحقد والغلّ والسلام، ثمّة مثقفون يتبادلون سرّا وعلانيّة الكلمة الخفيّة لدخول العالمية وإن من الباب الخلفي لدائرة الضوء، ثمّة تجّار مشاعر يلعبون على بورصة العواطف الشاخصة بين البلدين يستغلون فراغ الأفئدة والجيوب، يستثمرون إفلاس الأمل ويستصلحون يباس المرحلة بتعميق الشروخ، وعلى امتداد التصدعات تنشط الأعشاب المرعية بالسياسات الخبيثة، المخصّبة بالأطماع، والمسمّدة بالسموم، ولبنان وحده بين quot;مزدوجين ومتجاوزينquot; رهن الخلافات الدولية والإقليمية والمحلية، رهن الطوائف والأحزاب والمذاهب والمصالح والغايات، رهن الأطماع التي لا تُبقي ولا تذر على أي بصيص نزاهة لأحد على الإطلاق، فهل أكتب عن هذا كلّه.. عن الأغلفة المغلقة والمتداولة بين صرحٍ ومجلسٍ ومبعوثٍ ومهووسٍ ومسؤولٍ ومتعدٍّ ومُتطاولٍ ومُتطفّلٍ ومعنيٍ حقيقيٍّ ومراوغ؟.
هل أكتب عن مسرح الدمى المُسيطر على مفاصل المدينة، ومسارح الدمّ المنذور للنتائج؟.
هل أكتب عن سأم المواطن؟، عن هلع الأمهات؟، عن حذر الشوارع؟، عن وجوم الأرصفة؟، عن دموع الجدران التي تحصي عبثا عدد أيام المغدورين بسبحة ألكترونية؟
هل أكتب عن وصلات الأخبار التي quot;تفسرّ الماء بعد الجهد بالماء quot;؟
هل أكتب عن هؤلاء الصامدين بيقين والشامخين بإيمان، هؤلاء العازمين على توفير الأمن، رغم أنف كل العابثين بأمان البلد، الذين لا أملك لهم سوى يد مهزوزة ألوّح بها تلويحة عابرة عند كلّ حاجز ومفرق ومصفحات عسكرية تتمركز عند منعطفات الطرق ومفارق التاريخ المرّ، تسوقنا قُدُما نحو المجهول؟.
سألني صديقي المثقّف والطيب جدا، وما دخلك أيتها الدمشقية بالمصير المنتظر لمَ لا تتركي بيروت وشأنها؟ وقد تغاضى هذا الطيب جدا أنني أنتمي إلى بيروت بحكم العِشرة والحبر والحرف الشاهد بيننا، بحكم العقد والنصف من الزمن والمواقف والخيبات، بحكم الانتظار لجدية الحكومة وجدواها علّها تنهض من سُباتها لتنتقي quot;رعاياها quot; بجدارة، وتعي بحنكة وحكمة معنى أن أرفض غوغائية quot;التجنيّسquot; وعشوائية الانتماء يوم أفتُتِح الباب للتزاحم، تحت عباءة السلطة المُستعارة، والأمن الملغوم، وقبل أن أسمع جواب صديقي المثقّف الطيب جدا استودعته سؤالي ومضيت، تراني لو حملت ورقة التجنيس مع من حملوا، هل بوسعك أن تعتبرني وقتها معنية بالوضع اللبناني وأمنه، وبيروت وشأنها؟
أجزم أنّ الكتابة عن رئيس مُنتظر للبنان هو ضرب من ضروب الإدّعاء المكشوف أو الغباء المغْرض، خاصّة وأنّ جميع الأقلام وفي مجمل المنابر مُستلّة من غمدها إمّا للطعن بهذا أو للإشادة بذاك، وأنّ أي تحليل موضوعي لمنطق الأمور الحالية، سيأتي فارغاً من المنطق نظرا لانعدام منطقيّة الأمور الحالية أصلا، لهذا آثرت الكتابة من ذاتيّة مشوشة تُشبه جملة وتفصيلا ذاتيّة الراهن المشوش بضراوة.
ولو قدّر لي فسحة مختلفة للبوح لا مُخلّة للاتزان في وقت ملائم للتفكير، وليس للتكفير كالذي يتربّص بنا، لدوّنت علنا شغفي بquot;بطرس حربquot; ليس لأنه يندرج تحت لائحة التقويم السياسي من السنة quot;الحريريةquot; بل لأنه وباختصار شديد رجلٌ يليق بكلمته وحضوره ورأيه ورؤيته وفكره وحواراته المعتّقة في خوابي المنطق، رجلٌ يحرّك كافة كثبان الأمل الهامدة في صحراء كينونتي وكياني، يحرّك مداراتي العاطلة عن الاكتراث لأكترث ولاستعيد إصغائي وانتباهي ومواطنيتي quot;المكتسبةquot; وأنوثتي المنسيّة. أكتب وياله من فعل منافٍ للحكمة أرتكبه بدافع الهلوسة في زمن الخوف، تحت وطأة البرق والرعد والمراوحة وانهمار التصاريح الكاسحة للطمأنينة كهذا الشتاء المُبكر، والانتخابات المؤجّلة منذ سقوط الاحتلال والاحترام بين كافة الجهات الرسمية. أكتب ولم يبق في الطابور سواي بعدما انتحرت كافة quot;شخوصيquot; لفداحة المرحلة وضآلة مرآتي المهشّمة التي تعكس الواقع الآثم بدقة مُتناهية.
أكتب لأحدٍ قدْ يحلو له أن يقرأ فعلا، وإن بعد حين.

www.geocities.com/ghda_samman
yahoo.com@gaidoushka